نعي الفقيد العلامة أ.د عبد الكريم زيدان رحمه الله

                                            

                             د.عمر الكبيسي


خلال عمره المديد الذي يتجاوز التسعين عاما بعدة سنين لمع إسم عبد الكريم زيدان كشخصية اسلامية في الستينات في بغداد بعد ان أكمل دراساته للحصول على الماجستير والدكتوراه  من جامعة القاهرة،عرفته عن بعد في الكرخ بسبب فارق العمر لكني استمعت خطاباته ومحاضراته في بغداد بإعجاب وكنت حينها طالبا في الدراسة المتوسطة والتقيته بالسلام والمصافحة بعدها وانا في الثانوية والكلية الطبية في جانب الكرخ يوم كان يدرس في مدرسة تحفيظ القرآن خلف التربية الاسلامية وثانوية الكرخ المطلة على ضفاف دجلة .

وتعودت ان لا أراه الا متأبطا او حاملا لكتاب ، بسيط الهندام تقرأ في وجهه السكينة والتواضع والتقى وقد كان في حينها معروف بأنه أحد قيادات الاخوان المسلمين ويحضى بين منتميها بقدر واسع من التأثير والتقدير . كنت اراه وأنا في طريقي الى ثانوية الكرخ وحين  يجتاز دارنا في أزقة التكارته حيث كان يسلك طريقه ايابا وذهابا الى سكنه في المحلة وكنت أراه في كل احتفال او مناسبة دينية وفي صلوات الجمع بجوامع الكرخ وندواتها وتصاعد لمعان هذا الرجل عندما كنا طلابا في الجامعة ندرس في مقاهي الكرخ ونسمع من طلبة كلية الحقوق  والآداب والدراسات الاسلامية التي أسسها  وتقلد مناصبه العلمية حتى نال درجة الاستاذ المتمرس،عن اعجابهم بفكر وعلمية وفقهية الفقيد وصرامته ورصانته في التدريس والنقاش. سياسيا برز الفقيد كقيادة إخوانية في فترة ما بعد الشيخ محمد الصواف بمواقف صلبة وتصحيحية في خضم الصراع السياسي المتقلب الذي اجتاح العراق في الستينات بين الاحزاب السياسيةالتي شاركت بهذه الصراع وشهد نمو حركة الاخوان المسلمين في الوسط الجامعي كقوة فاعلة لها قاعدتها العريضة والمنضبطة والتي يعود الفضل الكبير لقيادة عبد الكريم زيدان لها بمواصفاته الهادئة والمتواضعة والتي لا تلبث ان تتحول الى شجاعة وصلابة في الموقف و وضوح الخطاب وبيان الرأي الفاصل والحاسم عندما يتطلب الامر في فترة كانت فيها  الاحزاب والحركات السياسية القومية  والعلمانية واللبرالية شديدة العداء وتوصم الاخوان المسلمين تارة بالتبعية وتارة بالرجعية  . غادر الفقيد العراق الى اليمن ليواصل التدريس في جامعة صنعاء وجامعة الايمان ونال جائزة الملك فيصل العالمية على بحث موسع بشأن فقه المرأة في الإسلام  طبع في 12 مجلد وتبوء عضوية مجالس العلماء والرابطة الاسلامية ومجالس فقهية عديدة رفيعة .

التقيت بهذا الشيخ الجليل بعد احتلال العراق في عمان قبيل الانتخابات النيابية للدورة الأولى وكان في أواخر الثمانينيات من العمر محدب القامة ويتوكأ على عكازين وكان أول لقائي ونقاشي معه في اجتماع عقد في ديوان الشيخ خميس الخنجر حول العملية السياسية في العراق والموقف منها بحضور العديد من اصحاب الرأي والعلماء وهو يحاول التوفيق بين من يدعو الى المشاركة فيها متمثلة بالحزب الاسلامي  وبين من يقاطعها متمثلة بالشيخ حارث الضاري وهيئة علماء المسلمين معارضا رأيه بترك الأمر لقناعة  الافراد ورغبتهم لأنه لا يرى في العملية السياسية التي وضعها الاحتلال بمحتواها الصلاح في حين اجاز الفقيد بفتوى المشاركة المشروطة بالأداء والتقييم واعتبر ان ترك الأمة بلا توجيه شرعي وفق خيارات اهل السنة الذاتية أمر غير مقبول  .وفي حينها وجدته بالرغم من هوان الجسم والتقدم بالعمر والمرض نابه وحافظ ودقيق في ما يقول وما يستند عليه من ادلة قرآنية ومصادر تشريعية مدعومة بقرائن من الاحداث والنقول . وكنت من ضمن المعترضين لفتواه وبقوة وصلابة راجيا منه ان يترك الشيخ الضاري على رأيه دون تأثير بسبب ما تحمله مجريات السياسة في مضامينها من خبث ودمار مما هو ابعد من مضمون النصوص الشرعية وأقرب الى مستجدات الاحداث التي اعقبت الاحتلال والدستور الخائب الذي كتب بارادة المحتلين وساهم بتمريره اجتهاد غير مبرر من قيادة الحزب الاسلامي حين وافقت على قبوله بليلة قبل الاستفتاء . وشددت ان لا يكون من خلال موقعه الشرعي والفقهي المجمع عليه أداة ضغط على منهم ادرى بواقع العراق لعيشهم فيه ومتابعة شئونه (من أمور الدنيا ) فيما هو يعيش  بعيدا عنه لأكثر من عقد من الزمان منشغل بالبحث والتدريس الفقهي ، حتى ان العديد من الحضور وجه لي لوما كيف اناقش هذا الشيخ الجليل بهذه الحدة وهو عليل البدن مع اني طبيب يفترض ان اقدر وضعه الصحي ،  فأجبتهم  ان من دعاه للمجئ من اليمن  الى عمان وهو يعرف بوضعه الصحي  ليفتي له بالمشاركة بالعملية السياسية يتحمل مسئولية ذلك في حينها لمست ان الشيخ عبد الكريم زيدان قد استمع بدقة لما قلت وربما وجد استحسانا بما أثرت من نقاط بدأ يناقشها بهدوء وعلمية عالية .

لم تمض سنة على تلك الحادثة  وإذا بالشيخ يهاتفني من اليمن قائلا بان توجساتي وحذري في حينها كان صحيحا وانه وهو يشاهد احداث التهجير والقتل الذي يتعرض له سنة العراق دون ردة فعل سياسية حازمة لنواب السنة افقدته الامل بجدوى الاستمرار ولكنه سيسطبر لمزيد من الوقت ليلغي التفويض ببقائهم في العملية السياسية ، إن بقوا على نفس الحال وانه قادم الى عمان عن قريب ويريد ان يلتقي من بالإمكان رؤيته فيها لتصويب الموقف  وفعلا تمت الزيارة وتكررت لقاءتنا خلالها وبعدها وبالأخص فيما يتعلق بتشكيل الصحوات وتجاوز افعالها بالضرر المباشر على فعل المقاومة الوطنية واستهداف شبابها . وهكذا توطدت العلاقة بيني وبينه كمريض وطبيب اتابع حالته خلال زياراته المتعاقبة وكمفكرأتناقش معه بوضع العراق وموقفه من أزماته منها تشكيل الصحوات وقضية الأقاليم والنزوح والتهجير  . كان الفقيد كما عرفته بعمق متواصل ونقاشات طويلة حقا نموذجا للفقيه المستنبط  والتقي الورع والنزيه المتواضع والحافظ للقرأن والحديث والسيرة وفقه المذاهب ومتمسك بآراء ابن تيمية بالذات بشكل لا يتصوره العقل وهو يتجاوز التسعين في العمر يذكر الاحكام والقواعد من مصادر يتذكر بدقة حتى طبعاتها واجزاءها وارقام صفحاتها .

 كانت مواقفه من الصحوات واضحة  بالرفض لها كونها تقاتل تحت لافتة سلطة محتلة ومواقفه في اوجه الجهاد واشكال المجابهة والمواجهة وشرعية مقاومة الاحتلال اكثر وضوحا وتحريمه لمد يد العون مع المحتل الاجنبي بشكل قطعي جلية . وكان شديد التمسك بما يدلي به من إفتاء او رأي ويطلب تدوين النص كتابة وترديد قراءتة قبل ان يبصم بياناته وآراءه عليها. وكان أول المتصدين لفكرة الفدرالية  واعتبرها تقسيما تخدم مصالح الاعداء والمحتلين وتفرط بوحدة العراق والأمة وغير شرعية وقد كتب فتواه بتحريمها خلال هذه الزيارة ونشرت وهو في عمان .

لقد كان الشيخ الجليل شديد التعلق والتواصل بمتابعة أحداث العراق بالرغم من تقدمه بالسن وبعده عن العراق كان يكرر الاتصال الهاتفي للإستفسار عن الاحداث وتطوراتها ويعطي رأيه  وتوصياته فيها بكل وضوح , كانت قضيتي الهجرة والنزوح الداخلي والخارجي  والتقسيم من أشد الامور عنده نكبة على العراق وشعبه . استمر هذا الشيخ الجليل على زيارة عمان كلما سنحت له الفرصة وكان حريص على زيارتي في ديوانيتي والحديث فيها مع الحضور بعزم الشباب وعلو الصوت وسلاسة الحديث وترابط المفردات في حين كان وضعه البدني لا يساعده على التنقل إلا على كرسي بمساعدة من يرافقه ، كان يترك يداه على رأسي وانا أودعه ويقرأ الرقية والدعاء علي فكانت كفاه في أعماقي  كالبرد على جسد محموم كما كنت أحسها .

 لقد خدم هذا العلامة الفقيه والباحث والمفكر والموثق والتدريسي الأمة بكل ما أعطي من علم و ورع وتقى وذهب الى ربه عفيفا نزيها نظيفا لم تمنعه في قول الحق كما يراه لومة لائم ولا بطش حاكم أو ظالم وقضى أواخر حياته نشاطا بالتأليف والبحث والتدريس والتوثيق خارج العراق بسبب مواقفه الحادة  وهو العراقي الأصيل المولود في عنه (1917 او 1921) والمنتسب لعشيرة المحامدة والعاشق لبغداد والمتعلق فيها وبقى الى آخر يوم في حياته زاهدا يعتاش على مرتبه الجامعي الذي يتقاضاه بحياة بسيطة متواضعة  مترفعا عن المناصب السياسية .

وإذا كانت اليمن قد اسهمت باحتواء هذا الكنز الفكري والبحثي وثمنت قدره وانجازاته ومؤلفاته ، فأن الشكر موصول للشيخ خميس الخنجر الذي هاتفني صباح اليوم الأثنين 28 كانون الثاني يبشرني وهو يعرف عمق تعلقي بالفقيد   بتكفله وتمكنه من تجهيز طائرة خاصة ستنقل جثمانه الى بغداد ليدفن مع الاعلام الذين سبقوه بالرحيل ورافقهم في حياته في مسيرة العلم والمعرفة كالشيخ الزهاوي والاعظمي والواعظ والألوسي والخطيب وبياره وغيرهم عسى الله ان يحسبها للشيخ الخنجر من حسنات اعماله التي ستذكر بإطراء . فلقد تعودنا بعد الاحتلال ان تتناثر قبور الرموز والكفاءات العراقية في شتى ربوع الخليقة التي لم تعد بقعة أرض منها لا تحتوي مقابر للعراقيين ، وهذه مشيئة الله التي كتبها عليهم .

 رحم الله الفقيد العلامة والمفكر الاستاذ الدكتورعبد الكريم زيدان بهيج العاني وألهم العالم الاسلامي والعربي والعراقي  بفقدانه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا اليه راجعون ، وداعا يا ابا محمد عوضك الله بما أديت وعانيت بجنة النعيم  قرير العين وساكن الفؤاد .
28 كانون الثاني 2014 عمان .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

700 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع