إعدام المعرفة!

                                              

                                زينب حفني

كان الكاهن إبراهيم سروج الأرثوذكسي، يعيش سعيداً وسط مكتبته «السائح» بمدينته طرابلس، التي كانت تضم نحو 80 ألف كتاب متنوّع، بما فيها كتب إسلامية نفيسة ومصاحف قديمة ومخطوطات يعود بعضها لمئة سنة مضت. لم يكن يعلم القس إبراهيم بأنه سيفقد يوماً مكتبته العامرة التي قضى عمره وسط رفوفها المكدسة، يشمُّ رائحتها بنشوة، متفاخراً بين أبناء مدينته، بأنه يملك ثروة معرفيّة ورقيّة طائلة.

القس إبراهيم أصابته فجيعة كبرى، عندما وجد مكتبته تحترق أمام ناظريه، فقد أتلفت النار ثلثي محتويات المكتبة، وقضت مياه فرق الإطفاء على البقية! الحريق تمَّ بفعل فاعل من قبل إسلاميين متطرفين، زعموا بأنهم عثروا على منشور يُسيء للإسلام داخل مكتبته، وقد حكموا غيابيّاً بالإعدام على مكتبة الرجل، دون أن تأخذهم رأفة، أو شفقة بكم الكتب القديمة والنادرة التي تحتوي عليها.

القس إبراهيم لم يكن يوماً رجلاً عنصريّاً، بل كان يُردد دوماً «نحن أخوة في هذا الشرق العظيم، وعلينا أن نتحد لنكون منارة العالم». لكن يظهر بأن هذه العبارة لم تلقَ آذاناً صاغية لدى المتشددين، واستمروا في بطشهم وغيّهم والتمسّك بإعدام هذه المكتبة النفيسة عن بكرة أبيها، ليكون صاحبها عبرة لكل من تسوّل له نفسه الإساءة للإسلام من قريب أو بعيد!

اتضح من التحقيقات بأن الكاهن إبراهيم بريء من هذا المنشور! ولكن لنفترض جدلاً بأن القس إبراهيم كان متورطاً، فهل أصبح قانون الغاب هو الوسيلة الوحيدة لاسترجاع الحقوق، وتأديب من يُسيء إلى دين من الأديان السماوية؟! إن ما يجري في لبنان يُثير الكثير من المخاوف، في بلد متعدد الطوائف! ومهما حاول البعض تشويه العلاقة القائمة منذ مئات السنين، فلن يفلحوا، لأن هذا البلد منذ أن وضع الله اسمه على خريطة العالم، كان أرضاً للتعايش المشترك.

حالنا في عالمنا العربي لا يسر عدوا ولا حبيبا! وكلما تلفّتُ حولي، أشعر بالذعر، كأنني قمتُ من نومي على كابوس مخيف! كل أوطاننا أصابتها آفة التطرف الفكري، والتشدد الطائفي والمذهبي! نسينا الحب الذي كان يجمعنا! دهسنا بأقدامنا على صلات الود التي عرفناها بالماضي! أغمضنا أعيننا عن رؤية الجوانب الجميلة في علاقاتنا الأخوية! صممنا آذاننا عن كل دعوة للحوار العقلاني، حتّى غدتُ أشعر بأننا لم نعد نهتم سوى بـ«أنا التعصّب» المسيطرة علينا!

منذ أسابيع ظهر في اليمن، البلد العربي المجاور لنا، جماعة متشددة أطلقت على نفسها (جماعة التوحيد)، قامت بتكفير الكاتب أحمد الصوفي بعد أن أصدر روايته مأساة إبليس، بحجة أن محتوى الرواية يمس المعتقدات الإسلامية! حتّى القامة السامقة الشاعر (عبد العزيز المقالح) لم يسلم في الماضي من تهديدات التكفيريين! والجرّة لم تزل مليئة بالمصائب التي تخرُّ على رؤوسنا يوميّاً!

لم أعد أصاب بأي دهشة عندما أسمع حكماً بالكفر على كاتب أو روائي، ووجوب إقامة حد الردة عليه، بعد أن أصابنا (فيروس) التطرّف! لم أعد أرفع حاجبيَّ تعجّباً، من القبض على فلان بسبب تغريدة سطّرها، أو رمي آخر بالسجن، بسبب فكرة قالها في حديث صحفي! كل الطرق أصبحت تؤدي إلى روما! حتّى أصبحتُ أؤمن بأن بلداننا العربية أصبحت تتشابه في نظرة مجتمعاتها للآخرين المختلفين معها فكريّاً وعقائديّاً، مثل الأفلام الصامتة التي لا تختلف طريقة عرضها بدور السينما!

وقفة صادقة يا عرب. إذا كانت الجامعة العربية قد انحسرت أدوارها اليوم! لماذا لا تقم بمحاولة أخيرة لإنقاذ سفينة أوطاننا من الغرق، بالدعوة إلى تعزيز الحوار العقلاني القائم على نبذ الطائفيّة، والقضاء على الإرهاب الفكري؟! الفرصة لم تزل سانحة!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

786 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع