قضيةُ الموصل

                                          

                               آرا دمبكجيان

مقدمة
في نهاية الحرب العالمية الأولى و أندحار الأتراك و أنسحاب القوات التركية من شمال بلاد ما بين النهرين-العراق، أنتهزت القوات الفرنسية الفرصة و دخلتْ ولاية الموصل التي أصبحتْ من نصيبها حسب أتفاقية سايكس-بيكو الموقَّعة في 1916. واجهت القبائلُ الكردية القواتِ الفرنسية بمقاومةٍ عنيفة فأضطرَّت الأخيرة الى الأنسحاب الى سوريا.

حَسَّت بريطانيا بالغبن الذي لحقها في تلك الأتفاقية، فتقدَّمَ القائد البريطاني الجنرال ويليم مارشال (الذي حلَّ محل الجنرال مود بعد وفاة الأخير بالكوليرا في تكريت و دفنه في بغداد) مستغلّاً الفراغ الذي خلّفه أنسحاب الفرنسيين و دخل ولاية الموصل. أعترَضَت فرنسا على خرق الأنكليز الأتفاقية مما دفع بريطانيا على التفاوض من جديد من أجل ولاية الموصل، و تعهَّدَت تعويض فرنسا من نفط العراق، و خاصة من نفط الجنوب.

لم تظهر قضية الموصل في السياسة الدولية الى الوجود بعد أنتهاء الحرب العالمية الأولى في 1918 و زوال الدولة العثمانية في 1923 و تأسيس تركيا الحديثة بقيادة مصطفى كمال، بل كانت أقدم من كل ذلك.

رائحة النفط
كانت بريطانيا على علمٍ تام، حسب التقارير الأستخبارية، بوجود النفط في المقاطعات التابعة إدارياً الى ولاية الموصل الواقعة تحت الحكم العثماني، و أول من أكتشف النفط فيها كان المهندس الجيولوجي الألماني دودباخ في 1846 في القيارة.

بقيت مسألة نفط الموصل في الكتمان الشديد الى أن صرَّحَ ونستون تشرتشل تصريحَه الأستعماري الشهير في 1913: "على بريطانيا أن تكون مالكة للنفط، أو على أقلِّ تقدير مسيطرة على أحتياجاتها منه." و لم يتردَّد اللورد كرزن في أعلانه على الملأ: "إن حدود الهند تمتد الى ضفاف نهر الفرات."

قسمةٌ ضيزى
في منتصف الحرب العظمى جاءت أتفاقية سايكس-بيكو-سازونوف لتقسيم ممتلكات الرجل المريض و بموجبها حصلت فرنسا على ولاية الموصل، أما روسيا فكانت حصتها مضائق البوسفور و الدردنيل و القسطنطينية (أسطنبول) و أرمينيا الشرقية و كردستان الشمالية و جزءاً من الجنوبية. و كان من ضمن حصة بريطانيا العراق من جنوب ولاية الموصل الى الخليج العربي. لم تكن حصة بريطانيا كافية بنظر لويد جورج و أن التقسيم كان جوراً و ظلماً، فوصف الأتفاقية كونها "أغبى وثيقة."

أنتهجت بريطانيا نهجاً مختلفاً بعد التوقيع عليها و جَنَّدّت قواها لإلغائها في مؤتمر الصلح في باريس في 1919، و خاصة بعد سقوط روسيا القيصرية و قيام لينين بفضح مسألة الأتفاقية و إعلان خروج روسيا الجديدة منها.

أحتلال الموصل
قُبيل نهاية الحرب العالمية الأولى وَقَّعَت الدولة العثمانية المنهارة أصلاً الهدنة مع بريطانيا في 30 تشرين الأول 1918 دُعيَت ب "هدنة مودرُس". كانت الغاية منها إيقاف العمليات العسكرية كافة بين الدولتين. و في الثاني من تشرين الثاني، أي بعد ثلاثة أيام من توقيع هدنة مودرُس، دخل الجنرال البريطاني السير ويليام مارشال ولاية الموصل و لكنه واجه مقاومة عنيفة من قِبل الأتراك لغاية 15 تشرين الثاني 1918، فأسرهم بالكامل.

تمسَّكَ الأترك بولاية الموصل حتى بعد التوقيع على معاهدة سيفر في آب 1920 معلّلين أن الأنكليز أحتلّوها من دون وجه حق، أي بعد هدنة مودرُس مباشرة. و ردَّ اللورد كرزن، المندوب البريطاني في عصبة الأمم، أن السلطات التركية كانت قد أخْلَت المدينة ثم أحتلّها الأنكليز من دون مقاومة تُذْكر. في الوقت نفسه، كانت الموصل و ضواحيها بأيدي سكان الولاية نفسها و القوات العربية المعقودة قيادتها للضباط العرب. و أستمرَّت مطالبة تركيا بالموصل حتى بعد إلغاء معاهدة سيفر و التوقيع على معاهدة لوزان بين بريطانيا و تركيا في تموز 1923. و بقيت حجة تركيا نفسها لا تتغيّر.

كانت هناك وجهتا نظرٍ محتلفتين حول عائدية الموصل، واحدة بريطانية-عراقية و الأخرى تركية.

أستمرَّ الساسة البريطانيون في لندن و بغداد على رأي التمسُّك بولاية الموصل لأنها في غاية الأهمية الى الدولة العراقية الجديدة بسبب مواردها الطبيعية، أولاً، و تأمين حدودها الجبلية، ثانياً. و على هذا الأساس جاء تصريح اللورد كرزن أن ولاية الموصل تعتبر منطقة حدودية ذات أهمية أستراتيجية للعراق الحديث، حيث أن الحدود الشمالية للعاصمة بغداد تبعد 60 كيلومتراً عنها، و أن أحتلالها من قبل تركيا ستشكِّل تهديداً مباشراً لبغداد التي ستكون تحت رحمة العساكر التركية. و أضاف ان الحكومة البريطانية لا تريد أن ترى أي خطر يهدِّد بغداد.

في الوقت نفسه كان قادة تركيا الحديثة يعيشون هاجس الحركة القومية الكردية لئلّا تنمو تحت الأنتداب البريطاني و تبدأ في خلق المشاكل في أوساط أكراد تركيا. أستندت المخاوف التركية من الدولة الكردية المنْتَظَرة على ما جاء في المادة السادسة عشرة من "لائحة الأنتداب البريطاني" في 9 كانون الأول 1920: "لا يوجد أي مانع في هذا الأنتداب أن يؤسس الدولة المنتَدِبة حكومةً مستقلة إدارياً في المقاطعات الكردية." و جاء كل هذا بعد قرار مجلس الحلفاء الأعلى المنعقد في سان ريمو في 25 نيسان 1920 وضع العراق تحت الأنتداب البريطاني و سوريا تحت الأنتداب الفرنسي.



معاهدة لوزان
بعد أن سيطرَ مصطفى كمال على الأراضي التركية و أصبح السلطان العثماني مهمَّشاً ليس له أي أعتبار، طالبَ بإلغاء معاهدة سيفر الموقَّعة في  10 آب 1920 و التي أقرَّت الحقوق القومية للأقليات في تركيا العثمانية. غَيَّرَت الدول العظمى وجهة نظرها في تلك المعاهدة فارتأت أن تتعامل مع تركيا موحَّدة بدلاً من دويلات مبعثرة لقوميات صغيرة لا تقوى على تحقيق مصالحها الأستراتيجية و الجيو-سياسية. فأجتمع ممثلو دول الحلفاء و وقَّعوا على معاهدة لوزان في تموز 1923.
من جملة الأسباب التي دعَت دول الحلفاء، و خاصة بريطانيا، الى تبديل مواقفها من معاهدة سيفر التي نصَّت على إقامة كيانٍ قوميٍ كردي حسب البنود 62 و 63 و 64  أن تأسيس دولة كردية قد يؤدي الى إخلال توازن القوى في الشرق الأوسط لصالح الدولة السوفييتية. و فضَّلَت بريطانيا أن تقبل تركيا الموحَّدة كحليف دائم لمواجهة طموح لينين في الأمتداد جنوباً، فوجَدَت ضالّتها في مصطفى كمال.

النزاع الحدودي
ما يهمّنا هنا هي مشكلة ولاية الموصل و النزاع الحدودي بين العراق و تركيا.
جاءت في المادة الثالثة من المعاهدة: "على الحكومتين البريطانية و التركية أن تقوما بتسوية الحدود الفاصلة بين تركيا و العراق بطريقة دولية و في غضون تسعة أشهر، على أن تُحال القضية الى مجلس عصبة الأمم إن لم تتوصّل الحكومتان الى أتفاق خلال المدة المعيَّنة."

و بعد أن عَجَزَت الحكومتان على إيجادِ الحل لتسوية الحدود، قرَّرت العصبة في 30 أيلول 1924 تعيين لجنة من السياسيين و الجغرافيين و المستشرقين العالميين، منهم البلجيكي و المجري و السويسري و الهولندي و التركي و العراقي.

تألَّفَت في بغداد لجان و جمعيات مدنية للدفاع عن عراقية الموصل ضد المطالب التركية، و في 25 كانون الثاني 1925 تأسَّسَت جمعية الدفاع الوطني و من أعضائها محمد حبيب العبيدي الحسيني و أحمد الفخري الحسيني و مصطفى الصابونجي و عبد الغني النقيب الحسيني  و أرشد العمري و أبراهيم كمال و و ناظم العمري و علي الإمام و المطران الكلداني يوسف غنيمة و المطران الأرمني كريكور. أسرى لي صديق موصلي أن الدكتور كريكور أستارجيان (صاحب القصر المشهور في الموصل) كان من ضمن أعضاء اللجنة.

بدأت اللجنة عملها في تقصّي الحقائق عن طريق طرح الأسئلة على المواطنين العراقيين. و عن هذه المسألة بالذات يذكر ناظم بك النفطجي عن نوعية الأسئلة التي كان الممثلون الأتراك يطرحونها بخباثة على بسطاء الناس حول المفاضلة بين الأنضمام الى تركيا المسلمة أو السير خلف الأنكليز الكفّار.

لقد تناسى أولئك أن تركيا (المسلمة) قد فَصَلَت الدين عن الدولة و ألْغَت السلطنة و الحروف العربية. هو الأسلوب نفسه الذي أتَّبَعَهُ السلطان عبد الحميد قبل ثلاثين سنة من ذلك التاريخ و أعضاء حزب الأتحاد و الترقي الدونميون قبل عشر سنوات في تأجيج مشاعر البسطاء من الناس من الأتراك و الأكراد للقيام بالإبادة الجماعية للأرمن.

في هذه الأثناء قدَّمَ المندوب البريطاني إحصائية عن عدد سكان ولاية الموصل و رفض القوائم التي جاء بها المندوب التركي التي كانت تمثِّل قوائمَ بأسماء المجنَّدين للخدمة العسكرية العثمانية. و ذكَرَ المندوب البريطاني أن تعداد ولاية الموصل كان بحدود 788,000 مواطن منهم  455,000 من الأكراد و 186,000 من العرب و 66,000 من الترك و 62,000  من الملل المسيحية المختلفة و 19,000 من اليهود.

قرار اللجنة
قرَّرَت اللجنة عائدية الموصل الى العراق و تثبيت الحدود بين الدولتين وفق خط بروكسل حسب قرار مجلس العصبة في  29 تشرين الأول 1924.

يعتبر خط بروكسل الحدود العراقية-التركية و يبدأُ من ملتقى نهر دجلة مع خطِّ الثالوك لنهر الخابور الى أن يلتقي بخط الثالوك لنهر الهيزل ثم الى نقطة واقعة على بعد ثلاثة كيلومترات فوق ملتقى النهر. و يستمرُّ الخط بالأرتفاع و الأنخفاض لينتهي بنقطة الألتقاء بخط مستقيم المياه الواقع بين حوضي نهر حاجي بك و رافده الذي يمر من شرق اوربا. و بعد أن يتبع خط تقسيم المياه المذكور يسير رأساً الى نهر حاجي بك، ثم يسير مع النهر معاكساً الجريان الى الحدود الإيرانية.

كان خط بروكسل من مقرّرات عصبة الأمم ... و قبِلت تركيا القرار.

الأبتزاز التركي
و لتثبيت الإطار النهائي للمعاهدة الثنائية برزت الى العيان الأهداف المبيتة من الضجّة التركية حول الموصل، إذ طالبت بتنازلاتٍ معيَّنة من الجانب العراقي. طلبت تركيا أراضي عراقية بمساحة 1000 كيلومتر مربّع في منطقة اشوشار امون لأسباب أستراتيجية تتعلق بأمنها الوطني. و طالبت بحصة  %10 من حصة العراق في شركة النفط التركية لمدة 25 سنة، على أن يُسدِّد العراق أيضاً مبلغاً قدره عشرة ملايين و 750 ألف جنيه أسترليني. وافق العراق على الرغم من أمكانيات الدولة العراقية الحديثة ذات الخزانة الخاوية.

و في أثناء وجود الممثل العراقي نوري باشا السعيد في أنقرة، عَرَضَ على وزير خارجية تركيا أستعداد الحكومة العراقية على دفع 500 ألف جنيه أسترليني صفقة واحدة لقاء تنازل تركيا عن أستحقاقها الذي أقرَّتْه المادة الرابعة عشر من المعاهدة من حصة العراق في شركة النفط التركية بهذه التسوية، و لكنها عادت و فضَّلَت الأستمرار على قبول ال %10 من الحصة المذكورة.

خاتمة المطاف
صَدَرَ قرار مجلس عصبة الأمم بالأجماع في  16 كانون الأول 1925 بترسيم الحدود العراقية-التركية مع جعل خط بروكسل خطاً فاصلاً  بين الدولتين وبقيت الموصل مدينة عراقية بأعتراف المجتمع الدولي المتمثِّل بعصبة الأمم. و على هذا الأساس تم التوقيع في العاصمة التركية أنقرة على معاهدة بين بريطانيا و المملكة العراقية من جهة و تركيا من جهة أخرى في 5 خزيران 1926 لتثبيت الحدود العراقية التركية و أعتبرت هذه الحدود نهائية و غير قابلة للخرق من أي جهة حسب المادة 5 من المعاهدة.

و في 15 آذار 1927 أعلَنَت تركيا أعترافها الرسمي بالدولة العراقية.

التهديد التركي المستمر
لا زالت الأطماع التوسعية التركية في العراق قائمة خاصة في العهد الأردوغاني الحديث. و كان تصريح السيد عبد الله غول، عندما كان وزيراً للخارجية، مثيراً للإشمئزاز عندما أعلن صراحة و جهاراً تهديده بإلغاء أتفاقية  1926. و صرَّحَ أن تركيا الكمالية لم تتخلَّ عن ولاية الموصل لسواد عيون العراق، و تصريح مثل هذا لا يمكن بأي حال أن يصدر من شخص يتولى حقيبة الخارجية في دولته، لأنه مناداة لإعلان الحرب إن حصل ذلك فعلاً.
يظهر أن الذين يقتسمون "كعكة" العراق ليسوا بالعدد الكافي لإنهائها، لهذا حَمَلَ غول صحنه من باب المشاركة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

568 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع