
عائشة سلطان
مسار اللؤلؤ
هل تجيد الإصغاء لصوت الزمن وهو يحدثك عما كان وعما حدث؟ عن حكمة البحر وصبر البشر وصناعة الحياة من أندر الأشياء وأجملها؟ إذن تعال وأطلق لنفسك العنان وتجول في الأجزاء القديمة من المدن الساحلية، التي لا تزال تحتفظ بروح الأيام، عبر مشاريع حفظ الذاكرة، كمشروع مسار اللؤلؤ التراثي في البحرين، ستجد نفسك أمام حضارة لم تصنع من طين الأرض وبساتين الورد وتماثيل المعابد وأسفار الفلسفة، بل هي نوع آخر مختلف من الحضارات صنعه أجدادنا ولا يزال ماثلاً يحظى باهتمام الأبناء والأحفاد المنتمين لماضيهم وجذورهم.
إن أهلنا الذين سكنوا على السواحل والضفاف صنعوا حضارة قطفوها من فم الموج، ومن روح المحار وأعماق البحار، حضارة جالت العالم، وتصارعت عليها دول عظمى، تلك هي حضارة اللؤلؤ وتاريخ البحر.
وفي البيوت التي أعيد ترميمها في المحرق بزغ مشروع مسار اللؤلؤ، الذي يمتد ثلاثة كيلومترات ونصف، مشيته وأنا ممتلئة بالدهشة والإعجاب، فاستمعت بقلبي لأحاديث الرجال والنساء، وصلتني همهماتهم عبر الغرف، وصفقاتهم في المكاتب المغلقة وحكايات الغواصين والطواشين والنواخذة، فتذكرت الكثير من الحكايات التي سمعتها ذات زمن من جدي وأبي وخالي، الذين جابوا الموانئ والمدن، وباعوا واشتروا وتاجروا.
في مشروع مسار اللؤلؤ، الذي تولت تأسيسه والإشراف عليه الشيخة مي الخليفة، رئيسة مجلس أمناء مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في قلب مدينة المحرق، نقف أمام ذاكرة عظيمة جمعت من خلالها كل إرث البحر والبحارة والغوص واللؤلؤ عبر منازل وبيوت تعود لأشهر عائلات البحرين التي عملت في هذا المجال، ولقد أتيحت لي الفرصة أن ألمس هذه الذاكرة وأنصت لها بعين القلب؛ القلب المحب الذي له من كل هذه الذاكرة نصيب يمتد من الإمارات إلى البحرين جيئة وذهاباً.
مشروع الشيخة مي الخليفة الثقافي المدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي لا يعيد بناء البيوت، بل يعيد تعريف علاقتنا بها، فالمكان في هذه الرؤية ليس خلفية للحدث الثقافي، بل هو الحدث نفسه.
مسار اللؤلؤ أكثر تجليات هذه الفكرة صفاءً، إنه مسار لا يرفع صوته، لكنه يتجذر في قلوب من يعبرونه بوعي ومحبة.

1316 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع