د.سامان سوراني
بالرغم من أن الوجودية ولدت في ذروة التمثل والتمرس الفلسفيين ، إلا أنها باتت أكثر قبولاً لدی عامة الناس مما هي لدی الفلاسفة وصارت كتیار تحمل عناصر وجوانب عدة تمس مطالب الناس وحاجاتهم وهمومهم وهكذا إبتعدت عن المذهب الفلسفي وغدت موقفاً بلا ضفاف يصعب تحديده.
وقد لعب الفيلسوف والروائي والكاتب المسرحي والناقد الأدبي والناشط السياسي الفرنسي جان بول شارل ايمارد سارتر (1905- 198٠) في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي دوراً كبيراً في تفعيل "شعبية" الوجودية ، فصياغاته الأدبية الرائعة والبالغة القوة توفرت للوجودية صيغ سلكت الی الناس طريقاً أكثر يسراً ووضوحاً لم تكن متوفرة من قبل.
أما الحرب العالمية الأولی فكانت لها كصدمة أسقطت تفاٶلية القرن التاسع عشر وكلياته الإجتماعية والسياسية والنظرية أثر بليغ في ذلك. إن شيوعها خارج إطار المتخصصين أدی الی ضياع حدودها المميزة وبات من الصعب تعين حد الوجودية بتعريف وافٍ يكون موضع إتفاق أو إجماع. وهذا ما أجبر الأديب الفرنسي غابرييل مارسيل (١٨٨٩-١٩٧٣) ، الذي صُنّف لاحقاً رغماً عنه ضمن التيار الوجودي بالقول: "يكاد لايمضي نهار دون أن يسألني واحد من الناس ، ماهي الوجودية؟...فأقول إنه يطول ويصعب شرحها. كل مايمكنني فعله هو أن أقدم بعض مفاتيحها ، لا صياغة تعريف لها".
وبما أن الوجودية تضرب عمقاً في تاريخ الوعي البشري ، في بدايات تفلسفه مع الإغريق و سقراط بالذات ، لكنها وجدت تجلیاتها الحديثة ، معبراً عن أزمة الإنسان في وجوده ومواجهته وجوده ومصيره كفرد ، أو کـ"أنا" خارج مطلة المجتمع والتاريخ والمٶسسات والمطلق ، منذ سورين كيركغارد (١٨١٣-١٨٥٥) في أواسط القرن التاسع عشر ، مروراً بفردريك نیتشه (١٨٤٤-١٩٠٠) ومارتين هيدغر (١٨٨٩-١٩٧٦) و كارل تیودور ياسبرز (١٨٨٣-١٩٦٩) وصولاً الی سارتر.
هٶلاء يمكن أن نصفهم بمحبي الحكمة لا بممتهنیها ، أستطاعوا توجیه الناس و إنارة دروبهم. فسقراط مثلاً لم يقم في يوم من الأيام بإملاء أحكاماً وطروحات علی الناس ولم يمنع عنهم أشرعة التفكير ، بل حثؔهم علی التفكير ونزع حجب الإستكانة والتقليد ودعاهم لأن يكتشفوا الحقيقة بأنفسهم.
إن بعض من الفلاسفة الوجوديين إقتحموا المجال السياسي لا من أجل أدلجة المعرفة وتسييس الفلسفة ، بل بهدف الاحتكام الى العقل في الخلافات بين وجهات النظر المتصارعة وإعطاء الكلمة الى الفلسفة لفصل المقال بين المخالفين وتحديد وجهة المجتمع عند المنعطفات ووضع برنامج عمل للمستقبل و السعي من أجل المساهمة في البناء.
من المعلوم بأن الأنظمة شمولية في العالم تصادر الحقوق والقيم وخاصة العدالة والمساواة وتداهم البنية الأخلاقية للمجتمعات والثقافات وتزرع رؤية جديدة للكون تقوم على الأنانية والعنف.
من الواضح أيضاً بأن الصراع ضد الشمولية يقتضي الإقبال علی الوجود بجرأة والسعي لتشكيل رأي عام مضاد متعدد ومختلف جذرياً عن الثقافة السائدة ، رأي يحمل في داخله إبتداءات ممكنة على جميع أصعدة الحياة ، لايتوقف فقط عند إصدار بيانات وخطابات شعرية أو ترديد شعارات تمجيد للحرية والعدالة. الإنسان قادر علی الإبتداء ، بل هو نفسه الإبتداء والانسان كما يقول اسبیوزا لا يولد مواطناً بل هو يتربى على المواطنة. فالمواطن هو الدولة في الانسان الفرد ، لهذا السبب تشغل التربية مكاناً هاماً في اقتصاد هذا النظام. أما قيم المواطنة فيمكن تفعيلها من خلال رسالة تربوية تٶمن بتنمية البشر من الناحية الفيزيائية والاخلاقية وتدفع المواطنين الی إحترام بعضهم البعض وحسن تدبير الكون وتحملهم مسٶولية الوجود علی الأرض. هذه رسالة يجب أن تخلو من هيمنة ثقافة الميوعة وعقلية الإستهلاك ، لترفض تعليم يركز علی اللغات والمواد الدينية أو يروؔج لأفكار حزبية مغشوشة وآراء الأيديولوجيات الضيقة ومعتقدات ماضوية ودعاوی دينية مطلقة. الفلسفة الوجودية تحاول إعادة الثقة الضمنية لأهل العصر الحاضر في البحث بجدية عن الذات والحقيقة الإنسانية. وكل جهد يبذل في سبيل استرجاع الإيمان الفلسفي الحقيقي ، إنما هو جهد إنساني يحقق للبشرية وحدة حقلية شاملة.
المجتمعات الشرق الأوسطية أحوج ماتكون الی إتجاه عقلاني أصيل. نحن نعرف بأن نزعات عاطفية متطرفة وإتجاهات وجدانية هوجاء سيطرت علی نفوسنا منذ عهد بعيد ، حتی أصبح المحرك الأوحد لكل أفكارنا وأفعالنا وسائر مظاهر نشاطنا. نحن لاننکر دور الوجدان في تحديد الكثير من مظاهر السلوك لدی البشر ، منها الحياة الخلقية ، لكن المواقف الوجدانية غير كافية لخلق روح فلسفية أو إرساء دعائم أية عقلية علمية. لذا نری بأن الكثير من الأحكام الصادرة من قبلنا ، سواء كانت أحكام تصدر في مجال الفكر ، أم في مجال السياسة والاستراتيجيات، أم في مجال التنظيم الإجتماعي ، أم في مجال التخطەط الاقتصادي، أم في غير ذلک من المجالات ، أحكام عاطفية تغلب علیها صفة الإندفاع الوجداني. النزعة العقلانية ليست هبة تختص بها شعب دون آخر ، بل هي عادة مكتسبة يمكن أن تصبح لدی أي شعب من الشعوب ، تحت تأثير التربية والتدريب والممارسة.
ولابد هنا أن نذكر دور التفكير المنهجي والتحليل المنطقي في كل عمل ودراسة علمية جادة. فعندما لا نتوخی الدقة في إستخدام المصطلحات ولانراعي التسلسل المنطقي في تنظيم الأفكار ولانلتزم قواعد البحث العلمي في التفكير ، فإننا بالتأكيد نبقی نستخرج من المقدمات مايلزم عنها بالضرورة من نتائج و نترك في الإستدلالات العقلية فجوات وثغور وذلك بسبب عدم التزامنا بقواعد البحث الرياضي، تلك التي
أشاد بها كل من رينيه ديكارت (1596 –1650) و غوتفريد فلهيلم ليبنتس (1646-1716) و إدموند هوسرل (1859 - 1938) وغيرهم.
الفلسفة الوجودية تهدف الی خلق الشعور بالحرية وإيقان بأن الحق فوق القوة والإعتراف بأن العلاقات البشرية ينبغي أن تقوم علی التفاهم والتسامح ، لا علی التخاصم والتنازع. فالحرية لايعني الإنطواء علی النفس أو قطع وشائج التواصل مع الآخر ، بل تعني الحوار مع الآخر لتحقيق المزيد من أسباب التفاهم بين بني البشر. الوجودية تضع كل الآراء المسبقة موضع البحث وتواجه الشكوك والأكاذيب والخرافات بكلمة "لا" كالمتمرد للفيلسوف الوجودي ألبرت كامو (١٩١٣-١٩٦٠)، فالرفض هنا ليس الهدم لمجرد الهدم ولا الإنكار لمجرد الإنكار ، بل هو القضاء علی الأساطير الوهمية الكاذبة التي مايزال الناس يرون فيها "حقائق" واضحة بينة. إن مواجهة التفلسف للأشخاص والأشياء تقوم علی احترام حق كل إنسان في التفكير ، لا علی فرض الحقيقة الذاتية فرضاً علی الآخرين. فالإنسان في نظر سارتر هو خالق لنفسه لأنه وحده متصور لها ، فهو مشروع يعيش بذاته ولذاته وهو لايوجد إلا بمقدار مايحقق ذلك المشروع وهو حرؔ يمتلك زمام وجوده ومصيره. فالوجودية هي في النهاية ثورة الأشياء الذاتية الصغيرة ضد كل الشعارات والأسماء الكبری والمذاهب التي تدؔعي الشمول.
وختاماً يقول الفيلسوف الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا المعروف بمونتسكيو (١٢٦٨٩-١٧٥٥) صاحب نظرية الفصل بين السلطات: " لا تستفلح البلدان تبعاً لخصوبتها ، بل لحريتها". وإن جاز الإضافة فنقول ، تستفلح البلدان تبعاً لممارسة الأفراد لحرية الرأي والتعبير.
الدكتور سامان سوراني
866 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع