خالد القشطيني
آن لي، بعد الكلام عن فكاهات «الشبعانين»، أن أتناول شيئا من فكاهات «الجوعانين». وكما سبق لي أن ذكرت، قلما عانى الغربيون من المجاعات، وبفضل ما توفر لهم من الطعام والخير، انتشرت بينهم فكاهات الشبع والولائم.
أما في الشرق، حيث اعتادت الشعوب الجوع والفقر والحاجة، فقد شاعت بينهم فكاهات الجوع، الأمر الذي أوحى لي بكتابة كتابي «فكاهات الجوع والجوعيات».
ظهر في تاريخنا العربي ظرفاء وشعراء لم يكن لهم شأن لولا طرائفهم الجوعية. أشهرهم قاطبة أشعب الطماع. ولكن هذا النوع من الأدب، بل وهذا النوع من الحياة، شاع في أواخر الدولة العباسية، عندما ظهرت جماعة الطفيليين، وأصبح التطفل على الولائم ظاهرة شائعة. لا يمكن في الغرب أن يدخل إنسان لمأدبة من دون دعوة، وكثيرا ما يُحجز للمدعو كرسي فيها يُكتب أمامه اسمه، وعليه الالتزام به. ولكننا في الشرق نتبع غالبا أسلوب الباب المفتوح، وقلما يردّ أهل الوليمة طارقا مستطرقا. وهذا هو ما فتح المجال للتطفل والطفيليين. راح أحدهم يعظ ابنه، وسائر فصيلة الطفيليين فقال:
لا تجزعَنّ من الغريب
ولا من الرجل البعيد
وادخلْ كأنك طابخ
بيديك مغرفة الحديد
متدليا فوق الطعام
تدلي البازِ الصيود
لتلفّ ما فوق الموائد
كلها لفّ الفهود
واطرح حياءك إنما
وجه الطفيلي من حديد
ومضى الشاعر الطفيلي يسترسل في قصيدته عن الأكل وأنواع الطعام، وكيف يتعامل ويتلذذ الطفيلي بها. ولكن هذا المسلك التطفلي بدأه في الواقع أشعب الطماع، في صدر دولة الإسلام وأيام الصحابة. كان في الحقيقة نمطا من أنماط «المهرج» في الأدب الغربي، مع التركيز على الأكل والجوعيات. لاحظ عددا من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهمكين في أكلة سمك. فعنّ له أن يأخذ نصيبه منها؛ فسألهم: ما تأكلون؟ فأجابوه: «سمكا مسموما». كانوا يحاولون استبعاده من المأكلة. فأجابهم: «والله الحياة بعد صحابة رسول الله لا تستحق العيش؛ فدعوني أرحل معكم». وقبل أن يجيبوه، كان قد أخذ مكانه في صدر المجلس، ومد يده ليلتهم السمك.
وفي طريفة أخرى، نراه يذهب مع ابنه إلى وليمة. لاحظ أن ابنه كان يشرب الماء كثيرا أثناء الأكل، فلكزه وقال له: «ويحك! أمامك كل هذا الأكل، وأنت تملأ بطنك بالماء؟!»، فأجابه ابنه: «كلا يا أبتي. بل أشرب الماء لأزيح ما أكلته من معدتي، وأفسح المجال لأكل آخر». فكر أشعب قليلا، ثم عاد فلكز ابنه: «ويلك! تعرف ذلك ولم تخبرني به».
طرائفه كثيرة. ومنها أنه رأى خزّافا يصنع إناء، فتوسل إليه أن يوسع به. فقال له الخزاف: «وما شأنك به، وهو لغيرك؟»، فقال له: «لعل صاحبه يهديني فيه بشيء من الطعام يوما من الأيام. فوسع به!».
576 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع