احمد فخري
في هذه الايام العصيبة، اسمع الكثير من الآراء التي تصب في بودقة العداء لاخواننا المسيحيين.
وكذلك اسمع عداءاً مضاداً من اخواننا المسيحيين ضد المسلمين فاين هي الحقيقة ولماذا كل هذه الضغينة ما بين افراد تلك الديانتين السماويتين؟ هل كانت تلك الكراهية كابحة بنفوس العراقيين منذ الازل، ام انها وليدة الحاضر الاليم الذي يعيشه العراق اليوم؟ هل قبل المسيحيون في الماضي الرضوخ والـ (مجاملة) للمسلمين كي يفتحوا قلوبهم وافواههم اليوم لما لم يكونوا يتجرأوا على قوله وفعله بالسابق؟ هل اصبح العيش بينهم وبيننا مستحيلا لدرجة القطيعة الكاملة؟
كل هذه التسائلات وغيرها تجرني الى البحث والتمحيص في تاريخ علاقتنا مع أولئك الناس الذين سكنوا بلدنا منذ قرون عديدة. بل يخبرنا التاريخ انهم سبقونا في الاستيطان بوادي الرافدين. لذا اين المشكلة؟ وكيف يمكننا ان نحلها ان كان هناك حل اصلاً؟
تحدثنا كتب التاريخ عن العلاقة ما بين الديانتين بانها كانت دائما ذات لون من المودة والرحمة. منذ ان دخل المسلمون الى المناطق التي استوطن بها المسيحيون. دعني اسرد لكم ما حصل للخليفة الاسلامي عندما حكم بلاد الشام:
كان من الإنجازات البارزة في عهد الوليد بن عبد الملك (707م) بناء الجامع الأموي الكبير أو مسجد بني أمية في مدينة دمشق، إذ كان مقتسماً بين المسلمين والمسيحيين لتأدية عباداتهم منذ فتح الشام، لكن مع ازدياد أعداد المسلمين قرَّر الوليد تحويله بأكمله إلى مسجد للمسلمين، وذلك مقابل تعمير أربع كنائس للمسيحيين في المدينة، وكان ذلك في السنة نفسها التي تولى فيها الخلافة.
تخيل أيها القاريء، خليفة مسلم بدولة مسلمة يصلي فيها المسيحيون والمسلمون ببيت عبادة واحد. وعندما يكتظ بهم المكان يقوم الخليف بتخصيص ذلك المسجد للمسلمين ثم يبني 4 كنائس بدل منه للمسيحيين.
هل يدل ذلك عن موقف عداء وحقد وبغض وكراهية؟ ام انه يدل على احترام متناهي ومعاملة الطرف الثاني على انه طرف مساوي؟
اما إن نظرنا الى الماضي القريب فنجد ان في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم مثلاً كان للمسيحيين كل الحق في انشاء متاجرهم ومدارسهم وكنائسهم ودور عباداتهم ونواديهم ولهم الحق في ممارسة طقوسهم الاجتماعية والدينية، ولا اذكر يوما ان احد منهم قد تعرض لاعتداء واضح بغرض الفرقة الدينية بتاتاً. وبالمقابل فقد ابدى المسيحيون للمسلمين حباً جماً نابعاً من علاقة الجيرة والمواطنة والمصير الواحد. وانا كاتب هذه المقالة قضيت اول عقد من حياتي ادرس بمدارس مسيحية بالعراق ابتداءاً من مدرسة راهبات مريم ثم مدرسة القديس يوسف ثم كلية بغداد التي كانت تدار وقتها من قبل الرهبان اليسوعيون.
لم يشعرني احد بتاتاً باني دخيل عليهم. فقد كان الطالب المسلم يعامل معامة متساوية تماماً كقرينه الطالب المسيحي. فانا لا يمكن ان انسى الحنان الذي كانت تمنحني اياه الراهبات اللواتي اشرفن على تعليمينا ولم يتعدى عمري الخمس سنوات. فذكرى الراهبة سنتتين والراهبة كرستين لا تزال في ذاكرتي منذ اكثر من نصف قرن.
وخلال وجودي بمدرسة القديس يوسف الابتدائية كان الحب متبادلاً بين الطلاب والمدرسين بغض النظر عن المعتقد الديني. ولم يكافأ احد او يعاقب احد على هذا الاساس ابداً. بل ان الطلاب المتفوقين والطلاب الفاشلين كانوا من كلا الديانتين. لا فرق بينهما بتاتاً. فكيف استطيع ان اكره هؤلاء الناس اذ علمني ديني (وما جزاء الاحسان الا الاحسان صدق الله العظيم).
لقد كنت احضر دروس الصلاة عندهم طوعاً. ولم تفرض علي يوما. ولم اسمع من احد المدرسين او الرهبان انه اراد ان يحيدني عن ديني كي ادخل الدين المسيحي. ولم يقع شجار بين طالبين من كلا الطرفين كي يتحيز الاستاذ لواحد منهما دون الآخر. هذه تجربتي مع هؤلاء الناس الذين اقل ما استطيع ان اقول عنهم انهم اخواني واهلي.
ان من يحكم على الموضوع من سياق المجريات التي يمر بها العراق حاليا يكون مخطئاً تماماً. فالوضع اقل ما يمكن القول عنه انه غير اعتيادي. والاعتدائات التي تعرض لها اخواننا المسيحيين في الفترة ما بين 2003 وحتى الآن لهي مثال واضح لما يجري بشكل عام في بلدنا العراق الجريح. فالعنف لم يقتصر على كنائس المسيحيين فحسب. بل طال مساجد المسلمين بشقيهم الشيعي والسني. والاعتدائات الشخصية كذلك طالت كل الاطراف. ومن سكن سوريا مع اللاجئين في فترة ما بعد 2003 يجد ان اللاجئين كانوا من الشيعة والسنة والمسيحيين والصابئة وحتى من الاكراد بالرغم من انهم كانوا يتمتعون بمنطقة آمنة من بطش الارهابيين آن ذاك.
في اواخر التسعينات من القرن المنصرم دخلت علينا المحطات الفضائية ومعها دخلت ظاهرة غريبة على مجتمعنا لم نكن نعهدها من قبل، الا وهي ظاهرة القنوات الدينية. هذه القنوات اصبحت منتشرة بشكل واسع جدا بحيث لا يخلو قمر اسطناعيا من عشرات من هذه القنوات من كل الاديان والمذاهب. ومع شديد الاسف فان هذه القنوات لديها وجهان. الوجه الضاهر هو وجه ديني يدعو الى الايمان بالله والصلاة والعبادة والوجه الاخر سياسي بحت بؤلب الناس على الاحقاد ضد الفئات الاخرى ويزرع الحقد والفرقة بينها. انا لا استثني من هذه القنوات اي احد لانها جميعا اتت باجندات ما انزل الله بها من سلطان. ومع شديد الاسف صار البعض من الناس ساذجين الى درجة عالية بحيث اصبحت تنطوي عليهم تلك الاساليب الرخيصة الهادفة الى تحطيم لحمة العراق والعراقيين. لذا انصح جميع العراقيين ان لا ينجرفوا الى هذا التيار المبني على الحقد وعلى اقصاء الاطراف الاخرى خشية الوقوع في فخاخ هؤلاء المغرضين.
في الختام اود ان اقول للمسلم ان المسيحي اخوك ولن يتغير ذلك مهما مر الزمان. وللمسيحي كذلك اود ان اعلمه ان عراقنا هو عراق واحد ليس حكراً على دين واحد او مذهب واحد وانه سيظل اخ لنا مهما ساءت الظروف واتمنى لهم عيد ميلاد مجيد وللجميع عام جديد ينشر الافة والمحبة في ربوع وطننا العزيز.
الگاردينيا: نرحب بالأخ / أحمد فخري بانضمامه الى حدائقنا...ننتظر جديدكم
551 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع