لفّاف البيّاتي

                                         

                             علي السوداني

أمّا اللفّاف الذي صنع نصفَ عنوان هذا المكتوب ، فهو الشال أواللفحة ، وأزيد الظنّ هو أنَّ سكَنة بلاد ما بين القهرين قد سمّتهُ لفّافاً ، بسببٍ من التفافهِ حول رقبة الأوادم ، ابتغاء بعض دفءٍ أو زينةٍ إذا ما تم تشكيلهُ مثل ربطة عنق .

            

وأمّا ثاني مفردةٍ شاخصةٍ فوق عرش المقال ، فهي البيّاتي ، ومقصدنا منها هو عبد الوهاب البياتي ، وهو شاعر مشهور من أهل العراق ، له فضلٌ وسبقٌ ولمعات وفتوحات بباب قصيدة التفعيلة السيّابية الحديثة المقامِرة أيّامها ، وقد دعبَلتْنا سنوات الهجيج السود من البلاد ، فانزرعنا على سور مائدته الشاعرة ، ونحن مازلنا أغضاضَ قصةٍ وقصة ، وحيث تدور الكأس وتسري وتدبُّ ، حتى يقع الترامي والتنابز بما تيسّر من بديع الشعر ، وقفشات الأدب وأخبار الكائنات الهلامية التي يتّبعها الغاوون ، فتسكرُ القومُ وتتمايل المائدة ، وتتناطح الفِكَرُ ، والبياتي قائمٌ عليها ، مشعٌّ منيرٌ مثل قمرٍ في تمامهِ ، منهُ الشعرُ والخمرة الطيبة وساخن الطعام ، ومن المريدين القاعدين الصعاليك الدراويش ، الصادقين منهم والكذوبين ، الإنصات الذاهب حدّ الخشوع . على أوشال ليلة منعشة من ليالي أبي عليّ ، قدّر الربُّ الجميل ، أن أكون جليسهُ الوحيد . كنا ببطن حانة الياسمين ، من أعمال ربة عمّون ، وكانت الدنيا ثلجاً مائعاً ، وبرداً ينام في العظام ، وكنت على بعضٍ من رثِّ اللباس وخفيفهِ ، حتى قام عبد الوهاب الرحيم الحنون على حيلهِ ، ونزع عن رقبته شالاً اخضرَ طويلاً ، مثل ذاك النازل من عنق عمدةٍ فرعونيٍّ ضخمٍ ، وناوشني إيّاه بيمينٍ وشمالٍ حانيتين ، فقمتُ من قعدتي الثقيلة ، ولففتهُ حتى نزلَ عليَّ دفءٌ عظيمٌ وخدرٌ لذيذٌ ، وصرتُ لا أكلّمَ البياتيّ ليلتها إلّا رمزا . في عصرية اليوم الذي تلا الواقعة المبروكة ، هبطتُ مختالاً مرحاً مطوّقاً بشالٍ أخضر مَهيب صوب ماعون المدينة ، فقصصتُ على الصحب والصويحبات القصة ، وزدتُ عليهم أنني سأظلُّ مسجلاً في دفتر كائنات الله على أرضه ، وبعد خمسين  بائدات ، سيكون سعر هذا اللفّاف ذهباً بقَدَر عيشة عشيرةٍ من ألف تنبلٍ وتنبلة .
 على رنّة كنائس هذا المساء البارد ، أجدني أستعيد منتشياً ، تلك الليلة البعيدة ، مع كبير تضعضعٍ وتآكلٍ في جسم ذلك الحلم النبيل ، حيث خراج دكة مزاد حمّالة أثداء مارلين مونرو المذهلة ، سيكون أعظم بكثير من دراهم شال عبد الوهاب البياتي .
ألرحمة والراحة لك أبا عليّ العظيم ، وأنت في مدفنك الشاميّ الغريب ، تنصتُ متوجّعاً ، إلى طقطقة عظام دمشق الحبيبة وهي تتكسّر .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عمّان حتى الآن

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

755 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع