المتغيرّات الحرجة

                                           

                             د. سيّار الجميل

                          

المتغيرّات الحرجة
30 سنة من التهتّكات في مواجهة 30 سنة من التحديّات

عندما التقينا "اوليفييه دومولان" قبل سنوات طوال ، وجدته  يطرح سؤالا جوهريا علينا مفاده: " بماذا تخدمكم المعرفة اليوم في بناء مستقبلكم الصعب الذي يريده أصحاب النظام الجديد  ؟ " ، وكنت اتابع واكتب مقالاتي منذ عشرين سنة عما سيفعله العرب في مواجهة التحديات ، مسائلا اياهم البحث عن اجوبة حقيقية يطرحها بعض المخلصين في العالم ، وهم يردون على افكار خطيرة ينشرها برنارد لويس وفوكو ياما وهانتينغتون وديفيد روبكوبث وروبرت كوبلان وكينيشي اوماي وغيرهم  .. وبالاخص عمّا يخص واقعنا وتفكيرنا نحن العرب، وكان العراق الحالي هو الضحية الاولى ، بوضعه في بداية القائمة السوداء كي يغدو نموذجا للتهتك الذي ستتعرض له المنطقة وكل شعوبها  في خضم الفوضى التاريخية التي بدأت عام 1979  !! ثم كانت لبنان والجزائر واليمن في حروبيهم   الاهلية القاسية .. فماذا نرى ؟
 هكذا وجدت منذ قرابة عشرين سنة مضت ان هناك من يريد ان يزيد من تعقيدات الحياة العربية التي تراجعت كل مرافقها الحيوية ، وخصوصا في التعليم والوعي والانتاج والابداع ، اذ بدا واضحا في اللاحق من الايام ان ازمة "الدكتاتوريات " العربية ، قد خلقتها كل من الانقلابات العسكرية المأجورة اولا ، والاحزاب المؤدلجة ثانيا ، ثم ما تكلل حدوثه بعد العام 1979 بولادة الطائفية السياسية في ايران والمنطقة العربية ثالثا ! نعم ، لقد بدا واضحا ان لعبة الامم قادت الى خراب المنطقة اثر تطبيق مشروع روزفلت بعد الحرب العالمية الثانية ! وان الغرب اخذ يعمل بشكل محموم لكسب مصالحه على حساب زرع حكومات هشة لها شعارات فارغة  ، وهي تسارع في تغطية المساهمات الحيوية التي لها علاقة عضوية مع مصالحه في ميدان تغييب الوعي والعقل وصنع اغلب القرارات المصيرية في اوطاننا التي ازدادت مشاكلها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع تكاثر السكان ، وتكلل ذلك بأقصى كوارثه  في حربي الخليج الاولى والثانية ابان الثمانينيات من القرن العشرين . وما جرى من تهتكات في تسعينياته بما فيها من احتلالات وحصارات ومجازر اكثر من بلد .. وما حدث من فظائع بعد 11 سبتمبر/ ايلول 2001 وصولا الى المشهد ما قبل الاخير باحتلال العراق عام 2003 ، وانتهاء بالمشهد الراهن وانفجار الثورات العربية في نهاية 2010 والسيناريوهات الكارثية التي نعيشها اليوم في العراق وسوريا ومصر وليبيا وتونس وفلسطين واليمن والسودان وغيرها ..
لقد ولدت الطفيليات في عالم جهول يغّيب مصالحه بغباء  ، فسجنت الآراء الحرة ، وقهرت الاصوات الوطنية ، واغتربت النخب الرائعة ، واستبدت الدكتاتوريات وتفاقمت المخابرات المرعبة .. وماتت الطبقة الوسطي التي كان المجتمع في كل مكان يبنى نفسه من خلال موظفيها ومثقفيها وساستها وتجارها ومعلميها ورجالها ونسوتها.. وانحلت الفرص السانحة التي كانت تعمل على صون المضامين الفكرية والسياسية بعيدا عن مشاكل الطوائف والمذاهب والاعراق .. بعد ان عاثت الشوفينيات المتعصبة فيها فسادا باسم فلسطين التي ذبحوها بدم بارد .. ولم يقف المشهد الملئ بالباروناميات المضحكة عند هذا الحد ، بل تفاقمت المشكلات الداخلية والحدودية والاقليمية لتشتعل المنطقة بالصراعات والحروب الباردة والاهلية والحدودية والاقليمية التي ارجعت منطقتنا عشرات السنين الى الوراء ، واهدرت ثروات طائلة من دون اي مبرر ابدا ، وغدت " الامة " التي يتشدقون بمكانتها من خلال جامعة عربية فاشلة ، امة مأزومة تسوق الاضاليل باسمها الى شعوبها التي كانت تتراجع الى الخواء المرعب دون التلاحم والاستفادة من بعضهم الاخر .
لقد هربت الشعوب من واقع مأزوم الى غرائب اليوتوبيا والانقسامية والطائفية والتمرد ناهيكم عن الارهاب وحمل اجندة غير مسالمة ولا متصالحة مع ابسط القيم  .. ومن يراقب سيرورة العلاقة مع سياسات الولايات المتحدة الاميركية ، سيجد انها كانت تسكت على كل ما يحصل من جرائم وخطايا وحتى وقت قريب ، وهي تطمح مرة بالاحتواء المزدوج لقوتين اقليميتين ، ومرة في زرع الفوضى الخلاقة ، ومرة بتسويق الديمقراطية المزيفة .. فهل يمكننا مقارنة افكار قدمها كل من : بريجنسكي  وسكوكروفت ومورفي لما طبقه المحافظون الجدد لاحقا ؟؟ وبالرغم من نشر عدة مشروعات في تسعينيات القرن العشرين كالشرق اوسطية والمتوسطية وغيرها . ولكنهم بدأوا التفكيك من اجل اعادة التركيب وبقاء المنطقة ملتهبة على امتداد عهد الرئيس كلينتون ، الا ان  احداث 11 سبتمبر/ ايلول 2001  بخفاياها المجهولة ، قد هزت العالم بقوة شديدة .. وكان كل من افغانستان 2002 والعراق 2003 اول ضحاياها  ، ثم تتسلسل الصفحات في السنوات اللاحقة حتى يومنا هذا . ويبدو ان السيناريوهات الجديدة لدى العرب كانت مفاجئة للعالم ، ولم يكن احد يتوقع اندلاع الثورات الشعبية  العربية التي سرعان ما واجهت تحديات داخلية وخارجية !
اسمحوا لي هنا ، بأن اقول لكل المهتمين الاوفياء ان يطلعوا فقط على ما نشر في العشر سنوات الاخيرة من ادبيات عن منطقتنا من قبل اكاديميين مختصين وعلماء ومؤرخين ومراقبين ومحللين ما نشر بصدد تفكيكها وتحللها واعادة تركيبها ضمن المجال الذي اسميته في دراسة نشرتها عام 1992 بـ " مربع الازمات " ، وماذا سيحل به في القرن الجديد ؟ المشكلة اكبر من ان نتخيلها في واقع قلما استطاع خبراؤنا تحليله وتقديم اجوبة حقيقية ومعالجات اساسية مع سيطرة قادة المتغيرات العرب الجدد في ادارة انظمة فاشلة وكيفية معالجاتهم المهترئة للازمات التي تفجرها حالات الانقسام والتشظيات التي خلقتها عوامل خارجية واقليمية ، مع حاجة مجتمعاتنا الطيبة المنكودة من الجوع والرعب والقسوة للمعالجة للتغيير والاصلاح نحو الافضل . ان امامنا 30 سنة اخرى من التحديات القادمة ستكشف كل همجيات التاريخ الراهن عن خطورتها وجسامة تداعياتها . فمتى ستولد قوة نوعية عربية تأخذنا بسيرورة حقيقية نحو المستقبل المجهول ؟  

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4852 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع