جورجينا بهنام
للوهلة الأولى، ربما يظن القارئ أننا سنتناول موضوعا فنيا يتحدث عن العملاق الراحل عن دنيانا مؤخرا (وديع الصافي) ذلك البلبل الهزار ذي الصوت الشجي والحنجرة الذهبية والألحان الرائعة، فعنوان المقال جاء مطابقا لمطلع إحدى أغنياته الأشهر:
(على الله تعود على الله... يا ضايع في ديار الله)، أو ربما نخصص سطوره للبحث في الأغنيات التي تتناول الهجرة والمهجرين والمهاجرين والدعوات المتوالية عبرها للعودة إلى أحضان الوطن، أمنا الحنون، فـ»الغربه هدت حيلي» و»الله يلعن الغربه» و»أشوفك وين يا مهاجر» سمعناها من مطربين عديدين، وقبلهم حمَّل سعدون جابر الطيور الطايرة سلامه للأهل والأحباب صارخا ملتاعا «أحـّا يا ديرة هلي». فما المانع إذن من ترك ديار الغربة بخيرها وشرها واللجوء حصرا إلى ديار الآباء والأجداد التي لا تحتاج إلى معاملات و انتظارات وكفالات، والشرط الوحيد للحصول على الفيزا لدخولها هو حب الوطن؟
مع كل ما تشهده كثير من الأوطان في الشرق الأوسط اليوم من مآس وويلات وانتشار العصابات والميليشيات، والخطف والذبح المبثوث عبر الفضائيات، والغرق بالدماء قبل مياه الفيضانات. كثيرون يتساءلون اليوم: نعم نحب الوطن، ولكن، هل يحبنا الوطن كما نحبه؟ هل يبادلنا ذات المشاعر؟
«أرضنا مهدُ الحضارات، عانقتنا وعانقناها» هكذا يستهل بطريرك بابل على الكلدان لويس ساكو مقاله المعنون (يامهاجرين ارجعوا)، مشيرا إلى حالة الشتات التي تعيشها العائلة الواحدة موجها سؤاله إلى المسيحيين العراقيين المشتتين في المهاجر: «ماذا سيبقى منكم بعد مئة عام أو مئتين؟ ستندمجون لا محالة في المحيط الجديد وتذوب قوميتكم وتضيع هويتكم. لكنه عاد وأكد على أن المسيحيين لن يرحلوا عن بلدهم بل هم باقون فيه رغم ضبابية المستقبل المجهول، لأننا: «لا نعرف المستقبل، لكننا نعرف من نحن وما تاريخنا وهويتنا ولغتنا وطقوسنا وتقاليدنا وجيراننا. لذلك سنبقى ملتصقين بأرضنا وناسنا وبمبادئنا وحقوقنا».
فيما يرى البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي أن هناك مصيرا واحدا يربط المسيحيين مع المسلمين في الشرق، لأننا «نؤمن أن الشرق الأوسط مكان تجسدنا، لذا نتمسك بوجودنا في بلداننا المشرقية». جاء ذلك في سياق كلمة ألقاها في افتتاح المؤتمر العام الأول للمسيحيين في المشرق، المنعقد ببيروت لمناقشة أوضاعهم في العراق ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن، وحسب ما أشارت المصادر الصحفية والإعلامية فقد كان الأول من نوعه لممثلين عن مختلف الطوائف المسيحية، ويهدف لتسليط الضوء على أوضاع مسيحيي المشرق لاسيما أوضاعهم الديموغرافية والهجرة وواقع الحريات الدينية وممارسة الشعائر، ومناقشة مشاركة المسيحيين بمؤسسات الدولة ووضعهم الاقتصادي والاجتماعي. لكن بعد أيام من المداولات والنقاشات لم يتمخض المؤتمر سوى عن الاتفاق على إعلان انبثاق لقاء مسيحيي الشرق وتشكيل لجنة لمتابعة مقررات المؤتمر وتوصياته.
توالت المؤتمرات وشهدت تلك الفترة حمى مؤتمراتية كانت حصة لبنان منها مؤتمرين فقط، كما شهدت بروكسل عقد آخر لمناقشة ذات الموضوع، فيما كانت أربيل حاضنة لحفل إفتتاح مؤتمر «أصدقاء برطلة» الذي يبحث موضوعة التغيير الديموغرافي فيها بقصد معالجة أسباب تدني نسبة المسيحيين فيها خلال السنوات القليلة الماضية من 99% الى ما يقل عن 40% فقط.
وفود تأتي ووفود تغادر واجتماعات ونقاشات وحوارات ولكن إلى الآن لم تظهر على أرض الواقع النتائج الملموسة التي كان يفترض أن تؤدي اليها أمثال هذه الاجتماعات، وماهي التوصيات الملزمة التي خلصت اليها، ومن هي الجهة الضامنة لأي قرار أو توصية تصدر عن هكذا مؤتمرات وغيرها؟ أم أننا سنعود لنسمع جعجعة ولا نرى طحنا؟
ورب قائل يقول إن ما يصيب المسيحيين في الشرق لا يصيبهم وحدهم بل هو ضمن حالة من العنف العام غير المقتصر على طائفة أو دين أو مذهب، لكن الواقع يؤشر غير ذلك، فبعدما كان تعداد المسيحيين في العراق قبل 2003 يصل الى 1.2 مليون نسمة لم يبق منهم الآن سوى (200) ألف وربما عدد أقل بسبب عدم توفر إحصاء عام للسكان أو أية إحصائية أخرى دقيقة ومحايدة. فيما تحجب الظروف الدموية التي تشهدها سوريا أية رؤية واضحة لتحديد حجم النزيف الذي تشهده لسكانها المسيحيين الذين كانوا يعيشون ظروفا أشبه بالمثالية في ظل تعايش أخوي لم يتضح بعد سبب غيابه المفاجئ. وهل حقا «على غفلة، تغير أولئك الناس الذين عشنا معهم لزمن طويل ليصبحوا ينتظرون الفرصة للاستيلاء على أراضينا ومصادرتها إن لم نتركها، والنظر الينا باشمئزاز بعدما كنا نشاركهم الطعام والعمل والمصير المشترك منذ مئات السنين!؟» بحسب وصف احد
القسس هناك. هذه القضية وجدت أخيرا من ينتبه اليها بعد سنوات من الصمت، فالعراق شهد منذ عشر سنوات كثيرا من الفضائع وحالات الخطف والقتل لعل أشهرها حادثة خطف المطران بولس فرج رحو والأب رغيد كني وعدد آخر من الشهداء. لكن الحادثة الأشهر والتي أدمت الضمير الإنساني كانت مجزرة كنيسة سيدة النجاة ببغداد 2010 التي راح ضحيتها ما يزيد على الخمسين شهيدا من المصلين المسيحيين بعدما احتجزتهم جماعة مسلحة وأعملت فيه القتل والذبح والتنكيل حتى نجحت القوات الامنية في انقاذ ما أمكنها إنقاذه. وفي إثرها تصاعدت عمليات هجرة المسيحيين واتسع نطاقها سيما بعد التسهيلات التي قدمتها وتقدمها بعض السفارات الاجنبية والمنظمات الدولية وهو ما أكده عدد من الساسة المسيحيين وسبقهم إليه بطريرك الكلدان الذي اتهم صراحة جهات بعينها بالسعي لإفراغ العراق من مكون أساس وأصيل كان دائما عامل بناء و ازدهار حيثما عاش وساهم بشكل فاعل في نشر الثقافة والفنون والآداب والعلوم وعمل على تطويرها.
ترافق مع كل ذلك تحذير وزيرة الدولة لشؤون الجاليات والمعتقدات الدينية في الحكومة البريطانية البارونة سعيدة وارسي من «خطر الانقراض الذي يواجه المسيحية في البلدان التي شكلت مهدها التاريخي بسبب تصاعد العنف الطائفي» الذي يمارسه المتعصبون ضد المسيحيين والأقليات الدينية الأخرى الذي وصل حدا بات معه يمثل أزمة عالمية وأخطر تحد يواجه العالم في هذا القرن، على حد وصفها.
يرى البعض أن الإرهابيين يستهدفون المسيحيين في الشرق الأوسط باعتبارهم أكفاء للأمريكان في الدين كنوع من العقاب الجماعي على السياسة الخارجية الأمريكية، لأن الذي «ما قدرش عالحمار يتشطر عالبردعة»، متناسين أن هؤلاء ليسوا قادمين جدد أو عملاء للغرب بل هم مكون أصيل عاش في هذه البلاد منذ قرون سبقت مجيء بعض الأقوام الأخرى.
أين يكمن الحل إذن؟ فالمؤتمرات على كثرتها لم تؤت أكلها بعد، وكثيرون لا يأملون منها خيرا ولا يجدون فيها أكثر من مجرد مجالس لحوار الطرشان، أو كما يقول المثل الموصلي: «سمّعني طيّب واسمعك طيب»، ثم ماذا؟ لو خرجت كل هذه المؤتمرات بمقررات غاية في المصداقية والعدالة والقانونية، من سيضعها حيز التنفيذ؟ وأي سلطة ستتولى محاسبة ومعاقبة الخارجين عليها؟ في محاولة لإيجاد حل لحالة التناقض الفظيعة التي يعيشها الناس، فالمهاجرون يئنون رغبة في العودة إلى أحضان الوطن الذي ما انفكوا يتباكون عليه في الغربة، فيما لهم إخوة في الوطن يسعون جاهدين للارتماء في أحضان الغربة والانتماء إلى الشتات وكثير من الحكومات ما زالت في سبات.
في خضم كل ذلك ما زال السؤال»: أين المنظمة الأممية ومجلس الأمن الدولي، بل أين الخمسة الكبار من كل ما يقاسيه ويعانيه الصغار؟
804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع