د. منار الشوربجي
من الأقوال الشائعة التي يحلو لبعض الإعلاميين ترديدها على مسامع تلاميذهم أن الخبر الصحفي "هو أن يعض الرجل كلباً، لا أن يعض الكلب رجلًا" فالأول خبر مثير بينما الثاني لا يشد أحداً، لأنه يحدث كل يوم آلاف المرات.
لكن ماذا يا ترى لو أن الخبر هو الإعلام نفسه؟! يحدث ذلك أحيانا. خذ عندك ما جرى الأسبوع الماضي في الولايات المتحدة الأميركية التي كان فيها الإعلام نفسه يتصدر الأخبار.
فقد تحول تواضع أداء سي إن إن في تغطية الانتخابات المحلية الجارية بالبلاد إلى خبر. وتحول النفوذ الخطير الذي تمارسه قناة فوكس نيوز على السياسة الأميركية إلى خبر، لم يكن أقل خطورة من الشكوك التي ثارت حول مصداقية قناة "سي بي إس". واللافت في ذلك كله، هو أن من يحول وسائل إعلامية إلى خبر هو وسائل إعلامية أخرى.
فواقعة سي إن إن فضحتها شبكة "إن بي سي". فالأسبوع الماضي شهد انتخابات محلية لمناصب مختلفة في عدد من الولايات. ونظرا لمغزى تلك الانتخابات بالنسبة لمستقبل الحزبين غطتها أغلب القنوات الكبرى بكثافة.
وفي برنامج ريتشيل مادو الشهير، كانت التغطية للانتخابات حية من خلال مراسل القناة، تشاك تود، الذي كان ينقل الأخبار أولاً بأول من مقر حملة المرشح الديمقراطي تيري ماكوليف الذي فاز فعلاً بمنصب حاكم ولاية فرجينيا. وبينما كان تود يعلن للمشاهدين فوز ماكوليف، انتبهت ريتشيل مادو إلى غياب أي مظاهر للاحتفال بالفوز الصعب في مقر الحملة التي كان يقف تود بداخله.
فأجابها الأخير قائلاً إن خبر الفوز لم يصل بعد لمقر الحملة لأنهم يتابعون تطور الفرز "على قناة أخرى غير قناتنا". وما هي إلا لحظات حتى ظهرت شاشة التلفاز الموجودة في المقر فإذا بها تحمل شارة سي إن إن ووجه واحد من أشهر مذيعيها، وهو الأمر الذي تحول إلى سخرية وتندر. فتخلف سي إن إن عن التقاط خبر الفوز أدى لعدم معرفة حملة الفائز نفسه!
لكن واقعة سي إن إن على طرافتها لم تنطو على خطورة الوقائع الأخرى التي حولت الإعلام إلى خبر. فعشية إعادة انتخاب حاكم ولاية نيوجرسي الجمهوري كريس كريستي، المرشح المحتمل للرئاسة عام 2016، نشر موقع بوليتيكو خبرا يقول إن روبرت موردوخ مالك قناة فوكس نيوز اليمينية، ومدير القناة روجر أيلز اجتمعا مؤخرا بالسناتور الجمهوري راند بول، المرشح المحتمل للرئاسة الأميركية في 2016.
وكشف الموقع عن أن تلك ليست المرة الأولى التي يسعى فيها راند بول للحصول على تأييد فوكس نيوز له قبل انتخابات عامة.
كما كشف عن دور روبرت موردوخ شخصيا في انتخابات 2012 . ففي ذلك العام، وأثناء إعصار ساندي الشهير، أثنى كريس كريستي على أوباما وأدائه في مواجهة الإعصار، الأمر الذي أثار غضب موردوخ، حيث اعتبره مناصرة لأوباما الديمقراطي في حملة إعادة انتخابه على حساب مرشح الجمهوريين وقتها ميت رومني.
وعلى موقع تويتر انتقد موردوخ وقتها كريس كريستي علناً، وطالبه بإعلان تأييده رسميا لرومني. وما كان من كريستي إلا أن اتصل فورا بموردوخ ليبرر موقفه ويؤكد أنه كحاكم ولاية كان يحتاج لأوباما وقت كارثة الإعصار. لكن موردوخ أصر على أن يعلن كريستي تأييده لرومني وهو ما فعله الأخير بعدها فعلًا. الخبر إذاً هو إمبراطورية موردوخ الإعلامية العملاقة وقدرتها على حسم الانتخابات لصالح مرشح دون آخر، على الأقل بين الجمهوريين.
أما الخبر الأخطر على الإطلاق، فكان فضيحة لقناة سي بي إس وتحديدا لبرنامجها الأشهر "ستون دقيقة". وموضوع الفضيحة هو حلقة أذاعها البرنامج في آخر أكتوبر الماضي، ضمن الحلقات التي تتناول أحداث بنغازي في 2012 والتي راح ضحيتها السفير الأميركي وثلاثة آخرون من العاملين بالسفارة.
ففي تلك الحلقة، عرضت شهادة لرجل أمن تم تقديمه تحت اسم مستعار، قال فيها إنه كان في موقع الأحداث التي شهدت مقتل السفير وزملائه، بعد أن تسلق حائطاً، وأنه ضرب بمؤخرة بندقيته واحداً من تنظيم القاعدة ثم ذهب للمستشفى لاحقاً ورأى بنفسه جثة السفير الأميركي.
وما إن أذيعت الحلقة حتى كشفت الواشنطن بوست عن الاسم الحقيقي للرجل، ويدعى ديلان ديفيز، وأكدت أن لديها تقريراً قدمه ديفيز لرئيسه المباشر في شركة الأمن التي كان يعمل بها ذكر فيه أنه لم يكن مطلقاً قريباً من موقع الأحداث.
وظهر مراسل لفوكس نيوز أكد أنه كان قد اتصل بديفيز للحصول على معلومات بخصوص بنغازي ثم توقف عن الاتصال به فور أن طلب الأخير أموالاً مقابل شهادته. وقد دفع ذلك كله بعدد من كبار الإعلاميين لمطالبة سي بي إس بسحب التقرير والاعتذار عنه.
لكن سي بي إس دافعت بقوة عن تقريرها حتى بعد أن اعترف ديفيز بأنه كذب فعلاً على رئيسه خوفاً من أن يعلم الأخير أنه خالف تعليماته. وذكر ديفيز أن روايته لسي بي إس هي الرواية الصحيحة نفسها التي أوردها في كتابه الجديد الذي نشر مؤخرا.
وكأن ذلك كله لم يكن كافياً للتشكيك في مصداقية سي بي إس، ففي حوار للنيويورك تايمز، اضطر مدير البرنامج ومذيعته للاعتراف بأن دار النشر التي تولت كتاب ديفيز هي إحدى المؤسسات التابعة لسي بي إس، الأمر الذي يعني أن هناك علاقة مالية بين القناة والشاهد لم يتم الإفصاح عنها للجمهور. ولا تزال قصة سي بي إس مفتوحة حتى كتابة السطور.
وقصص القنوات الثلاث تفتح ملفاً لم يغلق أبداً يتعلق بكفاءة المؤسسات العالمية بما في ذلك الكبرى منها، وأدوارها "السياسية" ومصداقيتها ليس فقط في أميركا وإنما في شتى أنحاء العالم.
1157 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع