د.سامان سوراني
بالرغم من أن الفيلسوف الفرنسي رینیه دیكارت (١٥٩٦-١٦٥٠) يری أنه لاجرم أن تكون الحكمة هي القوت الصحيح للعقول ، لأن الذهن حسب رأیه هو أهم جزء فينا وطلب الحكمة لابد بالضرورة أن يكون همنا الأكبر ومع أن حضارة شعب وثقافته تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فیها ،
فالمرء الذي يحيا دون تفلسف لهو حقاً كمن يظل مغمضاً عینیه لايحاول أن يفتحهما ، إلا أن للفلسفة في زمن فتوحات العولمة وثورات القوة الناعمة خصوم كثيرون ، يعملون بكل جد ومثابرة من أجل منع الإعلاء من شأنها والإشادة بها أو الثناء علیها. صحيح أن النظام الذي يراد تغييره يترك أثره فينا دون وعي منا، بحيث نستعيد طبائعه الاستبدادية ، لكننا نری بأن تاريخ الفلسفة مدرسة حقيقية يتلقن فیها المفكر دروس الأخاء الفكري والوصال العقلي والتسامح المذهبي وأن هذا التاريخ تقرير لحقيقة عليا تٶكد قيمة الإنسان وحقه في التفكير. فتاريخ الفلسفة لم يكن يوم من الأيام مجرد مقبرة للأوهام البشرية أو مجرد سجل للأخطاء الإنسانية. الفلسفة حوار وجدال ومواجهة والفيلسوف تلميذ قبل أن يكون أستاذاً و علی المفكر أن يتذكر دوماً أن تفكيره هو في صميمه إجابة أو إستجابة. ومن يريد فتح آفاق المستقبل ، علیه أن يخلع الإيديولجيات المقدسة و يكسر عقلية النخبة والبيروقراطية ليمهد الطريق أمام الإنتقال الی الشبكات الآنية والمعلومات العابرة والسيالة للوصول الی مجتمع تداولي فاعل. المقارعة بالحجج و تبادل الآراء أمر ضروري للإستمرار في الحكمة ، فالحقيقة كما يقول الفيلسوف الألماني كارل ثيودور ياسبرز (١٨٨٣-١٩٦٩) ليست ملكاً لأحد ، بل البشر جميعاً ملك للحقيقة. أما الوجود فهو حقيقة غامضة متناقضة ، لايمكن أن ينصاع في قوالب جامدة متحجرة. إذن التعقيد ليس في ذهن الفيلسوف ، بل في قرارة الوجود نفسە. ولو كان الوجود حقيقة بینة متجانسة لما استحال علی الفيلسوف أن يصوغه في قالب محدد. ما نراه هو أن مشكلة الحقيقة تتخذ عند الإنسان وخاصة في عالمنا الیوم ، عالم الإستهلاك ، طابعاً درامياً فيظل الإنسان في صراع دائم ضد الأكاذيب والأضاليل والخرافات والأوهام وأخطاء الحس والعقل ، أملاً أن يصل يوماً الی الكشف عن ذلك النور الأسمی الذي يضيء طريق حياته. ما نستنتجه من الحياة هو أن الكثير من البشر يشغلون أنفسهم ، إن لم نقل طوال حياتهم ، بالعمل علی إكتشاف "راسئلهم" والحرص علی أدائها. المشكلة تكمن في أنهم يشعرون بأن حياتهم "وجوب" أكثر مما هي "وجود". أي بمعنی أنها واجب يدخل في نطاق ماينبغي أن يكون ، أكثر مما هي واقعة تدخل في نطاق ماها كائن. والحق أن الإنسان يشعر بأنه لم يوجد بعد ، وأنە مايزال علیه أن يوجد. هذا الشعور الارستقراطي يحفز صاحبه الی التسامی بحياته الخاصة فوق مستوی الحياة العامة المبتذلة وهذا مايدفعه بالتمسك برسالته ، التي هي في الأساس مشكلة.
أما تجربة الحب ، الذي يدخل ضمن مباهج الحياة والذي يرقي الينابيع الروحية الدفينة الی مستوی الوعي أوالشعور ، فهي حاجة إنسانية ، لا لكي تستمر مهزلة البقاء ، كما زعم فيلسوف التشاٶمية
الألماني آرثر شوبنهاور (١٧٨٨-١٨٦٠) ، بل لكي يتحقق المعنی الحقيقي للحياة البشرية ، كما قال مؤسس مدرسة علم النفس الفردي النمساوي ألفرد آدلر (١٨٧٠-١٩٣٧).
هناك من يحمل علی عصر العولمة التقنية والإنفوميديا والشبكات الإجتماعية كالفيس بوك أو التويتر أو الماي سبيس وغيرها من شبكات بدعوی أنه أفسد العلاقات الشخصية بين الأفراد. إننا مهما زعمنا أن الآلة والبرامج الكترونية هي المسٶولة عن تزايد شقة الخلاف بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فإننا لن نستطيع أن ننكر أهمية تلك "الوظيفة الحضارية" التي أصبح "التكنيك" يلعبها في صميم الحياة البشرية ، بوصفه ذلك العنصر اللاشخصي ، الذي ينظم العلاقات بين الأفراد في العالم الخارجي. فالإنترنت والآلة الذكية ليست بدعة دخيلة أقحمها الإنسان علی الحياة، بل هي عنصر مكمل للوجود البشري ، الذە هو في جوهره طبيعي وإصطناعي معاً. الإنسان كموجود زئبقي يفلت من بين أصابع الفنان والفيلسوف هو المشكلة. إنە موجود مفارق متعالي ، يواجه دوماً كل ما حققە في نفسه وفي عالمه بكلمة :لا" كبيرة. إنه يستطيع أن يثبت مرة تلو مرة بأن هناك علی الأرض من الأشياء أكثر من كل ما استطاعت أن تحلم به يوماً فلسفة من الفلسفات.
وختاماً: الفلسفة ليست مشكلة ولا تقدم لنا مفتاح الوجود ولا تروي لنا قصة المطلق ، بل هي تظهرنا علی أن الإنسان يَنِد بحريته عن التاريخ. والحرية الإنسانية تنحصر أولاً وبالذات في إختیارنا لغایاتنا ، فهي ليست خلقاً من العدم أو القدرة الإبداعية المطلقة. أما الفلسفة العملية فهي تقرر أن الحرية هي التي تدخل في الكون كل طرافة وجدة ، لأنها هي التي تمنع الأشياء المتشابهة من أن تتكرر باستمرار.
الدكتور سامان سوراني
815 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع