د. سهام علي السرور
أستاذ غير متفرغ في جامعة آل البيت، الأردن
صبّت الغيوم خيراتها على الطريق الممتد من المفرق غربًا إلى بغداد شرقًا لتندفع القاذورات على جانبيه وتسيل مياه اغتساله سوداء فتسقي ما يحاذيه من بقايا شجيرات قيصوم، وبذرة هنا أو هناك لدحنونة تختبئ بين أحجار الطريق.
في طريقي إلى مقر عملي هناك حزن مجهول السبب كنت أشعر به، حاولت القضاء عليه بإرسال رسالة الصباح عبر الهاتف النقال لمعظم زميلاتي وزملائي وأساتذتي في العلم والعمل، ولكن محاولتي كانت فاشلة.
كانت فيروز تدندن في الحافلة التي كنت من بين ركابها على مقعد مزدوج لا أذكر من جلس بجانبي، ولكني أذكر أنني وددت لو تصمت فيروز لأستمع لقطرات المطر الغزيرة على سطح الحافلة ونوافذها، ثم اشتدت غزارة المطر، فرحت أتمتم بعض أذكار الصباح، وأنا أدعوا الله لكل العابرين في الطرقات في هذا الوقت، وصلت الحافلة إلى المجمع الشرقي في المفرق، لانتقل من خلال حافلة أخرى وبشكل مستقيم إلى ما يبعد 30كم شرقًا لننعطف من ثم 5كم شمالا، ولكن بعد قطع 10كم من المسافة الأولى وحين أصبحنا عند مخيم الزعتري للاجئين السوريين تحديدًا سمعت رنين هاتفي فأخرجته لأجد أن اسم إحدى قريبات أمي على شاشته، انقبض قلبي فمنذ مدة لم تتصل بي، والوقت مبكر جدًا فالساعة قبل قليل أصبحت السابعة صباحًا، جاوبت وإذ بصوتها مبحوح لقد كانت تبكي وأنفاسها تخترق سمعي إلى قلبي.
فنزلتُ من الحافلة عند تقاطع طرق يؤدي أحدها إلى قريتي أم الجمال شمال شرق، والآخر هو طريق بغداد الواصل بين المفرق غربا وبغداد شرقا، كان المطر يزداد انهمارا، لا أعلم كيف عبرت الطريق لأنتقل شمالا إلى قريتي والدموع وحبات المطر تغسل وجهي، يديّ في جيبي معطفي الأسود الطويل، مشيت تحت المطر تجاه
قريتي فهي هناك خلف مزرعة العنب والزيتون، خلف أشجار السرو والصنوبر، هناك بين المقابر، هناك يتوسطها قصر عالٍ لملك بائد، وتقبع كلها في مكان منخفض، قريتي يا مقر حزني وأحلامي.
كنت أسير وأنا أسمع أصوات أبواق السيارات وأخرى تطلب أن تساعدني بإيصالي حيث أريد، فالكل أشفق على فتاة تكاد تجرفها الأمطار لنحولها وسيرها في هذا الوقت المبكر تحت المطر، وكانت تعبر من جانبي بعض الحافلات ولا أقف لتقف لي وأركب إنما أصر على تجاهل كل شيء حتى البرد، مسكت الهاتف وأخبرت والدي بمكاني وطلبت منه الحضور، فصمت ومر وقت لا أذكر كم كان، والبرد يرتجف حزنًا علي ولا أرتجف.
نعم لقد ماتت خالتي عيده، الابنة الصغرى لجدي الجندي المتقاعد المدافع عن الأقصى في شبابه، عرفتُ لجدي ثلاث بنات أمي أكبرهن، وسمعت من أمي عن قصة وفاة ابنيه أحمد ومحمد حين كان جدي يسكن في الزرقاء إثر تفجر لغم بالخطأ، كما سمعت من أمي قصة رفض جدي للأصوات المنادية بزواجه من زوجة جديدة لأن جدتي لم تنجب سوى ثلاث بنات ولم تنجب له صبيان، وكم نمت على سماع قصص كثيرة من أمي، عن وفاء جدي وصبر جدتي.
خالتي عيده الابن والابنة لجدي، تقود سيارته منذ صغرها وتلبي احتياجاته تجاوزت الثلاثين وهي ترفض الزواج، وتفكر بالجميع قبل نفسها، حين كنت صغيرة وقبل كل عيد يعطيها أبي النقود لتأخذني وأختي الكبرى إلى السوق فتقيس الملابس على كل منا وتشتري لنا ولأخوتنا الأصغر منا سنا، كانت تحفظ قياساتنا نحن وبنات خالتي نوال غيبًا، لم تشتر لنا أو لأمي وخالتي نوال شيئا لم يناسبنا، بل كانت تعرف ما نريد أكثر منا.
في كل عيد تسبق خالتي عيده العيد إلينا، ولم تشعر أمي أن ليس لها أخوة ذكورا إلا بعد وفاة خالتي، ويوم وفاتها سمعت جدي يتمتم "بموتها مات لي عشرة أبناء"، وقرأت في عينيه روايات لعصور سالفة، وجروح نحتت في وجهه تجاعيد
لكل منها تاريخها ولكل منها ألمها المحفور في القلب، ورأيت ظهر أمي ينحني والشيب ينبت في مفرق رأس خالتي نوال.
انظر إليّ ...... فهكذا تحب خالتي أن أعمل..... حتى شعري هكذا تحب أن يكون، فكم أذكر كلماتها، وكم أتصورها وأنا أتنقل في بيت جدي، لقد كانت تحب أن تكون الأشياء أكثر من نظيفة ولا تحب الترتيب وإنما أكثر منه، في كل شيء كانت أنيقة حتى في ملابس البيت، تحب أن نعمل بطريقة تقترب من المثالية كنا نتذمر أحيانًا، وأحيانًا أخرى نعمل بصمت لأننا اعتدنا على قانونها.
ومن بين قوانين خالتي تقديمها الخير دون انتظار الجزاء من البشر، حتى عملها الذي كانت خارجة لأجله في الصباح الباكر يوم حصل لها الحادث الذي فارقت فيه الحياة وهي تقود سيارتها، كان عملا في مخيم الزعتري حيث كانت قد أصرت على هذا العمل رغم ما فيه من مشقة لما شعرت أنه يجلب الخير لأخوتنا السوريين، وكانت كل يوم تخرج في السادسة صباحًا بعد إقامة صلاة الفجر تصلي وتخرج، وقبل شروق الشمس تكون أنجزت الكثير في عملها.
لازال مذاق كبستك في فمي يا خالة عيده، كم أحببتها وكم كنتِ تطبخيها لأجلي حين تعلمين بأني سأحضر إلى بيت جدي، إني الآن وأنا أكرر الاتصال على هاتفك لعلك تجيبي وأسمعك تقولي لي كما اعتدت أن أسمعها منكِ " هلا يا ميمه"، أعاود الاتصال ولدي أمل أن تجيبي، ولكن أسمع صوت يقول "الهاتف الخلوي المطلوب مغلق حاليا" فأدرك أن الأمل مفقود، فيوم رأيتكِ ممددة ومكفنة، رأيت الجميع يبكون إلا أنا كنت عند رأسكِ بين جدي وأمي وأنظر إلى صدركِ لعلي أرى الكفن يرتفع ويهبط ببطء فأقول خالتي تتنفس لأمزق الكفن بيديّ وأحتضن خالتي وأقول أرأيتم إنكم تكذبون!
658 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع