د.هاشم عبود الموسوي
بعد المسرحية الكوميدية الأخيرة التي أداها أعضاء مجلس النواب ، بعدم قدرتهم على التصويت على مشروع البنى التحتية.. وبعد أن قامت بشكل متكرر، من قبل ، مكوناته المتصارعة ،على المكاسب (وبلا إستثناء) بتعطيل قوانين مهمة أخرى ..
ماذا نستطيع أن نقول .. ألا تكفي هشاشة السلطة وقصورها الفاضح على تلبية أبسط ما يمكن عمله من أجل حماية شعبها بأن تجعلنا نكشف هالات الزيف ونمزق أقنعة الوهم التي بدأ يرفضها كل أبناء المجتمع .
تحت وطأة كل هذا ماذا عسانا إن نفعل غير أن ننتظر عودة "غودو " .. ربما يكون هنالك فرجا عند قدومه .
ولكن من هو غودو ؟ ولماذا نحن في إنتظاره ؟ .. وهل سنستسلم أخيرا لواقع مرير بأنه لن يأتي أبدا ؟
تعالوا أولا نتعرف على " غودو ".. ففي خمسينيات القرن الماضي ، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية و آثارها الكارثية على شعوب العالم.. ظهرت تداعيات جديدة لدى شعوب الأرض يغطيها الألم المبرح والشعور باليأس ، وعدم جدوى الإنتماء ، وخيبات أمل خانقة وظهور الفجوة بين الثقة المعنوية ورفض المعتقدات الدينية وكأن الكوكب الأرضي أضحى بلا منطق وغير معقول ، وكانت كل تعريفات الناس تشير الى اللامعقول . وسط هذه الظروف تولدت إتجاهات جديدة في الكتابة المسرحية . كان رائدها المسرحي الأيرلندي "صاموئيل بيكيت " ، والذي عبر من خلال كتاباته الدرامية عن اللامعقولية و واللامنطقية للوجود الإنساني ، وقد إبتكر مسرحا جديدا أسماه ( مسرح اللامعقول ) الذي عبر من خلاله عن شعور الإنسان بالإغتراب والنفور والعزلة وغياب وعبث الموضوعية ، واللامعنى لنضال الأفراد في سبيل تحسين حياتهم ومعيشتهم ، وأوقع شخصيات مسرحياته في شرك أوضاع لا يستطيعوا أن يهربوا منها .. لم يعتمد في مسرحه على قصة تتطور أحداثها مع الزمن .. كل شئ على خشبة المسرح ساكن .. لا يحدث أي شئ .. الشخصيات تتفاعل من أجل مرور الوقت .. ويكاد يكون الصمت لديها مثل الكلمات .. يتصارعون من أجل اللاشئ ..يلبسوا وينزعوا قبعاتهم و أحذيتهم .. يتكلمون ولكن ليس من أجل إيصال أي شئ .. ربما لملئ الفراغ بالوقت .. لا تطور عبر الزمن .. يريدون أن يذهبوا و لكن دون حراك .. الكل منشغل في مناداة إله مجهول أسموه غودو.. حالة لا يمكن تحملها .. كلهم منتظرون لغودو .. الذي لا يأتي و لن يأتي ..
ونحن اليوم وبعد عشر سنوات من إنتظار ولادة عسيرة لسلطة لا تفهم ما نريد .. ولا ما نكتب .. وبعد أن تيقنا بأن لا جدوى من كل ما نتمنى .. فأصبحنا نحن في واد .. وهم في واد .
نحن مضطرون الى إنتظار غودو ، بعدما برزت طبقة جديدة خلال العشرة سنوات الماضية .. صعدتْ صاروخياً بعد التغيير الذي حدث بالعراق في عام 2003 . ومجموع هذه الطبقة ، يُشّكلن " حسب تقديرينا " .. 10% من المجتمع ، ويتصرفون حسب تقديرينا أيضاً ، ب 90% من الثروة .
ان الخلل الإجتماعي الكبير الحاصل اليوم ، ناتجٌ عن سوء توزيع الثروة .. واللاعدالة المُفرطة ..التي أدتْ الى تواجد أشخاصٍ يمتلكون الأموال الفاحشة ، حصلوا عليها بالتأكيد بِطُرقٍ غير قانونية وأساليب غير شرعية ( فلا يمكن ان يتحول المرء خلال سنواتٍ معدودةٍ فقط ، من موظفٍ عادي أو كاسب مُتواضع ، الى مليونير يتلاعب بالدفاتر لعباً ، بصورةٍ طبيعية ) . الى جانبِ وجود أكثريةٍ محرومة،تحصل بالكاد على قوت يومها والحد الادنى من الضروريات الحياتية .
وبهذا الصدد يذكر الأستاذ عبد المنعم الأعسم ،في مقال نشره أخيرا :
( من البديهي .. ان تدفُق الأموال السهلة ، من غير جُهدٍ ولا تعب ، على البعض .. وإفتقار معظم هؤلاء ، الى ثقافةٍ تُوازي هذه الطفرة في الموارد .. الى ثقافةٍ تحفظ التوازن النفسي والإجتماعي ، وتُحّصنهم ، ضد الإنحراف والتهّور وإنتهاج الطُرق السيئة .. كُل ذلك يُؤدي ، الى خللٍ خطير في المنظومة الإخلاقية في المُجتمع .. لاسيما .. عندما يكون هؤلاء الطُفيليين ، يُشكلون واجهة المُجتمع ومرآته !. النتيجة الصارخة، هي ان الحكومة تشكو من محاولات خصومها (وهم شركاؤها ايضا) عرقلة اي اجراء او مشروع بناء او محاسبة موظف او تغيير ملاك اداري (وهو من حقها بل ومن واجبها) عن طريق تسييسهم الاعتبارات والاعتراضات واثارة الريب من حولها، فيما يشكو الخصوم، الشركاء، من ان الجهات الرسمية توظف كل خطوة او "منجز" يتحقق لصالح المواطن والبلد في الدعاية السياسية لقيادة الحكومة، مع انه التزام دستوري لها ) . وأضاف في نفس المقال قائلا :
( لكن المشكلة، تعدّت حدود القضايا غير السياسية التي تسيّس عن قصد وتدخل في عداد الخلافات والمماحكات والدعاية بين الحكومة وشركائها ، الى قضايا سياسية كبرى لا يصلح ان "تـُسيّس" الى الحد الذي يضيع معه الفاصل بين قضة التهديد الخارجي للبلاد وبين تبليط شارع في حي من الاحياء، او بين قضية الارهاب وبين محاسبة موظف مرتش في البلدية.. حتى بلغ الامر بعقد صفقات على النحو التالي: مرّر لي ميزانية العقد (س) أمرّر لك تبرئة الموظف (س) من العقاب الاكيد ) .
من أبرز النتائج المباشرة ، لكوارثر أوضاعنا الحالية ، هي الآثار العاطفية ،التي أصبحت تؤئر حتى على الذاكرة وفقدان التفكير السليم ، مما أدى الى تخدر الأحاسيس والشعور بالعزلة والعجز و إنعدام الحصانة وتصاعد الأحساس بفقدان الأمن ، وسيطرة الأفكار السلبية لقد تركز الأعتقاد عند الناس ، بأن الوطن غير عادل و من الصعب توقع أي شئ فيه .
لقد أصبحنا واثقين بأن يومنا هذا يشابه ما سيأتي من أيام . ليس لدينا من بداية ولا نهاية .نعيش تحت وطأة كابوس السؤال المصيري :
(هل يمكن أن يأتي "غودو" في يوم من الأيام ؟ .)
664 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع