طلعت ميشو
أحياناً .. في ظلمة آخر الليل، يطرق الماضي زجاج نافذتي ويهمس لي: أما آن لكَ أن تنسى ؟.
هو العيد القادم من بعيد يطرق أبوابنا مرة أخرى، حاملاً كعادته نفس المشاعر المزدوجة للحزن والفرح، لكنه يبقى عيداً، ونبقى نستقبله كل سنة بعفوية طفولية تُضيئ كل العوالم التي حولنا وتدعنا ننسى ولو لأيام الوحش الذي يسكننا ويتقمصنا داخل متاهة الغابة الكبيرة.
لماذا يُحب الناس العيد!، وأي سحرٍ يجعلنا نحبه بهذه الصورة العفوية، حتى حين نجرده ونُفرغهُ من معانيه الدينية!!؟. يقول نزار قباني: ليس سهلاً أن نشرح لماذا نحبُ إمرأة أو مدينة أو أي شيئ آخر، فمن طبيعة الشروح أن تغتال الشيئ الذي نحبه!.
إنتهينا اليوم -زوجتي وأنا- من نصب وتزيين شجرة الميلاد بمئات المصابيح واللعب الملونة الجميلة، وإمتلأ داخل البيت وخارجه بالزينة والألوان ورموز العيد التقليدية إستعداداً لإستقبال "إبن الإنسان".
إنتصف الليل ونام كل أفراد العائلة، وكعادتي -التي ورثتها من أمي- في الليلة التي تسبق العيد، أطفأتُ جميع مصابيح البيت إلا مصابيح شجرة الميلاد ومصابيح ذاكرتي، وأسندتُ رأسي لوسادة كبيرة مُريحة قرب شجرة العيد التي أُحس بها كواحدة من بناتي الأربعة، وإحتضنتُ كلبتنا الصغيرة الوديعة التي أراحت رأسها فوق صدري بصمت وقد أعجبها الجو الهادئ الدافيء الذي تشعه المدفاة الجدارية القريبة، فالحيوانات كالإنسان يُريحهم الجو المُفعم بالمحبة والدفيء والأمان.
أروح في تطوافي السنوي عبر أغصان شجرة الميلاد التي تعني لي أشياء لا حصر لها في عالمٍ شبه سحري متميز وخاص يخطفني طواعيةً ويُعيدني طفلاً بريئاً بعيداً عن حراب الغابة الحياتية وشرورها.
وكآلة تخترق الزمن، أعود إلى الماضي البعيد ببطيء لذيذ لأتجول عبر ركام محطات حياتي الماضية بورودها وأشواكها. وتقودني دوامة السنين والذكريات في نهاية المطاف لتشتلني في واحدة من أسعد سنوات حياتي في زمن العهد الملكي، يوم كنتُ في السابعة أو الثامنة من العمر، ويوم كان العيد فرحة غريزية وسعادة بيضاء بطعم النعناع لأطفالٍ أبرياء يحاولون أن يجدوا مكاناً لهم تحت الشمس.
كان والدي يأخذنا -أخي الذي يكبرني بثلاثة سنوات وأنا- لشراء شجرة العيد من الأسواق القريبة. نمشي في السوق بكل ذلك الألق والفرح العفوي، نتعاون في حمل شجرة طيبة الرائحة، نُباهي أقاربنا بكبر حجمها!، لننصبها في غرفة المعيشة حيث تجتمع العائلة كل ليلة، ونُزينها بما يتيسر من مصابيح صغيرة وزجاجيات ولُعب لماعة ومُزخرفة بألوان فاقعة لا حصر لها، ورموز دينية، وأشياء جميلة أخرى في بيت متواضع لأسرة من الطبقة المتوسطة في عراق أيام زمان.
في تلك السنة قرَرَتْ والدتي أن تأخذنا -أخواتي الثلاثة وأخي الأكبر مني وأنا- ولأول مرة بالنسبة لي ولإختي الأصغر مني، لحضور القداس الصباحي المُبكر جداً في كاتدرائية (أُم الأحزان) العتيقة الشهيرة في قلب بغداد.
في ليلة العيد تم تشغيل مرجل الحمام الذي يعمل بالنفط الأبيض لتسخين ماء الخزان الكبير، وبعد الحمام الحار المُشبع بالبخار وروائح الدارسين كُنا نلبس بجاماتنا ودشاديشنا الجديدة الملونة المصنوعة من قماش (البازة) الشتوي، بينما والدتي في حركة متواصلة تشعل الشموع البيضاء الكبيرة وتحرق البخور الخرافية الرائحة كعادتها في أماسي الأعياد والمناسبات الدينية الخاصة، ثم تجمعنا أمام صورة قديمة للسيدة العذراء -ورثتها من عائلتها- لنشاركها في صلوات وإبتهالات وتراتيل العيد التي تعلمناها من والدي ووالدتي قبل أن نتعلمها في حصص دراسة (التعليم المسيحي) من قبل الراهبات الحازمات الصارمات اللاتي لم أُشاهد أحداهن تبتسم ولو لمرة واحدة !.
ورغم أن والدي لم يكن يشترك في أية مراسيم أو صلاة دينية، إلا أنني كنتُ المحهُ خلف جريدته اليومية وهو يرسم علامة الصليب على وجهه عند نهاية الصلاة التي كانت تقدمها والدتي ونرددها نحنُ كالببغاوات، والتي بقينا نرددها كل صباح ومساء لسنين طويلة وبطريقة آلية تشابه مضغ العلك بين الأسنان، رغم أن العلك يحمل طعم السُكر بعكس الصلوات التي كانت تُسقمني بجمودها ورتابتها والتي عندما نضجتُ فيما بعد حَوَلتُها إلى مناجاة وحوار بيني وبين الرب.
بعد العشاء كانت والدتي تُطفيء كل مصابيح الدار، وتُبقي مصابيح شجرة الميلاد تتألق حتى الصباح، مع شمعة كبيرة متينة تحترق بجمالية ساحرة أخاذة أمام صورة العذراء. وكانت والدتي الراحلة تطلب ِمنا دائماً وفي الليلة التي تسبق صباح العيد أن نقوم بمراجعة وجرد السيئ والجيد في حياتنا وسيرتنا وذواتنا للسنة المنصرمة، إستعداداً لإستقبال السنة الجديدة بصمت وجرأة وثبات ومحبة ونوايا طيبة.
بعدها كُنا نذهب لننام مُبكرين إستعداداً لملاقاة صباح العيد الذي هو أجمل صباح في كل السنة. ننام وبجانب أسِرَتِنا ترقد ملابس العيد الجديدة التي كنا نَتفقَدها كل ليلة ولا نكاد نصبرعلى لحظة فتحها والتمتع بما تحويه من طيبات. كُنا نشمُ روائحها الخاصة التي يعرفها كل طفلٍ لم يترعرع في احضان البطر
والبذخ. أكثر ما يجعلني أبتسم لتلك الذكريات هو أن رائحة الأحذية الجلدية الجديدة بقيت -ولحد اليوم- أكثر عَبقاً وإغراءً من كل روائح العطور الباريسية التي نمتلكها اليوم!، ولا يُعيبني لو صَرَحتُ بأنني لا أزال أستمتع برائحة الأحذية الجديدة كلما إبتعتُ واحدة منها اليوم!، وأعتقد أن أغلبكم يبتسم الأن لأنه يحمل نفس التجربة الطفولية القديمة التي ما زالت تُغلفهُ وتحتويه، فكلنا نحمل خلفيات حياتية إجتماعية ومعيشية متقاربة جداً.
توقظنا والدتي في الرابعة صباحاً والظلام الشتائي لا زال يُخيم فوق المدينة، ننهض بحيوية ونشاط وصمتٍ هامس وإبتسامة عريضة مُشرقة غير إعتيادية تتمطى فرحاً فوق وجوهنا الطفلة، يا إلاهي ها هو العيد اللذيذ السعيد قد حل بيننا أخيراً، وكل شيئ حولنا يبدو بهيجاً ودوداً ملوناً يوحي بالفرحة والأمان، فكأن مخلوقاً سحرياً مَرَ أثناء الليل ولوَنَ كل شيئ.
بعد الإستمتاع بأولى لحظات اليقظة، تمتد أصابعنا تحت وساداتنا حيث تغفو ورقة نقدية (نصف دينار) تمثل عيدانية يدعي والدي وبإصرار أن (بابا نويل) مر ليلاً وتركها تحت وساداتنا، كُنا نبتسم بين مُصدقٍ وشكاك، وكم كان بودنا لو نصدق تلك الحكاية الجميلة لحد التبني!.
تطبع والدتي قبلاتها الحنونة على وجناتنا، وتُعانقنا بشدة وحب وإبتسامة عريضة وهي تهمس لكل مِنا: عيدكم مُبارك، أيامكم سعيدة، ليبارككم الرب ويحميكم طوال حياتكم. واليوم .. وبعد أن إبتلعت دوامة الحروب أخويَ الإثنين.. أُحاول أن أجد الأعذار للرب الذي لم يسمع دعاء أُمي ودعاء ملايين الأمهات!. ويبقى سؤالي يُعذب لساني: أية حكمة تلك التي يدفع من خلالها الرب بأغلب مخلوقاتهِ إلى الفناء بهذه الصورة!؟.
بعد أن نغسل أسناننا ووجوهنا نلبس ملابس العيد بلهفة وعجلة وشغف وتلذذ، وكدوزنة الآلة الموسيقية قبل العزف، نقف أمام المرآة مبتسمين ونحنُ نُجربُ بعبث طفولي كل أنواع (البوزات) والوجوه البوكرية والكرنفالية بينما والدتي تتضاحك من تصرفاتنا البريئة وتُساعدنا في هندامنا وأناقتنا وتصفيفة شعرنا التي كانت على موديل وطريقة مُطربي ال ROCK & ROLL يومذاك.
كُنا نمشي بأحذيتنا الجديدة فوق بلاطات غرفة النوم ونحنُ ( نُجَرقِع ) كعوب أحذيتنا فوقها مُحدثين ذلك الإيقاع الذي كان يجعلنا نشعر ومع كل الملابس الجديدة بأهميتنا وكأننا أولاد الوزير أو ممثلين سينمائيين من برادوَي!، ومن قال بأن الطيبات لا تُفسد الإنسان وتُصيب حتى الأطفال بالغرور والشعور بالعظمة!؟.
ننزل إلى الطابق الأرضي من الدار لتناول وجبة فطور خفيفة، حيث كانت فرحة العيد دائماً تسد شهيتنا للأكل. وكُنا نتهامس بصوتٍ خافت لأن والدي ينام في الغرفة المجاورة مستمتعاً بيوم راحة في عطلة العيد.
لم بكن والدي يخضع للجو الإجتماعي والديني السائد، وفي أغلب الأحيان كان على نفور مُستحكم مع الكهنة الذين كان يُطلق عليهم تسمية (الغربان)!،
ربما لأنهم يلبسون الأسود، ولم أشاهده يرتاد الكنيسة إلا في المناسبات الإجتماعية كقداديس الزواج أو الوفاة. وكان يؤكد بأن علاقته مع الرب لا تحتاج لكاهن أو وسيط أو حارق بخور!، كان يتهم الكنيسة بالخروج عن أصالة تعاليم المسيح وفكرهِ، حيث تحول العقل الكنسي من مُفكر إلى مُبرر، وأصبحت أغلب المسيحية طقوس وثنية يُشرِف عليها نفس "الأفاعي أولاد العقارب" الذين طردهم السيد المسيح من المعبد ذات يوم!.
أما والدتي فكانت توبخه وتُعاتبه وتؤكد له بأنه لن يكون له مكان بيننا ومعنا في ملكوت السماوات!، بينما هو يقهقه ساخراً ويُناكدها بأنه قد إكتشف ثغرة سرية في السور الذي يفصل بين الجنة والنار!، لذا فهو ليس قلقاً حول مصيره في العالم الآخر!.
كانت والدتي تجابه سخرياته بدفاعها الساذج عن الكهنة "المساكين" الذين كانت تتصور بأنهم نوع من الملائكة المُرشحة للقداسة!، وكم كان يسخر والدي من إحترامها -المبالغ به- للكهنة كعادة أغلب نساء ذلك الزمن، وأكثر ما كان يُثيره هو إنحناء الناس الذليل لتقبيل أيادي الكهنة وأطراف سوتاناتهم خشوعاً وتبركاً كلما إلتقوهم هنا وهناك!!، ولا تزال هذه العادة سارية لحد اليوم!، ويسمح بها بابا الفاتيكان قبل غيره!، علماً بأن السيد المسيح نفسه كان ينحني بكل بساطة وعفوية ويخر على ركبتيه ليغسل أرجل التلاميذ بكل تواضع!.
والمضحك في عالم اليوم أن بعض الكهنة يُقدمون للناس أيديهم وخواتمهم لتقبيلها والتبرك بها !!!!!!، وما هذا التصرف إلا تثبيتاً لمقولة: ( كثيرون زهدوا بالمال، أما في الجاه والسلطة فلا واحدٌ )!.
تقوم والدتي بإحكام اللفاحات الصوفية حول رقابنا وآذاننا قبل الخروج من الدار
إتقاءً للبرد، وكمحاولة أخيرة ومخلصة كانت تُنادي الوالد:
- إذا غيرتَ رأيك وقررتَ المجيئ معنا فسننتظرك حتماً، فما يزال هناك متسع من الوقت، فاليوم هو عيد ميلاد المُخلص.
وكان والدي يُجيبها بنبرة سخريته المعتادة:
- بقى سلمي لي على المُخلص، وعسى أن يُخلصنا من شرور الناس الذين خلقهم، وقولي له بالنيابة عني:عيد ميلاد سعيد، وبما أنه يعرف كل شيئ كما تقولون، لِذا سيعرف كم أنا متعب وبحاجة للراحة، وسيعذرني ويغفر لي حتماً .. لو كان موجوداً حقاً!.
وكانت والدتي تهز رأسها بأسف وقنوط وتهمس لنفسها:
- لا أعرف كيف لا زال الرب يرزقنا بوجود هذا الرجل القليل الإيمان!؟
نخرج من الدار بصمت ليستقبلنا ضباب الشارع المظلم، بينما نسمات الشتاء البغدادي الباردة المنعشة تُلاعب وجوهنا الطفلة.
نتقافز ونتضاحك كالأرانب الصغيرة بسعادة وبراءة وجذل وبفرحة العيد الذي يشحننا بالطمأنينة التي يحتاجها كل طفلٍ، لكنها للأسف كانت تتبخر وتتلاشى تماماً في أول يوم دراسي يعقب العيد، حيث نواجه حقيقة وصعوبة ومعاناة أن نكون مقبولين من غالبية الطلاب الآخرين المختلفين عنا، وهي حقيقة قبيحة توارثها هؤلاء الصغار من كبارهم، وكُنا نحنُ من دفع الثمن.
نقف في إنتظار (الباص) الحكومي بينما أمي تنهرنا بلطف وتأمُرنا بوضع أيدينا في جيوبنا تجنباً للبرد، وكنتُ كلما حشرتُ يدي في جيبي تُلامس اصابعي النصف دينار الورقي الجديد الذي يطقطق كلما داعَبتهُ وفَركتهُ أصابعي.
في (الباص) العمومي يرفض الجابي (مُحصل النقود) أن يتقاضى أجرة ركوب الباص من والدتي بعد أن عرف بأن اليوم هو (عيد النصارى) كما كان يسميه أخواننا المسلمين، وفي نهاية الرحلة تمنى لنا (عباس) -وهذا كان اسمه- عيداً سعيداً، وترجانا بإستحياء أن نطلب ومن خلال صلواتِنا للعذراء مريم أن ترزُق زوجته الحامل بطفل ذكر بعد أن رُزِقوا بثلاثة بنات !.
لا زالت تقاطيع وجه عباس السمراء عالقة في ذاكرتي لحد اليوم، ولو كنتُ أُحسن الرسم لرسمته في دقائق، وكنتُ في السنين اللاحقة كلما صعدتُ في (الباصات) الحكومية أبحث في وجوه الجباة وقاطعي التذاكر باحثاً عنه لأشكره على مشاعره وخُلقه وبقائه في ذاكرتي كعراقي صالح يحب الناس كلهم ولا يرى فروقاً تُذكر بين مواطنٍ وآخر.
مع بزوغ البدايات الأولى للفجر نترجل من الباص مُخترقين شارع فرعي ضيق وطويل يُسمى (عقد النصارى) حيث تجثم في منتصفه وبوقار كاتدرائية (أُم الأحزان) بكل هيبتها ووقارها وقبابها وصلبانها ونواقيسها والطيور البيضاء المُحلقة حولها في صورة تقترب كثيراً من الخيال.
يستقبلنا قرع النواقيس الذي يزيد من أهمية المشهد والحدث، بينما عشرات الشحاذين يتحلقون أمام باب الكنيسة وجلهم من المسيحيين والأكراد المسلمين النازحين من القرى الشمالية لكردستان العراق، بعضهم كان يتمايل برقبته ورأسه تناغماً مع دقات النواقيس وكأنهم مجموعة من الدراويش.
وبمجرد دخولنا من إحدى البوابات الداخلية الكثيرة للكنسية تقوم والدتي بإرسال أخي وإثنتين من أخواتي الأكبر مني كي يحجزوا لنا أماكن في المصطبات الأمامية القريبة من المذبح، بينما تأخذني وأختي الصغيرة معها لتأدية النذور، فتركع أمام تمثال العذراء وتُشعل عدة شموع واحدة منها كانت من أجل زوجة عباس، وتطلب لهم طفلاً ذكراً مُباركاً ومُعافى، وتطلب الخير والأمان والسِتر لكل البشر.
تُطالعنا القاعة الداخلية الواسعة للكنيسة بقبابها وسقوفها العالية (CATHEDRO SEELING) والمُزدانة بالرسوم الدينية والنقوش والزخارف والفسيفساء الشرقي والمرمر والتي تبرز كلها من خلال فن الطراز المعماري الكنسي الشرقي المُميز الجميل.
التماثيل الكبيرة كانت مُنتشرة في جنبات القاعة الفسيحة وحول المذبح، والمصطبات الخشبية تمتلأ بالناس على عجل، والثريات الأثرية العملاقة تتدلى وتتلألأ كالنجوم في سماء الكنيسة الرحب، ورائحة البخور الشرقية العطرة تنبعث وتضوع من المجامر الكبيرة، مكونةً سُحباً خفيفة من الدخان المتجمع في سماء المكان كهالة جميلة لأجواءٍ تقترب من جمال وسحر الخرافة وتتناغم مع الجو الكنسي العام.
كان الناس بين جالس وراكع وواقف، تتدلى من بين أصابعهم مسبحات صلاتهم، وهم يُصلون ويبتهلون ويطلبون ويُناجون ويستغفرون وينذرون ويتمتمون بلغات ولهجات مُختلفة لرب واحد، وعيون بعضهم مُغلقة أو تحوم وتُحلق في فضاء الكنيسة الرحب.
كذلك تصل أسماعنا أصوات التراتيل الدينية الشهيرة، ويظهر صغار الكهنة والقسس والشمامسة والسواعير والماسيرات كلٌ بملابسه الخاصة المُنقشة المُزخرفة المختلفة الألوان، ومعهم أطفال المِلة المُهيئين والمُدربين لخدمة القداس بملابسهم الملائكية البيضاء، والكل يسعى هنا وهناك إستعداداً لبداية القداس.
كل ذلك أثار فضول أختي الصغيرة التي عندما عرفت من والدتي بأن الله سيستجيب لصلوات وطلبات كل هؤلاء الناس قالت لنا بأنها ستطلب من الله بايسكل وكثير جداً جداً من العلك !!!.
كان المنظر داخل تلك الكاتدرائية جميلاً وجديداً وسحرياً وغير مألوف بالنسبة لي، وعندما أستحضرهُ اليوم يبدو لي كلوحة زيتية فنية خرافية الجمال قد يعجز عن رسمها حتى (ليونارد دافنشي) بلحمهِ وشحمهِ!، مما جعلني يومها أحس بصغر وجودي في مكان يشبه لحد ما تلك الصورالملونة اللماعة في المعايدات التي نستلمها من الأقارب قبل العيد.
كنتُ لا أريد أن أحول بصري عن تلك اللوحة المُتحركة التي وقفتُ مشدوهاً أُراقبها بكل إعجاب والرهبة تُحيط بوجودي الطفل الذي إستجاب لكل تلك المؤثرات التي إبتدعتها المؤسسة الدينية الكنسية خلال الفين من السنين!! .
ولطالما سمعت وأنا طفل صغير الكبار يتحدثون عن ذلك الرجل السماوي القوي العظيم المُقتدر على كل شيئ والذي يسمونه (الله)، والذي يقولون بأن له ملايين العيون والآذان بحيث يرى ويسمع كل ما نفعله!، حتى أنه إضطر سذاجة طفولتي حين كنتُ أسرق قطعة نقد صغيرة أحياناً من أمي أو أبي أن أقوم بوضع منشفة على يدي .. كي لا يرى الله ما أفعل !!.
ولحد ذلك اليوم كان الله في مفهومي بطلاً من أبطال القصص التي كانت تحكيها لنا والدتي، كالسندباد البحري وعلي بابا وروبن هود والكونت دي مونت
كريستو. ويومها أيضاً أحسستُ أن في داخل تلك الكنيسة شيئ ما ... إقتنعتُ بأنه (الله) الذي كانت تتكلم عنه والدتي وبقية النسوة، مصرحين دائماً بأن الكنيسة هي بيته .. "بيت الله"، مما دعاني مرة لأطلب من والدتي أن تعمل لنا (كرسمس) كل شهر وتدعو (الله) الذي يسكن في الكنيسة الكبيرة في عقد النصارى ليأكل معنا!!. ولا عجب حين أصبح سؤالي ذلك موضع تندر وسخرية الأقارب والمعارف لسنين لاحقة فيما بعد.
أخيراً يبتدأ القداس ويصمت مئات الناس الذين كانوا يملأون حتى الممرات الخلفية والجانبية لدرجة إنني سمعتُ صوت تنفس أخواتي الجالسات على
جانبيَ. يبتدأ الكاهن الكبير المُقطب الجبين والخشن الملامح والصوت القداس بكلمة: (الرب معكم) وهو يرمقنا بنظرة صارمة من تحت حاجبين كثين لوجهٍ عبوس دعاني لسؤال والدتي هامساً: هل هو مسيحي أم مُسلم ؟، وكانت والدتي تُجاهد أن لا تفلت منها ضحكة أو قهقهة كبيرة!.
قداديس العيد كانت تطول عادةً وبصورة تجعل الناس زاهدين بالقداس بعد أن كانوا متلهفين له قبل بدايتهِ. كانت تتخلل القداس طقوس مُعقدة مُملة لم يكن من داعِ لها ولطالما أصابتني بالنعاس، وبرأيي فأغلبها طقوس وثنية عتيقة متوارثة تأريخياً وترقى لممارسات كهنة معابد سومر وبابل وآشور!.
كانوا يُمررون (التبسية) التي يضع فيها الناس ما يتيسر لهم من تبرعات للكنيسة، وفي قداديس الأعياد كانت تُمرَر التبسية مرتين أو ثلاث مرات وبحجج
وغايات وتسميات مُختلفة، وكانت والدتي تضع في أيدينا قطع نقدية صغيرة من فئة العشرة فلوس بينما هي تضع درهمين في كل جولة أو تمريرة لتك التبسية مما كان يُثير حفيظة أخي الذي يهمس متذمراً: (عبالنة المكادي بس برة الكنيسة).
ولا أعرف لماذا تتملك الإنسان رغبة جامحة في الضحك دائماً في الأماكن أو الأجواء التي يُفترض أن تكون مشحونة بالجدية والحزم وعدم الكلام!؟، لذا كُنا نتضاحك بصوت خافت نحاول خنقه عبثاً، ولم يكن يخلو من مشاكسة وإستخفاف وصبيانية، لكن كل ذلك كان يتوقف بلحظة بعد نظرة جانبية حازمة ومُهددة من والدتي.
كان يجلب إنتباهي دائماً الإنسجام الكُلي لوالدتي في صمتها وخشوعها وتعبدها العميق أثناء القداس أو الصلاة في الكنيسة أو البيت أمام رموز العذراء والسيد المسيح، وقد سمعتها أكثر من مرة تقول بأنها تستمد قوتها وصبرها من إيمانها برحمة وعطف الخالق، وربما كان هذا ما قصدهُ السيد المسيح في قولهِ: [ لو كان لكم إيمانٌ بقدر حبة الخردل لقلتم لهذا الجبل تحول .. فيتحول ]. ولهذا أيضاً لا زلتُ أقول بأن الإيمان الإيجابي في الخير يُساعد أصحابه بصورة غير مُباشرة، وهو حقاً تنهيدة الفقراء والمساكين المسحوقين كما قال ماركس، وربما بسبب ذلك نرى أن أعداد النساء المؤمنات بالله والدين في الشرق أكثر بكثير من أعداد الرجال، كذلك نرى أعدادهن في كل قداس ضعف أعداد الرجال!، كونهن مظلومات ومقموعات إجتماعياً وحياتياً، وبغض النظر عن كونهن مسلمات أو مسيحيات أو من أديان وآيدلوجيات مُختلفة، لأنهن بحاجة ماسة لقوى خارجية غيبية تساعدهن وتنتصر لهن في حياةٍ خسرنها منذ ولادتهن!.
لا زالت الأعياد الدينية تُفرحني بكل سحرها وألقها وإرتباطها بالمحبة والتسامح والغفران والعطاء، لأنها للإنسان في كل المعمورة، ولكل الناس بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وفلسفاتهم ومفاهيمهم عن المقدس أو غير المقدس. فالأعياد تغسل أدران الإنسان وتعيده طفلاً بريئاً وسعيداً.
كان العيد يُمثل لطفولتنا الغضة ملابس جديدة وعيدانيات وشجرة مزوقة وبضعة عروض سينمائية تستنفذ عيدانياتنا بسرعة، مما كان يدعونا لزيارة بيوت الأعمام والأخوال من أجل حصد المزيد من العيدانيات التي لم يكن يبخل بها أحد.
وفي أعياد المسلمين (الفطر والأضحى) كُنا نُشارك أصدقائنا المسلمين إحتفالاتهم وأفراحهم، وكانت معاني العيد عندهم هي هي كما عندنا بالضبط. كنا نُشاركهم في أرجوحةٍ تطير عالياً وتهبط ومعها قلوبنا وصراخنا، أو في دولاب الهواء الذي كان يُمثل قمة الإحتفال في اي عيد، أو في نزهةٍ داخل عربة مهترئة يجرها حصانٌ هرم أو حمارٌ صامت أو بغل ساهِمُ النظرات كمَّن فقد رغبته حتى في الإحساس بظلم البشر!. كلنا كُنا نفكر بمتعة ركوب العربة، ولم يكن أحدٌ مِنا قد تطور أخلاقياً لدرجة الإحساس بألم ومعاناة الحيوان المُرهق الذي يكاد يفطس تحت الثقل الذي سَمحَ به جشع صاحبهِ !!.
كُنا نصوم مع أصدقائنا المسلمين لعدة أيام في رمضان، ونفطر على مائدتهم بفرح قد أعجز عن وصفه اليوم، وكانوا بالمقابل ينصبون ويزينون أشجار سرو وصنوبر صغيرة في بيوتهم في أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة.
ولطالما شاهدتُ عشرات النساء المسلمات يشعلن شموعهن ويطلبن مرادهن من السيدة العذراء داخل كنائس المسيحيين، وكم مِنا مَن ذهب بصحبة أصدقاء
مسلمين لزيارة العتبات المُقدسة وقبور الأولياء في النجف وكربلاء والكاظمية والأعظمية. ومنذُ أواسط الستينات وبداية السبعينات كانت مجموعات شبابية هائلة العدد من مسلمين ومسيحيين تتجمع للإحتفال بأول ساعة من السنة الميلادية الجديدة في مناطق معينة من الكرادة الشرقية التي كانت تسكنها غالبية
مسيحية، كانوا يشربون البيرة والخمر والعرق ويغنون ويرقصون على أصوات طبولهم ودفوفهم وآلاتهم الموسيقية وبرعاية الشرطة إلى ساعات الصباح الباكر.
كان العيد لكل البشر، وكان "الدين لله والوطن للجميع" ولو إلى حين. حتى أصحاب المحلات التجارية وبصورة شبه جماعية كانوا يُزينون محلاتهم بكل ذوق وتنافس وإندفاع أثناء أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة. بينما أصحاب صالات العروض السينمائية كانوا يُعلقون لافتات كبيرة خطوا عليها: "المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام للناس الدين بهم المسرة".
وفي بعض السنوات العِجاف بحكامها العنصريين كان العيد يزورنا بلا ضجيجٍ وعجيج، ولكنه ظلَّ عيداً وألقاً وفرحة وسعادة بيضاء. وظلت شجرة الميلاد تنتصب بشموخ في بيوتنا لتقول لنا بأنه العيد، ذلك الصديق القديم الوفي الذي ما خذلنا أبداً، والذي كان يحمل لنا كل الطيبات وبدون تكلف.
هو العيد … وتمتد أطراف إخطبوط الذاكرة لتستحضر صورة الوطن المصلوب فوق أغصان شجرة العيد والنازف من كل شبرٍ في جسده المُتْعَب.
هو العيد … ومدن العراق خالية من أشجار الميلاد التي أصبحت رمزاً للكفر والغرب والكراهية لأولاد "القردة والخنازير" الأبرياء!!.
هو العيد … وكنائس الوطن خالية من الناس المسالمين المتواضعين كسيدهم بعد أن أصبحت كل الدروب إليها حقول ألغامٍ على غرار درب آلام الصليب التي نزف فوق أديمها "إبن الإنسان"!.
هو العيد … ولا أدري هل يتذكرني اليوم الصديق المسلم الوحيد الذي أصر على البقاء في بغداد بينما بدد الموت والرحيل والهجرة بقيتهم الطيبة الذكر!؟.
هو العيد … وقد إمتلآت شوارع الكرادة الشرقية بكل أنواع المليشيات المسلحة الطائفية التي تتقدمها المخالب والأنياب، والتي ما عرفت ولا تعاملت ولو لمرة واحدة مع الفرح الحقيقي والحب الحقيقي والأخلاق الحقيقية!!.
هو العيد … ولا أدري هل لازالت كاتدرائية (أُم الأحزان) في عقد النصارى تحمل كل ذلك الألق الذي لم يكن في تماثيلها وشموعها وبخورها وثرياتها ونواقيسها بقدر ما كان في روادها .. هؤلاء الناس المُسالمين الذين بهم المسرة !؟.
هو العيد … ولا أدري هل مازال في العراق رجالٌ مُباركين يمثلوه كعباس .. الجابي في (الباص) الحكومي، والذي ربما يبحث ويطلب من الله اليوم أن يرزقه بوطن مبارك أمين بدل طفل ذكر !؟.
هو العيد … ولا أدري هل سيدشن أطفال العراق هذه السنة ملابس العيد الجديدة .. أم واقيات الرصاص المستوردة !؟.
هو العيد … وأتذكر قول الفيلسوف (أدموند بييرك): ( كي نحب الوطن ، فيجب أن يكون فيه ما يدفعنا لمحبتهِ )، وعُذراً لذلك الرجل الذي لم يكن يدري بأن في الشرق مجانين أحبوا وعشقوا أوطانهم بلا شروط !.
هو العيد ... يتألق ويشع فرحاً في شوارع أميركا وفي محلتي ومدينتي الهادئة وأرجاء بيتي هنا والتي أتمنى أن تتحول بقدرة قادر لتشع وتتألق في سماء بغداد الحبيبة !!.
أحدق في شجرة الميلاد الشامخة بكل كبريائها الغربي في غرفة الإستقبال ….
لكن ذاكرتي وعيوني وكياني يهربون بعيداً ليحطوا كحمامة بيضاء داخل بيتنا القديم في بغداد ….
لأرى شجرة أخرى قديمة بائسة حزينة باردة متيبسة الأطراف وعارية من زينتها ومن القها القديم …..
ترمقني بصمتٍ وحزنٍ وخجلْ، وتغض بصرها بإنكسار …
أسجد لها بصمت الإبن …. فتبكي …
وأبكي معها وطناً جميلاً متواضعاً صلبتهُ المسوخ عبر ليل الزمن …
وأنتبه لنفسي …
فأرى كلبتي الصغيرة تلعق دموعي بحب وحنان …
تنظر في عينيَ بحزن وتساؤل وحيرة ….
فأصمت … وتصمت معي ...
هو العيد ….. وأخجل من نفسي …
ويخجل مني خجلي ….
هو العيد ....
وأهمس لشجرة الميلاد بصوتي المتحشرج :
بأي حالٍ عُدتَ يا عيدُ !!؟.
مع أجمل تحياتي وتمنياتي لكل البشر بالعيد السعيد ورأس السنة الجديدة.
طلعت ميشو.
كاتب وناقد عراقي \ أميركا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هديتي لكم بمناسبة العيد:
http://www.jacquielawson.com/viewcard.asp?code=2007134554829&source=jl999
607 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع