ثريا الشهري
يقول غاندي: «حينما أشعر باليأس، أتذكر أنه على مر التاريخ، لطالما كانت الغلبة للحقيقة والحب. صحيح كان هناك طغاة وقتلة، ولوقت قصير بدا أنهم لا يقهرون، لكنهم في النهاية سقطوا.
فكِّر في هذا دائماً حين يساورك الشك بأن الله أراد العالم هكذا... فكِّر في هذا وبعدها حاول القيام بالأمور على طريقته هو». ولن أزيد على كلام غاندي إلاّ فئة الجهلة التي وقعت سهواً. فهناك طغاة وقتلة وجهلة، ومن الجهل يتولّد كل غث، ومن الجهل يتفاقم الطغيان والقتل. وسؤالي إلى القارئ: كيف تتصور شعور الكاتب واستعداده للكتابة وهو يطرق المواضيع المعادة لأنها على حالها.. المواضيع التي هو نفسه لاكها وعجنها وخبزها؟ محاولاً مع كل كتابة إضاءة زوايا يعتقد أنها معتمة أو لم يتناولها بعد؟ وبالتصعيد مرة، وبالترغيب والتقريب مرات، وبكل الأساليب الممكنة لعله يلفت نظر أحد، أو يقنعه بالنزول عن صخرته. ولكن القارئ متشبث بمكانه المتحجِّر في الجهة المقابلة، ملوحاً بالصحيفة حتى إذا تأكد أن المعني رآه، رمى بأوراقها في الهواء ومعها رسالته: «هذا هو ردِّي على فكرك أيها الكاتب».
يقول برنارد شو: «إذا كانت لديك تفاحة وأنا لدي تفاحة، وتبادلنا التفاح. فما زال لكل منّا تفاحة واحدة. أمّا إذا كانت لديك فكرة وأنا لدي فكرة، وتبادلنا الأفكار، فستكون لكل منّا فكرتان». إلاّ أن اللافت أننا العرب إنما نتحرج من تبادل أفكارنا. وقد نصدِّق غيرنا ونوافق فكرهم، ولكن ليس من السهل علينا نقل هذا التبني إلى العلن. فمعناه أن فلان جاء وصوّبني، أو سد نقص معرفتي. فمن يكون هذا الفلان لأمنحه الفضل! طبعاً إن كان ميتاً، فلا بأس حينها أن أعترف بتنويره. أمّا إن كان حياً يرزق، وإن كان من الزملاء أو من إحدى النساء، فالمسألة تحتاج إلى حنكة ومواربة. فلا أقول أنني ضد، ولا مع. وإن كان لا بد من الضد، فلا مانع من استثناءات (استراتيجية خط الرجعة) مع تغليفها بما «يشبه» قول الزملاء. يعني شبه من بعيد. حتى لا يُفتضح أنه رأيهم وأنا استعرته منهم. فلن ينالوها مني. أمّا الخبر الأكيد فهو أن: أغلب أدمغة العرب تعمل بهذا الميكانيزم.
لذلك نحن لا نتعلم بسرعة، ولا نتغير بسرعة، ولا نتطور بسرعة. ولكننا نتطاحن بسرعة، ونتقاتل بسرعة، ونتخلص من بعضنا بسرعة. فلم كل هذا؟ لأننا شعوب غوغائية انفعالية، لا تعرف أن تحكِّم عقولها بما يعود عليها وعلى مجتمعاتها بالمصلحة. وما لم نتخلص من هذه الانفعالات التي تعوق التفكير المنطقي العملي الموضوعي لن نصل إلى حلول جذرية لتحدياتنا. وها هي – كأقرب مثال - إسرائيل المزروعة بيننا منذ أكثر من 60 عاماً. لا نعرف عنها وعن حياة أهلها ومناهج أبنائها، اللهم سوى كلمتين عن وعد بلفور حفظناها ومللناها. فلا ندرس تاريخها ولا سياساتها ولا ولا... بينما في المقابل تجدها تتعمق بكل بلد منا على حدة. وهب أننا اعترفنا بجهلنا، فهل فعلنا شيئاً إزاءه؟ فأن نعترف بعيوبنا لا يعني شيئاً، إذا لم نحاول التغلب عليها. والغريب أن الوجدانيات التي تغلغلت فينا واستقرت ليتها أديرت بما ينفعنا، ويعظم من تاريخنا من ناحية الفنون الإنسانية التي تتغذى على المشاعر والأحاسيس. فأن نكون بهذه العواطف الجياشة ثم لا نترجمها في مساراتها الطبيعية، ومن نوصمهم بالبرود والبرغماتية هم من يتفوقون عالمياً في فنونهم بأنواعها، هنا لا بد أن نتوقف! فعندما مات عباس بن فرناس محاولاً الطيران انشغلنا بالسؤال هل مات شهيداً أم منتحراً. بينما تساءل الغرب: هل يمكن حقاً أن نطير؟ لذلك هم تقدموا، ونحن لا نزال نلحق بهم.
فكما يقول المفكر محمد أركون: «يكفي أن تغلِّف أية فكرة بصبغة دينية، حتى تقنع العرب باتباعك». وهذا صحيح، إذ استغرقنا في الصراعات العقائدية والطائفية والفقهية عن كل ما سواها. وفي بالنا أننا نطبق تعاليم الله، ونحن لا نطبق سوى فهمنا القاصر والمتحيز والأناني لهذه التعاليم، فهل نطرد الجهل بجهل أكبر منه؟ هذا ما نكرره تاريخياً إلى اليوم. وفي كل مرة نتوقع نتيجة مختلفة. فماذا إن عملنا بقول تشرشل: «حارب عدوك بالسلاح الذي يخشاه، لا بالسلاح الذي تخشاه أنت»؟ فهل فكرنا بهذا؟ أكاد أجزم أن القارئ في باله الآن أكثر من إجابة. وهذا حسن. فانتق وابدأ وهذا هو جهادك، وهذا هو فخرك. أمّا بندقيتك فياليتك تنحِّيها ومعها تحفظ دمك. فليس بموتك ستتصدر، ولكن بحياتك وفكرك وبنائك. والاحتمال الأكبر أن يقرأ القارئ المقالة – هذا إن قرأها - ثم ومن فوق صخرته يرمي بها مع الريح. وتلك هي نهاية القصة. مع تفاحة واحدة لكل منّا.
919 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع