عبد القادر أبو عيسى
عمرو بن العاص داهية من دهاة العرب الجزئ الثاني
شعار المقال : كُنتم خَيرَ أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
مكانة عمرو بن العاص في زمن الرسول
عندما تواردت الاخبار عن أن عدد من القبائل العربية بدأت تعد العدة لمهاجمة المسلمين في المدينة والقضاء عليهم ومنها قبيلة (( قُضاعة )) وفيها أخوال العاص بن وائل أبي عمرو . أخذت تتأهب للزحف على ( المدينة ) فندبَ الرسولُ عليه السلام عمرو بن العاص ليستألفهم إن استطاع . لثقة الرسول (ص) به وبصدق عزيمته وهمته واخلاصه . فضلا عما كان يعرفه فيه من ذكاء ودهاء . لذلك أختاره الرسول عليه السلام قائداً على احدى سرايا المجاهدين التي كان يرسلها الى القبائل تدعوهم الى الاسلام . فجعله على رأس ثلاثمائة من أشراف المهاجرين والانصار .وأمره بالتوجه اليهم ومحاكاتهم . فأن لم يستطع ان يستألفهم فاليزجرهم بالعنف . وكان الرسول عليه السلام يرى أن يأتي زجر هؤلاء على يد عمرو كون منهم من يمتَ بصلة القرابة له . فسار إليهم عمرو حتى بلغ ماء يسمى " السلاسل " فأستطلع أمرهم فاذا القوم نافرون مصرون على جفاء وقتال , وهم اكثر عدداً وقدره فلا يستطيع ان يتصدى لهم بقوته الصغيرة . فاستمد العون من النبي الكريم , فأمدّه بكتيبة على رأسها ( عامر بن الجراح ) وأمره أن يلحق بعمرو وان يكونا جميعاً يد واحدة ولا يختلفا . وقد لحق ابو عبيدة بعمرو , فأراد أن يؤمَّ جيش المسلمين في الصلاة . وهنا دَبَ الخلاف بين الاميرين ..! . حيثُ قال عمرو بن العاص .. أني أنا الامير وما انت الا مَدَداً لي . . فردعليه ابو عبيدة . لا . أني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه ... فقال عمرو في اصرار .. بل أنتَ مدداً لي .. أي أنك مساعداً لي وتحتَ أمرتي .. فقال له ابو عبيدة .. أن رسول الله ( ص ) أوصاني . أن لا تختلفا وأنك أن عصيتني أطعتك . ! . . فقال عمرو .. وأنا أعصيك. فنزل ابو عبيدة عند أصراره , طاعة لرسول الله محمد (ص) . وهذا يدلنا على مدى ما في نفس عمرو من الطموح وقوة الشخصية وهيبة القائد . . بعد كل هذا مضى عمرو بن العاص بقوته وبالمدد الذي جاءه فقاتل ( قُضاعة ) في ما عرف بعد ذلك بغزوة ( ذات السلاسل ) وأعانَه أخوالُه في تيسير مهمته وأمدوه بما ينفعه في القتال , فانتصر عليهم فتفرّقوا أمامه منهزمين . فزاد هذا النجاح في ثقة الرسول الكريم به , فبعثهُ حين فتحت مكة الى قبيلة ( هُذَيل ) ليهدم لها ماتعبد من صنم أسمه (سُواع ) فلما وصل عمرو الى مكان الصنم . سأله السادن , ماذا تريد .. ؟ . قال عمرو .. أمرني رسول الله أن أهدمه . فأراد السادن منعه , فزجره عمرو . قائلاً له .. ويحك .. ! حتى الان انت في الباطل أيسمع هذا او يبصر ..؟ ودنا من الصنم فكسره وأمر أصحابه بهدم بيت الصنم .. وخاطب السادن يسألهُ .. كيف رأيت ألاهكم .؟ هل استطاع أن يفعل شيئاً ..! فأجاب السادن مندهشاً متعجباً .. أني أسلمت للّه رب العالمين .
بعد فتح مكة أنتشر الدين الاسلامي في أرجاء الجزيرة العربية , وعمر بن العاص أهلٌ للشدائد والملمات , بقدر جدارته للحكمة التي تُؤتي ثمارها دون حرب أو قتال . فبعثه الرسول محمد صل الله عليه وسلّم الى (( عُمان )) فكان هذا الانتاب مجالاً يمكّن عمرا من ان يستفيدَ فيه من كل ما فطر عليه من اللياقة والدهاء والجرأة وقوة القيادة والثراء جميعاً .
وقد حمّله النبي عليه السلام كتاباً الى ( الملك جَيفَر ) وأخيه ( عَبّاد ) وهما من قبيلة ( الأزد ) قال فيه
(( بعد السلام على من اتبع الهدى . أما بعد فأني أدعوكما بدعاية الاسلام , أسلما تسلما , فأني رسول الله إلى الناس كافة , لأنذر من كان حياً ويحقّ القول على الكافرين . وإنما إن أقررتما بالاسلام ولّيتكما , وإن اْبيتما أن تُقرّا بالاسلام فإن ملككما زائل . وخيلي تَحلُ بساحتكما .. () فحمل عمرو بن العاص الكتاب , وكان عند حسن ظن النبي في مقدرته ودهائه . فبدأ بأصغر الأخوين ( عبّاد ) محدّثاً ومحاوراً , ثم ثنّى بأخيه الملك ( جَيفَر) وكان أصعب مراساً ... و مما قاله عمروا بن العاص ... وأنتَ , ان لم تُسلِم اليوم وتتبعه ( أي الرسول عليه السلام ) يوطئك الخيل . فأسلم تَسلم . فيُولّيك على قومك . وتبقى على ملكك مع الاسلام ولا تدخل عليك الخيل مع الرجال , وفي هذا ومع سعادة الدارين . راحةٌ في القتال .. ! ومازال بهما حتى استجابا للإسلام هما وقومهما . وكانت المكافأة التي قدمها الرسول الكريم الى عمرو على هذا التوفيق , أن عقد له ولاية الزكاة في عُمان نفسها , يأخذها من الاغنياء ويوزعها على الفقراء ... وإنه لعمل حبيب الى طبع بن العاص , لما فيه من تدبير للأموال وتشابهٍ مع المهمة التي كان يتولاها زعماء بني سَهم في الجاهلية , هذا الى أن لعمرو في هذا العمل نصيباً من المال يرضيه . فإنما الزكاة للفقراء والعاملين عليها , كما نص القرآن الكريم ( أنما الصدقات للفقراء والمساكين و العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) فلعمرو نصيب العاملين . وانظروا هنا حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي كان يفهم الطبائع ودواخل النفوس والامور الذاتية للأشخاص , ويتدبر كل قضية بما يتناسب مع ظروفها وأحوالها .
معرفتنا لمكانة عمرو بن العاص في عهد الرسول عليه السلام تعني أمور عدة منها ثقة الرسول بعمرو وأيمانه الصادق وكذلك موافقة الصحابة أيظاً وبقية المسلمين وهذا ما سنراه لاحقاً . وكذلك تعني للأجيال المتعاقبة من المسلمين أن تُجِلَ هذا الرجل وتحترمه أحتراماً لرأي الرسول عليه السلام به ورضاه عنه والخلفاء الراشدين من بعده . لم يلبث الرسول الكريم أن توفيَّ في سنة 10 هجرية ( 632 ميلادية ) فخلفه على المسلمين ( أبو بكر الصديق ) رضيّ الله عنه فأبقى عمرو بن العاص في ولاية الصدقة في ( عُمان ) ولكن عمرو المؤمن سرعان ما قام يُسهِم في قتال المرتدين من بعض القبائل الذين لم يتمكن الاسلام من نفوسهم ... وها هو النبي يتوفّاه الله , فحسبوا أن الاسلام قد انتهى . وما أشبه اليوم بالبارحة فكثيراً من المسلمين يعرفون او لايعرفوا قد ارتدوا عن الاسلام الحقيقي بأتخاذهم البدع وأدخالهم أمور لاصلة لها بالاسلام والمسلمين , بل الاسلا م برئ منها أدّت ولا زالت تُأدي الى أذية المسلمين وتخريب الاسلام مثل قتل المسلم لأخيه المسلم والغلو الطائفي والحقد الاعمى , بعض المسلمين على بعضهم الآخر . وكل هذه أمور جلل أدخلها أعداء الاسلام بغية تخريبه . أين حكمائنا وعقلائنا اليوم من هديّ الرسول الاكرم وعدالة وحكمة ودهاء صحابته الأكرمين عليهم السلام . حريٌ بنا وبعقلاء قومنا وزماننا أن نقتدي بهم ولا نوليهم ظهورنا ونبحث عن الحلول في ما كانوا يفعلون وكيف كانوا يتعاملون مع الامور الحياتية التي عاشوها ونعيشها نحن ونبتعد عن الأنانية وحب الذات حباً مطلقاً , لنبقي قليلا منه لحب الآخرين . بدل البحث عن الحلول لمشاكلنا عند الغير الذين لايفهموننا ويفهمون تاريخنا وأن فهموه. سيحاربوننا به . وهذا هو ما حاصل اليوم .
أشكركم بتفظلكم قراءة المقال . على امل مواصلة الكتابة في الجزء الثالث بأذن الله .
عبد القادر ابو عيسى : 15 / 11 / 2013
818 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع