حظ أمحيسـن ! / الحلقة الثالثة

                                            

                         د.عبدالرزاق محمد جعفر

             

حظ أمحيسـن ! مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق في الحقبة الواقعة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي
تأليف
الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر

استاذ جامعة بغداد والفاتح وصفاقس سابقاً

الحلقة / الثالثة
في بداية العام الدراسي الجديد, يصل القرية في منتصف النهار, شاب وسيم من اهالي قضاء الكاظمية المقدسة , حيث عين معلماً في المدرسة الأبتدائية في قرية آل سـاجت , اسمه جميل !
استقبل الفراش ( والد جميله), المعلم الجديد,....  وقاده الى ادارة المدرسة, ورحب به المدير, وامرالفراش بتقديم الشاي للضيف, ثم  قدم المعلم امر التعيين وكافة الوثائق الذاتية الى المدير,وراح يسـرد سيرة حياته للمدير وقال:
" انني جميل مظلوم, العمر 20 سنة, خريج دار المعلمين الأبتدائية في الأعظمية, بدرجة جيد. وصدر امر تعييتي في مدرستكم , وانشاء الله اكون عند حـسن ظنكم".
رحب المدير بالمعلم جميل, وطلب منه الجلوس بالقرب منه, وتمنى له التوفيق في عمله الجديد, وعدم التعرض لأي ظلم انشاء الله !  طلب المدير من الفراش مساعدة المعلم جميل, ومرافقته لغاية, الكوخ في احد البساتين خلف المدرسة, والذي يعتبر داراً للضيافة !  
توجه المعلم وهو في غاية التعب, بصحبة الفراش "والد جميله", حاملاً شنطة وعفش المعلم الضيف, الى ان وصلا الى دارالضيافة (الكوخ), ..وبعد ان استقر المقام بالمعلم جميل, شكر الفراش, وقدم له بعض المال, الا أن الفراش لم يرضى بذلك,وعاد الى المدرسة.
وبعد آذان الظهر, بساعة, عاد الفراش ثانية بصحبة ابنته جميله وهي ترفع على رأسها (صينيه), فيها بعض الصحون من المأكولات القروية, كوجبة غداء للضيف الجديد. وما ان وصل, حتى نادى على المعلم,... فخرج المعلم وقد تفاجأ بالفراش مع بنت  في غاية الجمال تحمل على رأسها صينية,وتقف على بعد من الفراش,.....وبعد تبادل التحية , تناول الفراش الصينية من على رأس البنت وسلمها للمعلم.
تناول الأستاذ جميل الصينية وأمعن النظر بالجمال الفطري, وصمت مبهوراً للحظات, ثم قدم الشكر للبنت فأنتابها الخجل,.. ولم تتجاوب مع اعجابه بها, بالرغم من كونها متعلمة ومكتنزة بالأنوثة الصارخة, الا ان هيمنة امحيسن على مشاعرها العاطفية لم يترك المجال لدخول اي طارق جديد للقلب المتعلق بالحبيب الأوِلِ !
كرر المعلم النظرلصدر جميله النافر, والذي يكاد يمزق ثوبها, وراح ينشد (بصمت), قصيدة  نزار القباني وهو يقول:

نهداك ما خُلقا للثم الثوب,.. لكن للفم !
تـذ كر جميل العرف الأجتماعي وعادات القرية, وعاد الى وعيه, وقد قرأ في الروايات الأجنبية المترجمة, عن سعادة المرأة عند اطراء جمالها,.. فترد بأسلوب مهذب وبالشكر, الا ان ذلك غير جائز هنا,ومن المحتمل ان يقابل بالشتيمه اوالسلاح الأبيض, لذا آثرَ جميل السكوت وعدم التمادي في امورقد تؤدي الى انهيار المعبد على من فيه,....وترك العنان لعيونه تخاطب هذه الشابة, وتتمتع  بجمالها من دون ان يشك الفراش والدها,..حيث للعيون لغة معينة لا يتقنها الا الذين وهبهم الله مواهباً خاصة, او قل قدرات كهربائية او الكترونية تنتقل بين قلبين بأقل من لحظة واحدة, وهاهوالآن امام شابة يتطابق كل ما فيها مع فتاة احلامه,.... وتسائل مع نفسه عن سـرهذا الجمال الذي ترعرع في مثل هذه البيئة التي لا تحتوي على ابسط قواعد الصحة العامة, الا ان كل شيئ فيها ينمو طبيعياً !
تشعر جميله بتمادي المعلم بنظراته التي أخترقت مشاعرها, فأعتراها الخجل, وتودع المعلم وتترك والدها معه وتتوجه لدارها.
وبعد تناول الغداء, يستفسرالمعلم من الفراش عن طبيعة الحياة في القرية, و يسرد والد جميله حياته وكل امور القرية بأسهاب, وخاصة عن ابنته جميله,.. وعلاقتها بأبن الشيخ, واستحالة موافقة الشيخ على استمرارمثل هذه العلاقة.
انبهر المعلم مما سمع,  وزاد من احترامه لهذا الأنسان الكريم و الأبي, وراح يشجعه على اكمال دراسة ابنته, وابدى استعداده لتقديم العون لأجتيازها امتحان البكالوريا.

  

بدأ العام الدراسي الجديد, وظهرعلى المعلم جميل الحيوية والنشاط, وانتشرت سمعته الطيبة بين اهالي القرية, فهو سليل عائلة دينية عريقة ومعروفة, و مؤمن برسالته الأجتماعية وغيرمكترث بمتاعب المهنة والغربة,.....فهدفه رفع شأن الجيل الجديد بين ابناء الفلاحين وتخليصهم من الأقطاع البغيض الكابس عليهم منذ مئآت السنين,... ولذا,  فهو يعتبرعمله واجباً وطنياً يستحق التضحية.
كانت جميلة قد انجزت واستوعبت كل مقررات الصف الرابع ثانوي عن طريق زميلاتها في القرية, والدارسات في ثانوية الشطرة للبنات, وعرضت ما انجزته على المعلم جميل.
نفذ المعلم جميل ما وعد به والد جميله وجمع الكتب المقررة للسنة الخامسة ثانوي, وسلمها الى ابي جميله, ليعطيها بدوره الى ابنته, طالباً منها ان تكتب له عن كل استفسارعلمي,.. وهكذا بدأ التعاون لتذليل اية صعوبات قد تواجهها , .. فشكرابو جميله هذا المجهود ودعا له بالتوفيق.
 ومرًت الأيام والأشهر, وجميله منهمكة بدراستها, مسـتعينة بمراسلة المعلم جميل لكل ما يصادفها من صعوبات,.. واضافة الى ذلك كانت على اتصال بزميلاتها, وهكذا سار الأمر الى حين اقتراب موعد الأمتحان العام (البكالوريا) , .... ويبدأ الأستعداد للسفر الى مركز الأمتحان في مركز لواء / (الناصرية) ,..وقبل يوم السفر ألتقي ابو جميله والمعلم جميل في سوق الخواجه في الشطرة,..وتبادلا التحية, ثم انتبه ابو جميله الى شنطه سفر يحملها المعلم بيده,..فأستغرب وأستفسر منه عن السـبب فقال:
" والله بكره.. أمسافر الى الناصريه, ..حيث وصل اليوم امر رسمي بتعيني مراقب في مركز الأمتحان العام ".
 فرح ابو جميله, وتمنى اللقاء معه قي احدى مقاهي الناصرية.

          

يصل المعلم جميل صباحاً الى الناصرية, وفي المساء يخرج للنزهه في شارع "الهوى" الذي بتسكع فيه الشباب من كلا الجنسين, وهي ميزة بدأت حديثاً في ذلك العهد, حيث تخرج البنات للنزهة وهُن مرتديات للعباءة من دون" البوشيه",.....وقد كانت هذه خطوة حضاريه متقدمه, استغلها الشباب ( بالتحرش), المؤدب مع البنات, حيث تعود الأهالي على التنزه مساء كل يوم, مع تناول المكسرات, (حب الرقي أوعباد الشمس أوالفستق).
لم يستطع المعلم جميل الأستمرار في التجول,.. وعرج على سوق المدينة, ..وبعد ان أطلع على سير العمليات التجارية في السوق, لمس الفارق في التعامل بين اسواق بغداد العصريه وبين الأسواق المحلية هنا, وتسائل,هل سـيعم التطوركافة مدن العراق ام تبقى هذه المدن على وضعها؟..ولربما ستزداد سوءاً, وتكون سبباً في انهيار القرى والهجرة منها الى المدن الكبرى! وان حدث هذا لا سامح الله,.. فسيدق ناقوس الخطر لتحطيم العراق بأكمله,..لأن الوطن في مثل هذه الحالة سيعتمد على لقمة العيش من الأقطار الأخرى, وعندئذ سيفقد استقلاله,  ويخضع لسماسرة السياسة في الدول الكبرى, ..الى ان تستنفذ كل ثرواته ويعود الى ما كان عليه قبل الحكم الوطني واكتشاف النفط!
يصل المعلم جميل الى شاطئ نهرالفرات الذي يقسم المدينه, ..فيتوقف قليلاً ويتمعن بالمياه الغزيرة المتجهة الى شط العرب, ومن ثم الى البحر.
جلس المعلم في احدى المقاهي,..وشرب الماء من الساقي, وحز بنفسه ان يشرب الماء المالح, في حين كلمة الفرات وردت في القرآن الكريم, وتدل على العذوبه, ويُعزى تغيير العذوبة الى مرور النهر في الأهوار فتختلط تلك المياه العذبة بمياه الأهوار المالحة.
يستمر المعلم جميل في التمعن بوجوه الناس اثناء تجواله , وفي لحظة تقع عينيه على جميله وهي برفقة والدها,..فيلحق بهما, فأنتبها بوجوده, وتبادلوا التحية بحرارة, وقد طفحت الدماء على وجه جميله وتطلعت بأمعان للمعلم, وتبادلا عبارات الثناء, واستمروا بمسيرتهم في نشوة وسعادة,.. وبعد مدة وجيزة اقترح ابو جميله الأستراحة على احد المصاطب العامة ليتمتعوا بالمناظرالخلابه فيستجاب طلبه.
تجمعت حولهم اسراب من الطيور, والبط والأوز, لألتقاط ما يرمى لها من قطع الخبز والمكسرات, وفد لفت نظرجميله" ذكًر البط",وهو يتودد لأنثاه, ثم لطفل اقبل نحوها,فأحتضنته وقبلته بعاطفة متأججة, وضمته الى صدرها,..وابتسمت ام الطفل لها وادركت غريزة حواء وحبها للأطفال, ..وشعرت جميله بمراقبة الجميع لها,.... وتبادل والدها النظرات مع المعلم, وأدركا نضوج جميله, وتمنى كلاً منهما أعلان خطبتها, الا ان المعلم تخونه المقدرة للبوح عما يختلج في فؤاده من شوق لجميله, والأماني لتحقيق الزواج اليوم قبل غًدِ !

يسود الصمت للحظات, ثم يمد ابوجميله يده في جيبه ليخرج سبحته, فيهب مذعوراً ,..ويعلن عن فقدانها.,..ويشاركه جميل مشاعره, لأن السبحة لا تقاس بثمنها فقط وانما في ندرتها ,ثم يستأذن ابو جميله المعلم ليذهب الى الفندق, فمن المحتمل  قد عَـثـر عليها شخص ما وسلمها لأدارة الفندق, ..الا ان جميله تطلب منه الذهاب بمفرده بسرعة  ويتركها برفقة الأستاذ جميل ليساعدها على حًل نماذج من اسئلة امتحان يوم غًـدِ ,..ولم يمانع الأب, ووافق على مضض ,وذهب للتفتيش عن سبحته العزيزة !                    
يتنفس المعلم جميل الصعداء,..فهذه هي المرة الأولى التي يختلي فيها مع جميله بعيداً عن عيون والدها,فتطفح السعادة على وجهه وينتاب جميله القلق المفعم بأحاسيس غريبه ولم تملك القدرة على كبت عواطفها المتأججة اصلاً, ....وزاد سعيرها بسبب الخلوة التي جمعتها مع رجل وسيم,....فأي انثى بمثل وضعها تستطيع الهيمنة على النيران المستعرة في صدرها!
لم تشعر جميله لأي وجود للبشر, وكادت ان تفترس جميل لولا كبريائها, .وتمنت ان يبادر هو بعناقها, وقد نست انها في شارع عام في مدينة محافظة , فتهدأ قليلاً, وتبتسم له, وتمد يدها فيمسكها بحرارة,ولسان حالها يردد مقطعاً من قصيدة نزارقباني :
ومن دون ان ادري مددت له يدي        لتنام كالعصفور بين يديه

يلفت جميل نظر جميله الى الزهور والفراشات المتنقلة من زهرة الى اخرى, لجمع الرحيق وأتمام التلقيح, انها سنة الله لأستمرار التكاثر,وتفهم جميله فوراً قصده من ذلك !
يشرق وجه جميله بالأمل وتستنشق مع نسمة الهواء انفاساً عبقة لم تشم مثيلاً لها قبلاً, انها رائحة الرجولة التي تحولت لأشعة امتزجت مع جزيئات هواء شهيق رئتها, فأوقدت العواطف الدفينة اوالكامنة والمهيأة للأنفجارعند اي لحظة ملائمة!
يستجمع جميل كل طاقته,... ويركز نظره في عيونها ويشعر بأشعة تخترق شغاف قلبه,..وتخيلها زهرة آنَ اقتطافها, ..وبعفوية سحبت جميله يدها,.. وعادت الى رشدها, ألا أنها  تفقد السيطرة على انفاسها, ويكاد يغمى عليها من شدة الشَبق,..ويضمها جميل برفق, ليخفف عنها لوعة الحب العذري,فترتاح لتلك الحركة,.. ويحاول تغيير الحديث !
ها..حبيبتي, هل انت مُتهيأة للأمتحان,..ام انت خائفه ؟!
تستجمع جميله شجاعتها و تتحدي عواطفها,... وتطري على مواقفه معها والعون في تبسيطه لمواضيع المقررات ,...  واكدت له تفوقها في النتيجة.   
استغل جميل قناعتها بشخصه, وطلب رأيها في مفاتحة والدها بتحديد الخطبه, فاعترى جسمها قشعريرة وارتباك, وقالت له :
امحيسن ما زال متعلق بي,. وانني اشفق عليه , لأنه انسان مثالي, ولا ابالغ اذا قلت انه من (الجن), فلديه صفات نادرة الوجود تختلف عن باقي البشـر !
اما ابن عمي فقد  طلب يدي من والدي,.. ومنع زواجي من اي انسان غيره,  وهدد بقتل,اي انسان يتقدم لخطبتي, (ناهي ),.. وهو شرير ومتزوج وبعمروالدي تقريباً !
يُعقب جميل على اقوال جميله, ويؤكد لها ان لا احد ينتزعها منه الا الموت , وطلب منها الصبر,..فالزمن كفيل بتغييراي شيئ مهما طال انتظاره !  
ثمنت جميله مشاعر الأستاذ نحوها,..واكدت له بقتل نفسها ان  اجبرت على الزواج  من بن عمها اومن امحيسن او من شخص آخر!

                                       
يسألها المعلم جميل سؤالاً يعرف اجابته مسبقاً,..وهل توافقين ان طلبت يدك من الوالد؟ ...تستوعب جميله تلك المداعبة,... وتجيبه بغنج او قل بدلال:
هل هناك موجب لمثل هذا السؤال؟ الكتاب يقرأ من عنوانه!

تظهر على جميله حالة اكتآب , وتسيل الدموع الملتهبة بنار العشق الكامنه في صدرها اليانع والمكتنز لبركان لا احد يعرف ثورته الا الذي اكتوى بنار العشق!
يلتفت جميل يميناً, ويرى والد جميله مقبلاً نحوهما, وسيماء الفرحة على وجهه,..حيث بانت السبحة في يده,وراح يلوح بها من على بـعدِ, فينهض جميل ليحيِهِ ويهنأه.
شـرح ابو جميله متاعبه, لحين العثور علي سـبحته,....ثم استدرك الموقف, وقراْ افكار جميله, ..واقترح العودة الى الفندق,.. وتمت الموافقة,.... والوداع.    
   
يتبع في  الحلقة / الرابعة


أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

839 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع