د.رعد العنبكي
تبين مما تقدم ان رفض اليهود للدعوة الاسلامية كان سبب الخصومة _في مرحلتها الاولى _ بين اليهود والمسلمين
كما ان اليهود لما راءوا الرسول الف بين قلوب اهل يثرب واوجد منهم كتلة واحدة سوف تحد من سلطانهم لا محالة ،لذلك بداءوا بمقاومته وتنظيم المؤامرات ضده وقد ذكر القران بعض مؤامراتهم وكشف نياتهم السيئة التي ارادوا بها محاربة الاسلام ليحذر المسلمون من شرهم والى القارئ الكريم بعض مؤامراتهم :
الحصار الاقتصادي :
قام بعض اليهود بمؤامرة تهدف الى ابعاد المسلمين عن دينهم وذلك بمقاطعتهم اقتصاديا وامتناعهم عن دفع ما يجب عليهم دفعه من ديون وبيوع وامانات لمن اعتنق الاسلام مدعين ان ما كان لهم من حق انماكان لهم قبل الاسلام وان دخولهم في هذا الدين قد ابطل حقهم فيه والى ذلك يشير القران الكريم:
( ومن اهل الكتاب من ان تامنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من ان تامنه بدينار لا يؤده اليك ما دمت عليه قائما ذلك بانهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) ال عمران :75
ويذكر المفسرون ان رجالا من اهل الجاهلية _ اي قبل الاسلام_ باعوا يهودا بضاعة ثم اسلموا ولما طلبوا من هؤلاء اليهود دفع الثمن قالوا :ليس علينا امانة ولا قضاء عندنا لانكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا انهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله في الاية ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )
ورفض رؤساء اليهود ان يقرضوا المسلمين مالا في اول عهدهم بيثرب وقد كانوا في ضنك شديد فالمهاجرون فقراء لا مال لهم ومن كان صاحب مال منهم وسعة ترك ماله في مكة ونجا بنفسه والذين دخلوا الاسلام من اهل يثرب لم يكونوا على سعة من الرزق فارسل النبي صلى الله عليه وسلم ابا بكر
الى رؤساء اليهود ليستقرض منهم مالا يستعين به على اموره موصيا اياه الا يشتط في كلامه والا يلحق بهم اذى اذا رفضوا اجابته فلما دخل ابوبكر ( بيت المدارس ) موضع عبادة اليهود وجد يهودا قد اجتمعوا الى رجل منهم يقال له ( فنحاص) وهو سيد بني قينقاع وكان من علمائهم واحبارهم ومعه حبر يقال له اشيع فلما حدثه ابوبكر بما جاء به وعرض عليه كتاب رسول الله فقراه حتى اذا انتهى منه قال :
احتاج ربكم ان نمده ؟ فنزل الوحي الالهي ( لقد سمع الله قول الذين قالوا ان الله فقير ونحن اغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الانبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) ال عمران :181
والمعنى : لقد سمع الله ما قاله بعض اليهود متهكمين : ان الله فقير ونحن اغنياء لقد سمع الله قولهم هذا وسجله عليهم من قبل قتلهم الانبياء ظلما وسيقول اهم يوم القيامة ذوقوا عذاب النار المحرقة اثارة الاحقاد الدفينة والفتن :
ومن مؤامراتهم على الاسلام استغلال الاحقاد الدفينة التي كانت تعتلج في نفوس اهل يثرب من الاوس والخزرج قبل الاسلام واثارتها يدلنا على ذلك ما رواه ابن اسحق واليكم ملخصه :
(مر شاس بن قيس – وكان يهوديا شديد الطعن على المسلمين- على نفر من الاوس والخزرج بعد ان نزع الاسلام ما بينهم من احقاد وضغائن فغاظه ما راى من الفتهم وصلاح ذات بينهم فجلس اليهم واخذ يجرهم شيئا فشيئا الى احداث الماضي المشحون بالعداوة والخصومة واخذ ينشدهم بعض ما قيل في حروبهم من الشعر فحرك من وجدانهم وهاج من عصبيتهم وما زال بهم حتى تنادوا فيما بينهم : السلاح السلاح وكاد يقع الصدام فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج اليهم مخاطبا اياهم : ابدعوى الجاهلية وانا بين اظهركم بعد ان هداكم الله للاسلام واكرمكم به واستنقذكم من الكفر والف بين قلوبكم فعرف القوم عندئذ انها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الاوس والخزرج بعظهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين قد اطفاء الله عنهم كيد عدو المسلمين شاس بن قيس وفي هذه الحادثة نزل الوحي
الاهي : (قل يا اهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من امن تبغونها عوجا وانتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ياايها الذين امنوا ان تطيعوا فريقا من الذين اوتوا الكتاب يردوكم بعد ايمانكم كافرين وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم ايات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم ) ال عمران :99-101
وهذا الذي فعله شاس بن قيس يفعله اعداء المسلمين دائما والصهيونيون حاليا فحري بالمسلمين والعرب ان يجتنبوا كيدهم وان ياخذوا درسا من هذه الحادثة فلا يجعلوا لاعدائهم سبيلا الى التفريق بين وحدتهم واخوتهم في الدين بث الشكوك في الاسلام وعمد اليهود الى اضعاف الايمان في نفوس المسلمين وزعزعة ثقتهم بالاسلام وذلك باثارة الشكوك في قلوبهم وتلقينهم ان ما في الاسلام انما هو تحريف لبعض ماجاء في التوراة وان في القران تناقضا وغير
ذلك من شبهات والحقيقة ان الاسلام ما هو الا دعوة صريحة الى الرجوع للدين الحق الذي جاء به جميع المرسلين وتطهيره مما اعتوره من اوهام واختلافات اثارت البغضاء بين البشرية
ذكر القران الكريم محاولات اليهود في صد المسلمين عن الاسلام بقوله :
( ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون الا انفسهم وما يشعرون يااهل الكتاب لم تكفرون بايات الله وانتم تشهدون ) ال عمران :69-70
والمعنى : احبت طائفة من اليهود ان يوقعوكم في الضلال بالقاء الشبه التي توهن عقيدتكم ولكنهم حين يبغون اضلالكم بالشبه انما ينصرفون عن النظرفي طرق الهداية التي اتى بها النبي محمد صلوات الله عليه وسلم فيكون ذلك داعيا الى ضلالهم غير شاعرين بهذا الضلال الذي يلازمهم ثم يقول الله تعالى لهم : لم تكفرون ايها اليهود بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلوات الله عليه وسلم وانتم تشهدون بصحتها بما في كتبكم من نعته والبشارة به ومن مؤامرات اليهود لتشكيك المسلمين في دينهم ما ذكره القران الكريم :
( وقالت طائفة من اهل الكتاب امنوا بالذي انزل على الذين امنوا وجه النهار واكفروا اخره لعلهم يرجعون ) ال عمران :72
جاء في اسباب نزول هذه الاية ان بعض اليهود تحدثوا فيما بينهم قائلين : اعطوهم الرضى بدينهم اول النهار واكفروا اخره فانه اجدر ان يصدقوكم ويعلموا انكم قد رايتم منه ما تكرهون وهو اجدر ان يرجعوا عن دينهم وهذا النوع الذي تحكيه الاية من صد اليهود المسلمين عن الاسلام مبني على قاعدة طبيعية من سلوك البشر وهي :
ان علامة الحق ان لا يرجع عنه من يقتنع به وقد فقه هرقل والي الروم هذه الحقيقة فكان مما سال عنه ابا سفيان – احد خصوم النبي محمد صلوات الله عليه وسلم – قوله ( هل يرجع عن الاسلام من دخل فيه فقال ابو سفيان : لا ) فاليهود ارادوا غش الناس من هذه الناحية ليقولوا لولا ان ظهر لهؤلاء بطلان الاسلام لما رجعوا عنه بعد ان دخلوا فيه ولكن ما تعليل هذه المحاولات المستمرة في اضلال المسلمين عن دينهم؟ فلقد كانوا يعبدون من قبل : الاوثان والوثنية
من اشد ما تستهجنها اليهودية بينما الاسلام دين توحيد يقارب اليهودية في التوحيد فكان الاحرى باليهود ان يؤيدوا الاسلام لا ان يتامروا عليه هذا التامر الفاضح لكن تعليل مؤامراتهم اوضحها القران الكريم بقوله :
( ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره ان الله على كل شئ قدير) سورة البقرة: 109
هذه الاية تعلل سبب حرص اليهود على اضلال المسلمين وتذكر انه :الحسد- الحسد من دعوة الاسلام التي عرفوا انها الحق وانها بدات تؤتي ثمارها في معتنقيها فالفت بين قلوبهم وبدات تنهض بهم وترفع شانهم ولكن الحاسد يتمنى ان يسلب محسوده النعمة ولو لم تكن ضارة به فكيف اذا كان يعلم ان تلك النعمة اذا تمت وثبتت يكون من اثرها سيادة المحسود عليه وادخاله تحت سلطانه وهذا ماكان يتوقعه اليهود وهذا ما صرح به القران الكريم بقوله :
( ما يود الذين كفروا من اهل الكتاب ولا المشركين ان ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )البقرة :105
ولكن امام هذه المحاولات الدنيئة يظهر سمو القران الكريم فهو كتاب السلام والمسامحة فيامر المسلمين بالعفوا والصفح وذلك في تتمة الاية
التي ذكرت حسد اليهود فيقول : (فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره )
وفي هذا النص القراني ايضا وعد بالمعونة والتاييد وحسن العاقبة وهذا الوعد الذي تحقق بعد فترة قصيرة مما يدل على ان القران الكريم وحي الهي كما يدل على صدق رسالة النبي محمد صلوات الله عليه وسلم التجسس على المسلمين
وذكر اهل الاخبار اسماء جماعة من اليهود دخلوا في الاسلام ولكنهم كانوا يبطنون الكفر به وكان اسلامهم وسيلة للتجسس عليه ولنقل اخبار الرسول
وما يريد عمله اليهود والى حلفائهم المشركين وكان جلوسهم الى بعض المسلمين لاستراق السمع ولاثارة الشكوك في قلوب المستضعفين منهم وللاتصال بمن كان على شاكلتهم من منافقي الاوس والخزرج للعمل معا على تقويض الاسلام واثارة الفتنة بين المسلمين ولابطال اثر هذه الفتنة نزل الوحي الالهي بالنهي عن الاتصال باليهود والاطمئنان اليهم وبقطع الصلة بهم قال الله تعالى : ( يايها الذين امنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يالونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر قد بينا لكم الايات ان كنتم تعقلون ) ال عمران:118
والمعنى :لا تتخذوا ايها المؤمنون اخصاء واصدقاء من غير دينكم تطلعونهم على اسراركم لانهم يريدون افسادكم ويتمنون وقوعكم بالضرر قد ظهرت امارات البغضاء من زلات السنتهم وما تضمره قلوبهم اعظم مما يبدو قد اظهر الله لكم العلامات التي يتميز بها الصديق من العدو فاحذروهم ان كنتم من اصحاب العقول والادراك الصحيح ليس معنى الاية نهي المسلم عن مصادقة من يخالفه في الدينه مطلقا بل الاية تحرم مصادقة الذي يتصف بصفات السوء ويتمنى وقوع الضرر للمسلمين وقد قصد بهذه الصفات اليهود الذين كانوا اشد الناس حربا على الاسلام في بدء ظهوره
اماالذين ظهر اخلاصهم للمؤمنين فالقران الكريم يامر بمصادقتهم والاحسان اليهم والعدل معهم وهذا ما تنطق به الاية القرانية الكريمة : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين ) الممتحنة :8
وهذا ماسار عليه المسلمون في الماضي في اشد ايام حماسهم الديني فقد اكرموا الطوائف المسيحية التي كانت تعيش بينهم اشد الاكرام وقربوا علمائهم واسندوا اليهم اكبر المناصب في خدمة الدولة الاسلامية كما هو مشهور في التاريخ
ولنعرض الايات القرانية التي عقبت على منع مصادقة اليهود :
(هاانتم اولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله واذا لقوكم قالوا امنا واذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم ان الله عليم بذات الصدور ان تمسسكم حسنة تسوهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ان الله بما يعملون محيط ) اعمران : 119-120
تامل قوله تعالى ( ها انتم اولاء تحبونهم ولا يحبونكم )فالقران الكريم ينطق بافصح عبارة واصفا المسلمين بهذا الوصف الذي هو اثار الاسلام وهو انهم يحبون اشد الناس عداوة لهم هنا يلتقي الاسلام مع المسيحية في ارادة الخير في قول السيد المسيح : ( احبوا اعدائكم باركوا لاعنيكم )
ومعنى قوله تعالى : (وتؤمنون بالكتاب كله ) اي انكم ايها المسلمون تؤمنون بجميع ما انزل الله من كتب مقدسة كالتوراة والانجيل والقران فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الاهية او النبيين الذين جاءوا بها فحبكم اياهم هو بمقتضى ايمانكم هذا وكان الاحرى ان يحبوكم لانكم تؤمنون بكتب الله وبعد ان بين الله نفاقهم نحو المؤمنين امر رسوله محمد صلوات الله عليه وسلم بالرد على لؤمهم وغدرهم ونفاقهم بهذه الجملة البليغة التي تحمل اشد انواع الازدراء بهم(قل موتوا بغيظكم)
واخيرا بين القران نيات اليهود السيئة نحو المؤمنين وان هذه النيات لن تضر المؤمنين اذا صبروا على اذاهم واتقوا موالاتهم لان الله عز وجل سيحفظهم من كيدهم ( لا يضركم كيدهم شيئا ) هذا الوعد الالهي الذي تحقق في نصره للمؤمنين وخذلانه لليهود وهزيمتهم في جميع محاولاتهم العدوانية محاولة التاثير على الرسول محمد صلوات الله عليه وسلم
ومن مؤامراتهم على الاسلام محاولتهم فتنة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام نفسه والتاثير عليه للعبث بتعاليم الله وعدم الحكم بها على وجهها الصحيح فقد ذكر اهل السير والاخبار ان زعماء اليهود قال بعضهم لبعض : ( اذهبوا بنا الى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فانما هو دين بشر فاتوه فقالوا له : يامحمد لعلنا انك قد عرفت انا احبار اليهود واشرافهم وسادتهم وانا ان اتبعناك اتبعتك اليهود ولم يخالفونا وان بيننا وبين بعض قومنا خصومة فنحاكمهم اليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك فابى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله فيهم : ( وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهوائهم واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك فان تولوا فاعلم انما يريد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم وان كثيرا من الناس لفاسقون ) المائدة:49
في هذه الاية الكريمة تظهر سمو تعاليم الاسلام فالله يامر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بان يحكم بين اليهود بما انزل الله وان لا يتبع رغباتهم واهوائهم في الحكم ويحذره من ان يصرفوه عن بعض ما انزل الله عليه فان اعرضوا عن حكم الله وارادا غيره فاعلم يامحمد بان الله انما يريد ان يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم التي اقترفوها وسيجازيهم في الاخرة على عصيانهم وتمردهم وان كثيرا من الناس لمتمردون على احكام الشريعة
هذا النص القراني يسمو بالاحكام العادلة ويجعل تنفيذها امرا محتما بصرف النظر عن اوضاع الناس او اي مؤثرات اخرى ويجعل القانون واحدا لكل الناس ولكل الطبقات كما ان هذا النص القراني هو ارشاد للقضاة كي لا ينقادوا لاهواء السادة والكبراء الذين يؤثرون مصالحهم الخاصة على حساب الحق والعدالة
وبهذا اكتفي يا سادتي والى الحلقة القادمة انشاء الله تعالى
ولكم مني اطيب المنى
اخوكم المخلص
الدكتور
رعد العنبكي
745 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع