علاءالدين الأعرجي
-'''على هامش تغيير أمريكا موقفها من المستوطنات '''
-'''نظرية سبنسر،في معركة تنازع البقاء وبقاء الأصلح أو الأقوى؛'''
-'''هل خسر العرب المعركة؟'''
في مقابلة مع إحدى المحطات الفضائية في مصر في مايو/ أيار المأضي، سألني منظم البرنامج رأيي في الإدارة الأمريكية الجديدة، بالنسبة للقضية العربية، بصفتي مقيما في أمريكا ، فأجبت بأننا نحن العرب نتشبث بالقشة غالبا، فالإدارة الامريكية ربما تكون أفضل من سابقتها في معالجة بعض القضايا الساخنة، ولكنها ستظل تحابي إسرائيل على حساب العرب، ولا تتخلى عن دعمها غير المحدود لها، لاسيما وإنها مضطرة إلى ذلك بسبب ضغط بعض الرأي العام الأمريكي وأغلبية أعضاء الكونغرس و ضغط اللوبي الإسرائيلي "الايباك"، ودور اليهود بانتخاب الرئيس، وأسباب أخرى تتعلق بالتشابك في المصالح الاقتصادية والاستراتيجية.
وقد ثبت الآن أن الإدارة الأمريكية لا تدعم إسرائيل فحسب، بل تتبعها وتخضع لها ، بدليل تحول رأيها، 180 درجة، في قضية وقف إنشاء المستوطنات، ، بعد أن أصر نتنياهوعلى المضي في بنائها وتوسيعها. نظرية صراع البقاء وبقاء الأصلح.
النظرية التي طرحها الفيلسوف والعالم البريطاني هربرت سبنسر H.Spencer 1820 ،1903 في تنازع البقاء وبقاء الأصلح، المتأثر بنظرية تشارلس دارون، منذ أكثر من مائة عام ، والتي طبقها على المجتمع، هذه النظرية يمكن ملاحظة شواهدها كحقيقة ماثلة وصارخة على المجتمع العالمي الذي نعيشه اليوم: بمعنى أن "القوي يأكل الضعيف". علما أننا نرفض ونشجب بشدة بعض نتائجها غير الإنسانية التي تبرر معاناة الفقراء والأشقياء بل وفناء الضعفاء. ولكننا يجب أن نعترف، من جهة أخرى، ببعض نتائجها التي تنطبق علينا كعرب، مما قد يحثـّنا على النهوض والمقاومة وشحذ الهمم وحشد جميع الطاقات والجهود، لاستعادة قوتنا ومركزنا ، وإلا فإن النتائج ستكون وخيمة. وربما ستؤدي إلى انقراضنا كأمة لها كيانها الموحد : لغتها وثقافتها وتراثها وتاريخها وتطلعاتها ووحدتها المعنوية والجغرافية. وانقراض الحضارة ليس غريبا على التاريخ البشري، فقد انقرضت قبلا 14 أمة/ حضارة سابقة، كما يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، في كتابه دراسة "للتاريخ". كما ينصح هذا المفكر، في كتابه "العالم والغرب "، شعوب العالم الثالث( بما فيهم العرب )، أن يحاربوا الغرب بنفس أسلحته. ويقصد بها العلم والتكنولوجيا والتقدم الأقتصادي وبالتالي القوة المادية والمعنوية. ومع أن توينبي من أعدل أنصار القضية العربية، في الغرب، وكان قد تنبأ في منتصف الستينيات من القرن الماضي، تحقيق الوحدة العربية في منتصف
السبعينيات منه، غير أنه يعتبر الحضارة الإسلامية، بما فيها العربية، التي تشكل نواتها، في طريقها إلى الاندثار، في كتابه "دراسة للتاريخ"، الذي شرع فيه عام 1920، وأصدر المجلد الثاني عشر في 1962.
قانون الغاب: القوة
الصراع الذي يخوضه العرب مع أمريكا وإسرائيل، منذ عشرات السنين، يمكن تأصيله وتجذيره في ضوء نظرية سبنسر، باعتباره صراعا حضاريا قائما على تنازع البقاء وبقاء الأصلح والأعلم، وبالتالي الأقوى. فهذا العالم لا يفهم إلا لغة القوة، ولاسيما القوة القائمة، في العصر الحديث، على العلم والمعرفة والتطور، وما ينجم عن ذلك من قوة مادية ومعنوية، بما فيها من قوة عسكرية واقتصادية، فضلا عن إتقان قواعد اللعبة السياسية والدبلوماسية. ويعتمد هذا الإتقان بدوره، على مدى الوعي الحضاري، والتمرس في الكرّ والفرّ على الصعيد السياسي والدبلوماسي. ولنا من سياسة تركيا اليوم مثالا حيا على هذا التكتيك، فضلا عن المسيرة التاريخية لإسرائيل وخططها الجهنمية للاستيلاء على الأرض العربية. ومن يقرأ ، من غير العرب الذين يفهمون التاريخ، كتاب بنيامين نتنياهو، " مكان تحت الشمس" المترجم إلى عدة لغات، "يقتنع تماما " أن العرب هم الذين اغتصبوا " أرض إسرائيل التاريخية"، التي تشمل، على الأقل، كل أرض فلسطين بما فيها الضفتان الغربية والشرقية لنهر الأردن(أي يدخل فيها القطر الأردني، إذ يقول بصراحة أنها جزء من أرض إسرائيل التاريخية ). وليتوقع العرب أن يأتي اليوم الذي تطالب فيه إسرائيل بالأردن. لذلك فإن وجود العرب في الضفة الغربية والشرقية غير شرعي أصلا. وإسرائيل تكون متفضلة إذا منحت لعرب فلسطين جزءا قليلا من الأرض، شريطة أن يخضعوا لمبدإ
" ياغريبْ كـُنْ أديبْ ". وهو يقول في ذلك : ". . . إن اليهود لم يسلبوا العرب أرضهم إنما العرب هم الذين سلبوا أرض اليهود" (الترجمة العربية ص 86)
الرأي التاريخي يكون صحيحا من الناحية العملية، بمقدار قوة صاحبه وبأسه، لأن بإمكانه أن يفرضه بالقوة، متى شاء. والرأي السياسي المعتبر، لن يأتي من فراغ، بل يجب أن يكون مدعوما بقوة الدولة/ الشعب الحضارية: العلمية والاقتصادية وبالتالي العسكرية، فضلا عن وزنها السياسي على الصعيد العالمي، الذي يعتمد بدوره على العوامل السابقة ، وإلا سيعتبر كلاما فارغا. لذلك نلاحظ أن مفاوضاتنا مع إسرائيل كانت ولا تزال عبثية، وستظل كتفاوض الحمل مع الذئب.
كنا صغارا في الصف الرابع الابتدائي، حينما نشر معلم درس "الأشياء" صورة كبيرة ملونة، أخذت مساحة السبورة، تمثل غابة وذئب يقف على حافة غدير وكأنه يهم بالشرب، وبعيدا عن الذئب على الجهة المقابلة، نرى حملا صغيرا يشرب الماء، بينما يجري ماء الغدير من جهة الذئب إلى جهة الحمل. ومع ذلك يصرخ الذئب مهددا الحمل" أنت تعكر عليّ صفو الماء". يقول توينبي:" القطر المزدهر أوالمتقدم حضاريا يستطيع أن يجعل صوته مسموعا". إن التطبيع مع إسرائيل ، أصبح مسألة وقت فقط، وقد لا يكون بعيدا بل أقرب من حبل الوريد. فبعض الدول مُطبـّعة، أو بالأحرى مطوّعة، رسميا، وأخرى عمليا. وفي هذه الحالة ستتحق تبعية الدول العربية المُطبعة(أو التي تسير في خط التطبيع )، لإسرائيل القوية ماديا ومعنويا، عسكريا وعلميا وتكنولوجيا؛ بشكل مباشر أوغير مباشر، ولاسيما الدول النفطية الضعيفة، التي يسيل لعاب إسرائيل لعسلها الأسود، إكسير حياة الشعوب والدول. ومقابل ذلك ستعرض عليها إسرائيل حمايتها من " البعبع" الإيراتي الشيعي
المفترس، فتضرب عصفورين بحجر واحد. والسؤال الكبير لماذا خسرنا معركة تنازع البقاء، فوصلنا إلى هذه المرحلة من الخضوع والخنوع والمذلة؟ أنا أقول أن السبب الرئيس في ذلك هو تخلفنا الحضاري، وتقصيرنا العظيم في اللحاق بمسيرة الحضارة العالمية المتفجرة. لذلك أوافق المفكر قسطنطين زريق حين يقول:
" لاجدال في أن هذه العلة الأساسية – علة التخلف- هي مبعث العلل الأخرى التي انتابتنا ومصادر المصائب التي حلت بنا . فلولاها لما خضعنا أصلا للاستعمار ولما تفشى فينا الفقر والجهل، ولا نكبنا بفلسطين، وفي غيرها من الميادين، ولما تعثرت خطانا في طريق التعاون والاتحاد"("في معركة الحضارة" ص390 ط4 ، 1981). ومع أن قسطنطين زريق، صرح بهذا الرأي بصيغ متعددة تدور في هذا المعنى في مختلف مؤلفاته السابقة لاسيما كتابه "معنى النكبة" الصادر في عام 1948، حيث يقول بين أمور اخرى: "يجب أن نتخذ خطى عديدة تقلب حياتنا من أوضاع القرون الوسطى إلى وضع العصر الحديث"( الأعمال الكاملة، مركز دراسات الوحدة العربية ، المجلد الاول ص230) ، أقول مع ان هذا التنبيه أطلق منذ 60 عاما، لم يحسن العرب أوضاعهم، بل ظلوا يتشدقون ويكابرون ويتهمون الآخر. بل سيظلون يلهثون وراء حقوقهم السرابية بلا جدوى، ما داموا ضعفاء جهلاء ولا اجسر ان أقول أغبياء. فما داموا يطلبون العون من "الآخر" في الخارج، ويتوقعون ظهور "المستبد العادل" من الداخل، فاقرأ عليهم السلام . نعم، للغرب دور سلبي سياسي مثبط أو مانع، ولكن لولا ضعفنا لما استطاع منعنا، فضلا عن أنه كان يمكن أن يشكل دافعا لمضاعفة الجهد والعمل، لولا كسلنا وتواكلنا وضعف أنظمتنا. كما أنه كان بإمكاننا أن نستفيد من مؤسساته العلمية والتنظيمية والتكنولوجية بشكل
أفضل، " خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت"، لولا أننا أخذنا مظاهر ذلك الغرب، وأهملنا مخابره، فأصبح لنا مثلا 350 جامعة لم تدخل اي منها في المائة الأولى لجدول التنصنيف العالمي للجامعات.
وفي أثناء تلك العقود الطويلة والحاسمة ارتفعت نجوم دول أخرى، كانت أكثر تخلفا منـّا، في منتصف القرن الماضي، فأصبح لها مكانة وصوت على المستوى العالمي، منها على سبيل المثال: الهند والصين وماليزيا وتايلند وكوريا الجنوبية وسنغافورة. وعلى الإتجاه المعاكس، أظهرت تقارير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية، لاسيما تقرير 2002، مدى تخلف العرب حتى بالنسبة لبلدان العالم الثالث. أما إسرائيل فإنها تتفجر علما ً ومعرفة وتقنية. فقد أصبحت تصدر منتجاتها التكنولوجية إلى روسيا، بما فيها الطائرات بدون طيار ذات القدرات التقنية العالية، التي لابد ان روسيا لا تتمكن من إنتاجها . ومن يقرأ بعض مجلدات"خطة إسرائيل التفصيلية لمستقبل الدولة والمجتمع؛ لعام 2020"(17 مجلدا )، يفهم أين ستصل إسرائيل في عام 2020. فمن المقرر أن تحتل إسرائيل المرتبة السادسة إلى الثامنة، من مجموع 24 من أكبر الدول المتقدمة اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا في العالم ، وبذلك تصبح إسرائيل دولة صناعية عظمى.( انظر الترجمة العربية للتقرير،المجلد الأول، ص59 من المقدمة). يقول أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1999:" لن يصبح هناك مكان في القرن الجديد للمتقاعسين أو الناقلين، وسيكون البقاء للأقدر. وقد ينال البقاء عددا من من غير العاملين ولا المقتدرين ولكنه بقاء كالرحيل ووجود كالعدم"(" عصر العلم" ط 8 ،2008، ص 212)
ومع ذلك، يظل السؤال الكبير حائرا: لماذا تقدمت مجتمعات آسيوية أخرى كانت أكثر تخلفا منّا ، بينما تزايد تخلف العرب؟
حاولنا الإجابة عن هذا السؤال في كتاب"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"(الذي صدرت طبعته الثالثة هذا العام). ولئن رفضنا يقول به بعض المستشرقين والكتاب المتحاملين، بشأن التفوق الطبيعي لبعض الأجناس، ولاسيما بالنسبة للعرب الذين بنوا حضارة شامخة في القرون الوسطى، كما تفوق مئات الألوف منهم في بلاد الغرب؛ و بعد أن شرحنا مؤشرات تفاقم الوضع العربي العام الذي ربما يقود إلى هاوية السقوط فالانقراض؛ ونبهنا إلى أنه كلما تزايد حجم وعمق الفجوة الحضارية بيننا وبين الآخر، تزايد حجم وعمق سيطرة ذلك الآخر على مقدراتنا؛ أقول بعد كل ذلك، حاولنا بحث الأسباب الجذرية التاريخية لظاهرة تخلف العرب الحضاري الراهن، استنادا إلى نظريات عامة تعتبر جديدة، تنطبق على جميع المجتمعات، من أهمها نظرية " العقل المجتمعي" ونظرية" العقل الفاعل والعقل المنفعل". الأولى تفسر الظاهرة وتـُجـَذ ِّرَها، والثانية تحاول معالجتها.
مقالة منشورة في صحيفة "القدس العربي" في 20 /11/ 2009
محامي وباحث مقيم في الولايات المتحدة
823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع