عندي لوحة بيكاسو

                                           

                              علي السوداني

تحت يميني الليلةَ ، سبعة مفاتيح لخلق مكتوب . هذه واحدة من مِحَن الكتابة ومنغّصاتها البائنات . عليك أيّها الدرويش ، أن تقشّر الفكرة من زوائدها ، وأن تضبط بوصلتك صوب المقصد ، وأن تخلع من مخّك المكتظّ ، ستَّ فكرات يلبطْنَ ببطن القحف ، كما لو أنّهنَّ ركلات ثورٍ أعرج ، لتكتفي بواحدةٍ مستلة من باب البهجة .

في البدء عليَّ اخباركم بأنني واحدٌ من عتاة صنّاع الأحلام السعيدة . أحلامي هي ليست منامات ، بل هي من الصنف الذي يسمّيه الحفّارون في النفس ، أحلام يقظة وهذه ليست من تلك التي يتندّر عليها المتهكّمون الأوغاد ، فيزرعونها في حقل أحلام العصافير . على مبعدة رنّة كأسٍ من داري ، ثمة عجوز وحيدة تعيش بغرفة بائسة ونافذة تطلّ على الشارع . منذ عشر سنوات والمشهد لم يتبدّل ، لكنّ الليلة يبدو أنها لا تشبه أخيّاتها الفائتات . نادتني الكهلة الطيبة بكمشة حروف مبهمة ، ورشقة سعال متصل . كان باب غرفتها منفرجاً وهي تلوّح إليَّ بالدخول . طلبت منّي أن أقعدَ لصقها ، وكان بمقدوري أن أتشرّب بصفرة وجهها ووهن صوتها . حدّثتني عن احساسها بخطوات موت ثقيلة تركب فوق قلبها ، ثم أشارت بيمينٍ مرتعشة صوب صندوق خشبيٍّ عتيق . قمتُ متثاقلاً متضعضعاً من فكرة فراقٍ آتٍ بقوة ، وجلبت الصندوق المغبر وشتلتُهُ برأس سريرها . أخرجتْ من عبّها مفتاحاً صدئاً يشبه مفتاح دارٍ مغتصبة . قالت أريد منك ان تحتفظ بهذا الصندوق ، وهو لا يحوي أشياء ثمينة ، إنما هي صور ورسائل وشرائط ورسمات ، ستجعلني نائمة مطمئنة في ذاكرتك الحميمة . جاهدتُ كثيراً كي أقنعها بتأجيل هذا الإحتفاء بموتٍ لم يحنْ بعدُ ، لكنّها أصرّت على الأمر ، وتمنّت عليَّ أن أدثّرها وأحمل الذكرى وأغلق الباب خلفي بهدوء . فعلتُ ذلك بقلب معصورٍ وأطفأتُ قنديلاً أصفرَ باهتاً نازلاً من سقف العجوز . داري الليلةَ موحشة ، ويداي تفتشُ ببطن الصندوق الخاوي ، كما لو أنني أنبشُ قبراً عتيقاً . في صندوقي الآن لوحة عنوانها " عازف الغيتار العجوز " مذيّلة بتوقيع بيكاسو الراسخ العنيد . يا إلهي ، إنني أقوم على كنزٍ لا يفنى ، وأتوسّل إليك يا رحيم ، أن تبقي عجوزي الجميلة ، ولو سنة واحدة مسجلة بدفتر الحياة . سأبيع بيكاسو بمائة مليون دولار، وسوف أصنع لهذه المبروكة ، جنّتها المفقودة على الأرض ، وسأعوضها عن كل برد وجوع ووحشة السنين . أمّا أنتم أصدقائي الصعاليك الأحرار ، الذين طشّشتكم الأيام السود ، حتى صار واحدكم لا يدري بأيِّ أرضٍ يموت ، تعالوا إلى أعتابي ، لأنّ في خراج لوحة بيكاسو خاصتي ، حقُّ للشاعر والمحروم !!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عمّان حتى الآن

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

744 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع