د.عبدالرزاق محمد جعفر
استاذ جامعة بغداد والفاتح وصفاقس / سابقاً
مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعةفي منتصف الأربعينيات من القرن الماضي..
الحلقة الثانية
تميزت قرى الجنوب العراقي, ببيت الضيافة المسمى" المضيف", القرية وهو الديوان الرسمي,اوالنادي الأهلي للقبيلة تحت رعاية شيخ القرية,.. ويحمل المضيف اسم عائلة الشيخ, فيقال: مضيف آل عبيد , نسبة لقبائل العبودة, ومضيف آل جاسم نسبة للشيخ جاسم, كذلك أسـم مضيف آل ابخيت نسبة للجد الأعلى لوالد امحيسن "الشيخ ابخيت".
يقع هذا المضيف بأطراف القرية, وقد بني بطراز معين ويتسع لمآت الزوار, حيث يجتمع افراد العشائر صباحاً و مساءاً لأحتساء القهوة والسًمر فيما بينهم , ويصغون لأية معلومات جديدة يصدرها الشيخ او مساعديه الذين يطلق عليهم اسم" السراكيل".
يتصدر مدخل المضيف" الوجاغ", وهو المكان المخصص لأعداد القهوة العربية, ذات النكهة والمذاق المميز , حيث تصنع بطريقة خاصة لا يجيدها الا ذوي الخبرة.
يرتاد المضيف القوم من افراد القرية فجركل يوم لطرح المشاكل امام شيخهم لكي يبدي رأيه , ويصدر حكمه وامره المطاع في كل قضية تعرض عليه, والويل لكل من يخالفه الرأي, مهما علت منزلته او ادعى الحق بجانبه,....فللحق وجه واحد لا يراه غير الشيخ,.. وبطبيعة الحال الشيخ في عرف اتباعه معصوم من الخطأ !
الا ان في قرارالعديد من افراد القرية الذين نالوا قسطاً من المعرفة والثقافة عن طريق المذياع والصحف, ومحاورة بعضهم لأبناء المدن المجاورة, جعلهم يدركون ضحالة فكرالشيخ واسلوب حكمه,.. الا ان الدولة اعطت الشيوخ (الأقطاعيون), مزايا ومكاسـب عديدة, حيث أنهم يخضعون لقانون خاص بهم (قانون العشائر), وبالرغم من ذلك فأن غالبيتهم يعتمدون في اصدار احكامهم على الأعراف السائدة , وقد أدى ذلك الى مصادمات كثيرة بين السلطة المركزية في بغداد و افراد العشائر كانت تسفر عن وقوع ضحايا من الطرفين, الا ان هذه الظاهرة اختفت عندما صار معظم شيوخ العشائر الشهيرة اعضاء في مجلس النواب او الأعيان, وتم الغاء قانون العشائر سيئ الصيت بعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958.
شاع خبر ظهور نتائج المدارس المتوسطه," البكالوريا ", ..فهرع الطلاب نحو مدرسة القرية لمعرفة نتائجهم, وكان من ضمنهم امحيسن,..فقد اسرع عندما شاهد حبيبته جميلة, المتجهة مع زميلاتها نحو المدرسة, فحياها بطريقته, ودبت فيه السعادة لردها التحيه بأبتسامة حلوة.
دخل امحيسن الى بهو المدرسة, ولفت له الأنظار, ..وزج نفسه بين صفوف الطلبة المحتشدين حول لوحة الأعلانات ,.... لمشاهدة نتيجته ونتيجة جميله,.. ..وقد تم له ذلك بصعوبة, وتوجه نحو المكان الذي اعتادت جميله الوقوف به, ..وبشرها بنجاحها, وعلت البسمة ثغرها وزاد تألقها, وهي بالملابس القروية المزركشة, وكأنها باقة من الزهور!, فصمتت وقالت: وانت يا امحيسن؟ انشاء الله الأول؟
واجابها بكل اعتزاز, .. طبعاً,....درجاتي بكل الدروس عاليه.
لم تظهر الفرحة على امحيسن, وعلت وجهه الكآبة, ..ولم تبهره النتيجة, حيث سيفترق عن الحبيبة بعد اقل من شهر, ....فهو على علم برغبة والده بأكمال المدرسه الثانوية في بغداد , وبهذا سيتحقق للشيخ مأرباً آخراً, حيث ستضعف العلاقة العاطفية بين امحيسن وجميله, عندما تبهره بنات بغداد الجميلات,..فالشيخ لا يعترف بشئ اسمه الحب, ويعتبر العلاقة بين المرأة والرجل هي جنسية فقط, ويستطيع ازالة صورة اجمل امرأة بوضع صورة اخرى عليها !
ساد الصمت بين الحبيبين, والطلبة مشغولون بمعرفة نتيجة كل منهم , ..وجميله تقرأ ما يدور في مخيلة امحيسن,..وراحت تبدي قلقها لما يخبئه الزمن لها, وقالت للحبيب:
" فرحتنا لا طعم لها, فبعد اقل من شهر ستتركني وحيدة, وانت ستنعم بالحياة في بغداد, ومن يدري,..فربما ستقطفك مني واحدة من حسناوات الحضر !!
سالت دموع جميله على خدودها المياسة بصمت, ..وحاول امحيسن السيطرة على الموقف حتى لا يلفت انظار الطلبة نحوهم وليبعد عنهما الفضيحة ويزيد الطين بله,..فقد راجت اشاعة حبهما في جميع ارجاء القرية,.....وسوف تزداد رسوخاً اذا ما لاحظ اي طالب مثل هذا المشهد الرومانسي الذي لم يألفه طلبة القرية !
حاول امحيسن السيطرة على الموقف, وراح يهدأ من روعها, ويزيل عنها الشكوك, ثم سحبها بعيداً عن جمهور الطلبة, وقال لها:
" سوف اطلب من والدك موافقتة لأكمال دراستك الثانوية في قضاء الشطرة او بمركز اللواء(المحافظة), "مدينة الناصرية".
لم توافق جميلة على فكرته, وقالت له:
" من المستحيل ان يوافق الوالد على هذا المقترح, .فهو يحسب الف حساب لأقوال الناس,..
فهل من المعقول ان ترسل فتاة بمثل سني للدراسة والعيش بمدينة اخرى بمفردها من دون ان يرافقها محرم او حتى احد المعارف!
تفتق ذهن امحيسن, واقترح عليها نقل وظيفة والدها الى اي مدرسة ابتدائية في الشطرة او الناصرية,..فوظيفته بسيطة وسهلة المنال.
تدرك جميله في الحال ضحالة وظيفة والدها, وتحمر وجناتها خجلاً,..ويدرك امحيسن خطأه, واعتذر منها عن هذه الهفوة غير المتعمدة,..الا انها لم تقبل اعتذاره, ..فنظرت اليه بشذر وألـَم ,.. وغادرت المنطقة من دون وداع وانسحب الى الخلف حتى تقترب من زميلاتها الواقفات على مقربة منها ,..وبسرعة انسجمت معهن بالكلام المفعم بالتورية والألغاز من اجل التعرف على ما دار بين الحبيبين في المحطة الأخيرة لقطار الحب!
في مساء ذلك اليوم, يدخل امحيسن الى المضيف, ويتوجه نحو مكان جلوس والده الشيخ ويقبل يده, ثم يجلس على بعد قليل منه, فيرحب الشيخ بالقادم ,.. ويستفسرمنه نتائج الأمتحان, فيفرح الشيخ من نتيجته الباهرة.
يأمر الشيخ ولده بالذهاب الى مركز القضاء والأتصال بعمه التاجر في بغداد , لمعرفة الوثائق اللازمة لدخول المدرسه الثانوية المركزية في العاصمة.
لم يوافق امحيسن على مقترح والده والذي يهدف منه ابعاده عن جميلة,..وبين رغبته في اكمال دراسته في مدينة الشطرة.
يحتدم الجدل بين الوالد وابنه بصوت خافت, لكي لا يلفت لهما الأنظار,... ويصر امحيسن على موقفه,..ويقول:
" انا لا ارغب الابتعاد عن القرية,..يا محفوظ,..وافضل ترك الدراسة على البعد عنكم !
يبتسم الشيخ ليخفف من حدة الموقف ويقول لولده بسخرية مؤطرة بلهجة الدلال او ما يسمى (بالدلع), لمحبوبه امحيسن :
" انت ما تكدر البعد عن الكريه؟.. لو..(سكوت), ..انا لا اريد ان تعصي امري يا اوليدي", ابتعد عن التصرفات الصبيانية, ..
امامك زمن طويل لتحقق طموحك, واخرج من ذهنك احلام المراهقة ,..أنت لسه,..أصغير! ".
فهم امحيسن ما يعنيه والده,... وان التعند سينقل غضب الشيخ على والد جميله, ولذا ذعن للواقع, وبدأ يتهيئ للرحيل,والبعد عن الحبيبه!
وفي يوم الرحيل, ...تجمع الأقرباء والمحبين لتوديع امحيسن, ..وتخلل ذلك الموقف زغاريد النساء وقرع الطبول,..وامحيسن مثل (الأطرش بالزفه),..فهو لم يهتم بكل الذين من حوله, وزاغت عيونه عن كل ما حوله ليبحث عن قلبه الذي انتزع منه قسراً,...ومن ثم وقعت عينه على وجه جميله المشرق, وحياها ببسمة, فترد له التحية, فيشعر امحيسن بنشوة ازالت عنه الهموم,....وراح يمشط تضاريس جسمها المكتنز حيوية, وكأنه يراها لأول مرة,..فقد بانت اكثر نضوجاً, ..وكم تمنى في تلك اللحظات ان يضمها الى صدره ولو لثواني,.. وصار لا يخشى لومة لائم, وليكن من بعده الطوفان!
تبادل امحيسن وجميله الخواطر فيما بينهما من على بعد, وتراقصت الأفكار في ذهن هذه القروية التي احست بظلم العرف المهيمن على محيطها الضيق وتساءلت مع نفسها:
" لماذا يفارقها الحبيب؟ ولم لا يسمح له بالزواج منها,... فما ذنبها ان كان والدها فراشاً وابوه شيخ القريه؟. ..لقد ورث المشيخه من والده, والنظام آنذاك هو الذي صان الطبقات في المجتمع الواحد,
وحتى الدين لا يسمح بالتمييز بين المسلمين,....كما نص على ذلك القرآن الكريم, (اكرمكم عند الله اتقاكم), ولم يرد اي نص في الكتب السماوية اوالوضعيه ما يمنع من تزاوج الأحباب بسبب اختلاف طبقاتهم او دينهم اوعرقهم او لون بشرتهم!
تتوجه ام جمبله بصحبة ابنتها لتوديع امحيسن,..ويتبادلون عبارات الوداع, ويحيهم هو بلطف وادب,ويهنأ الأم بنجاح ابنتها,..وتخرج الحلوى (الحامض حلو), من الكيس وترشه فوق رأسه مع زغاريد النسوه المحيطات بالحبيبين, والدعاء بتحقيق الأمل.
يمعن امحيسن النظر بوجه جميله,..فتبادله الحسرات المفعمة بالأمل, ويخترق شعاع كيوبيد من عيون جميله ليخترق شغاف قلب امحيسن المضطرب اصلاً, وكاد لسانه ان ينطق ما اختلج بفؤاده من تراكمات الحب,.. والتي لا يحسها الا من اكتوى بالعشق !
تكلم امحيسن مع جميله بأمورعديد خلال ثواني معدودة,مضمونها يحتاج الى عشرات الصفحات لشرحها!
حان وقت الرحيل, ويستأذن امحيسن المحيطين به, بمشاعر مكللة بالحزن, ويودع الجميع فرداً..فرداً,..ويغادر جسده المكان,
ويبقى شعاع الحب المقدس على ارتباط وثيق مع جميله, وتجف الكلمات وتنهمر الدموع الخافته,.. ملوحاً كل منهما يده بالوداع !
تتحرك السيارة ببطئ لمغادرة المكان, ويكاد امحيسن يصرخ طالباً توقفها,..ولكن هيهات ان يمنع ما هو مقدر, ..فتلوح جميله بيدها ,... ويتبادل النظرات معها, وتمزق الحسرات قلبه الصغير المفعم بالحب العذري والحنين الصادق الذي زقه من جميله ليعوض ما افتقده من حنان امه بعد وفاتها وهو مازال صبياً, ثم
يردد بيتاً من القصيدة اليتيمة للزريق البغدادي عندما ودع حبيبته:
ودعتهُ وبودي لو يودعني = صفوَ الحياة على أن لا أودعهُ
يتردد الأنسان بعض الشئ في اللحظات الحاسمه التي تغير مجرى حياته الى الأبد,.. فيأكله الندم بمرور الزمن, على تلك الفرصة التي كانت بين يديه ولم يجرأ على تنفيذها والفرص لا تتكرر,..و قد تستبدل,.. الا انها لا تعوض فرصة العمر!
تصل السيارة المقلة لمحيسن الى "محطة القطارفي اور", وبعد وصول القطارالنازل من البصرة الى بغداد,..يصعد امحيسن برفقة احد الأعوان من افراد القرية الى القطار,..وامضى تلك الليلة حالماً حتى الصباح بالحبيبه جميله!
في صباح اليوم التالي, يصل القطارمحطة جنوب بغداد,ويستقل امحيسن ومرافقه سيارة اجرة ويتوجهان الى بيت عمه في شارع الزهاوي مقابل البلاط الملكي سابقاً.
سجل امحيسن بالثانوية المركزية بالقرب من مجلس الأمة آنذاك, وتعلم استخدام سيارات النقل (الأمانه), واشد ما كان يلفت نظره, في الشارع , هو بنات بغداد السافرات, او المرتديات للعباءة البغدادية, من دون غطاء الوجه (البوشيه),فيركزنظره على الفتاة عندماتصعد الباص وهي معطرة بروائح زكية أنعشته, وينظرالى الطيورعلى الأرصفة وفي الساحات العامة من دون ان يمسها احد! غمرت تلك المشاهد امحيسن بالألم , وتذكر بنات قريته,
وتمنى ان يعم التطورالذي شاهده في بغداد عموم الوطن.
يصل امحيسن المدرسة, و يتوجه الى صفه,..ومن ثم يدخل مدرس المادة, ويبدأ بشرح الموضوع والكل مصغي بأجلال واحترام, وان اول ما لفت نظره, هو هندام المدرس وتمكنه من سرد المادة العلمية, واصغاء الطلبة وتدوينهم كل ما ينطق به ويكتبه أو يرسمه على السبورة, ويستمر الدرس لحين سماع الجرص.
629 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع