د. نسرين مراد
يؤثر ربيع التغيير في العالم العربي بشكل مباشر، في جل المحاور والأبعاد والقضايا المرحلية والاستراتيجية. القضاء والعدالة من أكثر المجالات تأثراً، بشكل واضح للمراقب لسير الأحداث.
أساساً كان القضاء في العالم العربي عموماً من التخلف بمكان، وغالباً ما خضع لتأثيرات واعتبارات سياسية وثقافية وأيديولوجية، في الحكم على مختلف المسائل والقضايا المعروضة. ظهر ذلك واضحاً في جل القضايا، خاصةً ذات الطابع السياسي.
لا عجب في ذلك، فلم تكن هنالك أية آثار بالخير تُذكر للديمقراطية وحقوق الإنسان، واختيار أفضل معايير وأسس العدالة في إسداء الأحكام القضائية. كثيراً ما غابت النزاهة والشفافية، وباتت الأحكام في أيدي قضاةو يضعون العدالة في الدرجة الثانية والثالثة، مقابل إرضاء النظام السياسي، أو لمسايرة معايير المجتمع الثقافية الخاصة.
زادت الأمور سوءاً وفوضى في الدول، التي مرت بالتغيير، سواء بالاستعانة بالقوة الخارجية، أو نتيجةً لانتفاضات أو ثورات شعبية عارمة. القضاء أصبح مُسيّساً ومنحازاً في معظم الحالات، أكثر من أي وقت مضى. القضاة من أنصار الثورة، باتوا يواجهون أنصار الأنظمة السابقة، والعكس بالعكس يُذكر.
الأنظمة السابقة إما زالت كلياً أو جزئياً، وإما حتى شكلياً بخجل. تسابق معظم القضاة والمحامين في الطعن في نتائج المحاكمات، بناء على خلفياتهم السياسية. المتهمون الذين يواجهون العدالة أصبحوا تحت رحمة هذا القضاء الجديد، المصاب بالانفصام في الأغلب. قاضٍ مناصر للعهد الجديد، يحكم على شخص متهم بمناصرة النظام السابق، بأقسى أنواع الأحكام والعقوبات. بسهولة تصل العقوبة إلى الإعدام، ويُظهر القاضي، ومعه محامو الادعاء العام، تشفّيهم بالمحكوم عليه علناً، أثناء النطق بالحكم.
وصلت الأمور بالقضاء الجديد إلى مرحلة من التسرّع والتخبط في إصدار الأحكام، في جلسات قصيرة شابها الهرج والمرج، طالت تلك الأحكام المتهمين، من مختلف الأعمار والخلفيات التعليمية والمهنية والاجتماعية.
أدى ذلك إلى تدخّل جماعات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، أحياناً، طالبت تلك المجموعات بنقل بعض المحاكمات إلى الخارج، في محاولة لتخفيف آثار ونتائج القضاء المنحاز والمسيّس؛ قضاء يفتقر إلى الواقعية في إصدار الأحكام. أهم تلك الأحكام هي التي تنص على إعدام المتهمين، من رجالات العهود السابقة، خاصةً من ذوي المناصب العالية والحساسة.
القضاء الجديد ينظر إلى المعارضة في صورة طبق الأصل تقريباً، عن أساليب الأنظمة السياسية السابقة. القاضي من أتباع أو أنصار الحكم الجديد، يحكم بالكثير من الإسفاف والتعسف واللاواقعية تجاه أنصار المعارضة الجديدة، المزيج من النظام السابق والمعارضة الجديدة الناجمة عن طبيعة ربيع التغيير. التغيير الحديث حقيقةً يفتقر إلى روح الحداثة، والثورية، والديمقراطية المطلوبة.
هنالك فوضى تعم العقلية الاجتماعية والسياسية والقضائية، يكاد لا ينجو من تبعاتها أحد. الكثيرون من أنصار الثورة باتوا وراء قضبان السجون، ومعهم أنصار العهود السابقة. الأنظمة السياسية الجديدة تتمتع بدرجة من الدكتاتورية، قد لا تقل حدّةً عن نظرائها في العهود السابقة. لولا الرقابة الصارمة والانتقادات الدولية، ربما لتوطدت دكتاتورية التغيير، مع اختلاف شكلي في المظهر واللباس الخارجيّينِ!
النظام والقضاء والعدالة والقانون والدستور، هي المكونات الأساسية لسيادة نظام سياسي واجتماعي مستقر، يحمي حقوق الجميع، إذا ما بدأت الأمور هكذا من التسلط والتسييس والمحاباة والانحياز والانتقائية في إنتاج القوانين والدساتير، فلن يكون من السهل تغييرها في مراحل قادمة مهما تكن طويلة.
على جميع القوى والأطراف التعاون والتعاضد والتكامل، من أجل العمل على توطيد أوضاع مستقرة لمراحل استراتيجية مستقبلية، تخدم الشعوب لأمد بعيد.
765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع