أعيدوا لنا بغداد التي لم نعرفها...

                                         


                            بثينة العيسى*

بالأمس وصلتني رسالة من قارئ عراقي، رسالة تقول: أتمنى أن أجد كتبك في شارع المتنبي. رسالة تشبهُ الذّبحة الصدرية، تشبه الحنين، تشبهُ بحة السيّاب وهو يصيحُ في الخليج يا خليج، تشبهُ الأطلال الطينية في نحيبِ مظفر وهو يمتصّ الحانات ولا يسكر، تشبهُ العذوبة الفراتية لنازك وهي تبحثُ لحبيبها عن قرآنٍ هديّة كيلا يسافر بدون معية الكلمات المقدّسة. عراق الحنين، عراقُ الإنسان الجميل، المتطرّف حبّا والمتطرّف لعنًا والموغل عميقا في أحراشِ العاطفة.

ولأنني كويتية، فأنا أشعر بأن بيني وبين العراق علاقة حبٍ انتهت قبل أن تبدأ حتى، وقبل أن أعرف بأنه توجد على الكرة الأرضية بلاد اسمها عراق (لأن ما أعرفه عن خارطة العالم وقتها هو ثلاثة أماكن: الكويت، لندن، و"هولندن") عرفتُ بأن بلادي قد احتلّت من بلادٍ اسمها عراق، وكان عليّ في ذلك الوقت أن أتهجى كلمات جديدة: رشاش، غزو، دبابة، بترول، حرب، أمريكا. كلمات تشكّل وجه العالم، كان عليّ أن أتعلمها، حتى فاتني أن أتعلّمكِ يا عراق، أن أعرفكِ وأن أحبّك.
وقبل أن أراكِ، قبل أن أتوضأ في الفرات وأبكي على كتفِ دجلة، نبت هذا الجدارُ المستحيل وغير المرئي بيني وبينكِ، وأصبحتِ مجهولة بالكامل، وأصبحت العراق دموع عيني – أنا أيضًا – يا مظفر.
ومنذ طفلة الثامنة وحتى المرأة الثلاثينية التي صرتُها على سبيل الفجيعةِ، وأنا أحاول أن أشرئبّ بعنقي كي أعرف ماذا يحدث خلف ذلك الجدار. الوطن المسروق، الرازح تحت الانقسامِ، والإرهاب الأمريكي الذي تباركه كلّ الدنيا. تفجيرات طائفية ودمٌ كثير، ولكن العراق أكثر من كل هذا. العراق إنانا وعشتار، جلجامش وأنكيدو وتموز، البياتي والجواهري، السياب ومظفر ونازك ولميعة، عراق العذوبة في روايات فؤاد التكرلي.. عراقُ الخصبِ والعشبِ والحبّ، ماذا بقي منها، وماذا فعل بها العالم؟
بعد تحرير الكويت بأيامٍ كنا نحتفل بعودةٍ قريبنا من الأسر، وجلسنا حوله ليقصّ علينا يومياته هناك، وأذكر أنه بدأ يقلّد ما قاله الجنديّ العراقي باللهجة العراقية "يلا يابه هسه من يريد يطلع يتوضا؟"، وأنا.. بنت التسع سنوات المولعة بالكلمات وأصواتها رحت أكركر وأعيدُ العبارة.. وبخني الكبار يومها. قالوا لي لا تتحدثي مثلهم، مثل غزاتنا. الكويت تحررت ونريد أن ننسى. وتحوّل العراق كله إلى وجهِ صدام حسين، وجه الطاغية مرتكب المجازر، عراقُ الجمال والحضارة تم تغييبه تحت طبقاتٍ سميكة من ملامح الديكتاتور.
 
مضت 23 عامًا. وأشعر بالقهرِ من كل الأشياء الجميلة التي لم تحدث، أشعر بالقهر لأننا لا نزور بغداد كما نزور بيروت ودبي والقاهرة، أشعر بالقهرِ من كل الاحتمالات الباهية التي سرقها الأوغاد من الساسة، وأشعر بأنه قد تمت خديعتي تقريبًا. مسخت ذاكرتي، صودر حقي في أن أعرف العراق، لا عراق صدام حسين ولا عراق أمريكا. بل عراق السيّاب التي قال عنها:
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام حتى الظلام هناك أجمل،فهو يحتضن العراق .. أعيدوها لنا، هذه العراق التي لم نعرفها. أعيدوها!

*كاتبة وروائية كويتية

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

760 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع