ردة 8 شباط الدموية في عام 1963

                                          

                                              بقلم ثابت حبيب العاني

لقد بررت القوى القومية توجهها نحو الإطاحة بعبد الكريم قاسم وحكومة ثورة 14 تموز منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة بدعوى ديكتاتورية عبد الكريم قاسم، و"قاسم" العراق وذريعة عدائه للوحدة العربية.

وقد أعلن عن هذا الرأي كبار الضباط القوميين مثل عبد السلام عارف ورفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي. ولكن سير الأحداث اللاحقة، وشاهد على ذلك انقلاب 8 شباط عام 1963، برهن على إن هذا الإدعاء كان بعيداً كل البعد عن الحقيقة. فالانتهاكات التي ارتكبها التيار القومي المتطرف قبل ردة شباط وبعدها والمجازر والتنكيل الذي تفننوا فيه، قد تجاوزت كل أفعال الديكتاتوريين وسفاكي الدماء. لقد انتهج ادعياء القومية سياسة تمزيق وشرذمة النسيج العراقي وتفتيت الجبهة الوطنية التي تكونت قبل ثورة 14 تموز، والتي لعبت دوراً مهماً في استنهاض الشعب العراقي ومهدت الطريق لانتصار الثورة. كما ركزت هذه القوى كل عسفها وتنكيلها ضد القوى التقدمية الديمقراطية، وخاصة ضد الحزب الشيوعي. فقد اتهموا الحزب الشيوعي بشتى أنواع التهم المفبركة، واعتبروه كياناً طارئاً على المجتمع العراقي، وتنكروا لماضيه وتضحياته وشهدائه وتناسوا ان السجون العراقية في صبيحة يوم 14 تموز لم تكن تضم بين جدرانها سوى الشيوعيين وبينهم بعض قادة الحزب وكوادره الذين قضوا في السجون قرابة 10 سنوات، إضافة إلى المئات من أعضاء وعضوات الحزب. فلم يوجد في داخل السجون عشية الثورة ولا قومي واحد. لقد كان من المفروض بهؤلاء الضباط وهذه القوى، إن كان لديها الحد الأدنى من الحرص على البلاد ومستقبلها أن تسعى إلى تعزيز الجبهة الداخلية وتعمل على إشاعة الاستقرار والعمل على إطلاق الحريات الديمقراطية للشعب. وهي أهداف ناضل الحزب الشيوعي من اجلها وقدم التضحيات. فعلى الرغم من استبعاد الحزب الشيوعي العراقي من المشاركة في سلطة 14 تموز خلافاً لكل التوقعات، إلاّ أن الحزب عمل على تعزيز دور جبهة الاتحاد الوطني ومطالبة الاحزاب بعقد اجتماع لقيادة الجبهة من أجل دراسة مستقبل الثورة وآفاقها

وتطوراتها. ومع الاسف ان الاحزاب المساهمة في الجبهة اهملت الدعوة، كما أشرت سابقاً. ووجد التيار القومي أن الفرصة غدت سانحة لتشكيل جبهة تضم البعثيين والقومييين إلى جانب ممثلي الاقطاع والرجعيين والعملاء وبدعم خارجي تحت شعار "يا اعداء الشيوعية اتحدوا". وهذا ما اثبته انقلابهم الاسود الدامي في 8 شباط، والذي وصفه سكرتير حزب البعث آنذاك صالح السعدي بأنهم جاءوا بقطار أمريكي .
لقد أُزهقت في هذه الردة والكارثة الوطنية أرواح أنبل أبناء الشعب العراقي وأكثرهم طاقة وخبرة وشعوراً بالمسؤولية تجاه الشعب والوطن. إن نظرة على أسماء ضحايا الانقلاب والمعتقلين لكافية للتأكيد على صحة ما أقول. ولقد تحمل الشيوعيون العسكريون قسطهم الكبير من ضريبة الهزيمة أمام الانقلابيين الانتقاميين الفاشست. وقد صدق الشهيد جلال الأوقاتي عندما قال: "إن كريم سوف يدمرنا ويدمر نفسه". وكان الشهيد جلال الأوقاتي بمثابة هدف ساعة الصفر بالنسبة للانقلابيين. فجرت تصفيته عند خروجه من بيته في كرادة مريم يوم 8 شباط الأسود 1963 في الساعة الثامنة والثلث، وهو ما اعتبر من قبل هؤلاء الفاشست أنهم قد حققوا الانتصار. وهذا ما أورده صالح حسين الجبوري في كتابه "ثورة شباط 1963" في الصفحة 147 حيث يقول: "وهناك مجموعة اخرى كلفت باعتقال جلال الاوقاتي، قائد القوة الجوية، ومن قياديي الحزب الشيوعي، واذا مانع بذلك فقتله. وفي ساعة الصفر، قامت المفرزة المكلفة بذلك بعمل دورية حول داره في كرادة مريم. وبعد خروجه من داره الكائنة في كرادة مريم، وفي احد الشوارع الفرعية القريبة من داره حوصر من قبل مجموعة مما أدى الامر الى ترك سيارته، فقامت المجموعة المنفذة بفتح النار عليه وقتله في الحال. وبهذا استطاع الحزب (حزب البعث) ان يتخلص من احد اقطاب السلطة المهيمنين، والذي لو قدر له البقاء لكان له تأثيراً كبيراً في تغيير موازين القوى لصالح سلطة عبد الكريم قاسم". هذه الاعترافات تربط بين مخطط المتآمرين وتصفية الشهيد جلال الاوقاتي. لقد تشكلت زمرة التنفيذ من ماهر الجعفري وغسان عبد القادر وعدنان داوود القيسي واكرم الاسود ورجب الحمداني، حسب ما جاء في اعترافات غسان عبد القادر في 24/1/1985. وبدأت التصفيات الجسدية بالنسبة للعسكريين منذ الساعات الأولى. وشملت الزعيم الركن داود الجنابي والعقيد حسين خضر الدوري والمقدم الركن ماجد محمد أمين والرئيس فاضل البياتي والرئيس عمر فاروق والمقدم ابراهيم والعقيد الركن طه الشيخ أحمد والعقيد وصفي طاهر والملازم الأول نوري مجيد والمقدم كاظم عبد الكريم والرئيس الطيار الركن طه الشيخ أحمد والرئيس المهندس هشام اسماعيل صفوتوالرئيس الطيار منعم شنون والرئيس الأول خزعل علي السعدي والرئيس نوري نادر والرئيس حسون الزهيري والمئات من الضباط والجنود وضباط الصف، إلى جانب آلاف المدنيين من الشيوعيين والديمقراطيين والتقدميين والوطنيين الذين لا يسع المجال لذكر اسمائهم جميعاً، ولا أملك صور الكثير منهم وعذراً لذلك. إن المنظر البشع الذي بثّه تلفزيون بغداد للشهداء عبد الكريم قاسم وطه الشيخ احمد وفاضل المهداوي والملازم كنعان حداد بعد اعدامهم، يدل على مدى وحشية الانقلابيين وهمجيتهم، وسوف لايغفر التاريخ لهم على هذه الجرائم.

ولا بد لي أن أورد في هذا الإطار مقتطفاً من رسالة الشهيد سلام عادل التي وجهها إلى لجان المناطق والمحليات قبل اعتقاله بأيام تقييماً للانقلاب الفاشي حين قال: "ان الدكتاتورية السوداء الجديدة لم تأتي للقضاء على الدكتاتورية الفردية كما تزعم، ولم تأت من أجل تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية. ان طبيعة الدكتاتورية السوداء الجديدة

لايمكن سترها بغربال من الديماغوغية والتهويش. انها ذات طبيعة رجعية قومية يمينية شوفينية عنصرية طائفية، وطبيعتها تخدم بالدرجة الأولى الاستعمار والرجعية والأقطاع. إنها تمثل حركة ردة سوداء للنكوص ببقايا

مكتسبات ثورة 14 تموز. إنها تحمل راية مهادنة الأستعمار الامريكي والانكليزي وشركاتهما النفطية. إنها تحمل راية تخريب البقية الباقية من النزر اليسير من حريات الشعب ومنظماته ونقاباته وجمعياته المهنية والثقافية
والاجتماعية. إنها تحمل راية تخريب المقاييس الوطنية وتشويه اهداف الحركة الشعبية وحرفها لصالح الاستعمار والاقطاع. إنها تحمل راية معاداة الشيوعية والديمقراطية والوطنية، راية ميثاق بغداد وغلاة دعاة الاستعمار والعدوان والحرب وفرض ابشع اساليب الحكم البوليسية الفاشية على البلاد. إنها تحمل راية تدمير جيشنا الوطني جيش 14 تموز وتصفية عناصره الوطنية الأشد اخلاصاً للشعب والوطن. إنها سلطة معادية للقوميات والاقليات التي يتألف منها شعبنا، سلطة تحمل راية العداء القومي والطائفي ضد الشعب الكردي وضد الاقليات القومية والدينية والطائفية، انها تحمل راية معاداة العمال والفلاحين والمثقفين ومعاداة الثقافة والعلم". وجاء في الرسالة أيضاً: "ولا يحتاج الى برهان جديد بأنه من المستحيل فرض حكم غادر على الشعب بالحديد والنار وباساليب الاعتقال والتشريد والقتل الجماعي. إن الشعب لا يمكن افناؤه او فل ارادته. إن المغمورون والخونة الذين يحاولون حكم الشعب رغم ارادته، هم الذين كان مصيرهم على الدوام الفناء والدمار. وسيجد الفاشست الانقلابيون الجدد المنعزلون كلياً عن الشعب مثل هذا المصير بصورة عاجلة وسريعة بشكل استثنائي".
لقد ارتكب الانقلابيون جرائم لا توصف وفاقت جرائم هولاكو وهتلر. لقد كتب البعثي السابق حسن العلوي الذي ساهم في انقلاب شباط الاسود، وبعد عشرين عاماً من تلك الاحداث الدامية وفي صحوة ضمير، لأن يد حسن العلوي كانت ايضاً ملطخة بدماء بدماء الوطنيين، في كتابه "عبد الكريم رؤيا بعد العشرين" ما يلي في صفحة 71: "إن حكومة 14 رمضان تدرك جيداً وهي تعرف المقاتل كما تعرف الوصولي والانتهازي، ولهذا فقد خططت لاغتيال جلال الاوقاتي، قائد القوة الجوية، وترك الحاكم العسكري العام حياً، وقررت اعدام عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) كاتب العمود اللامع في جريدة "اتحاد الشعب" يوم كان بعيداً عن حكومة قاسم واطلقت سراح عبد الرزاق البارح الكاتب القاسمي الذي ارتبط اسمه بمقالات نارية كتبها ضد البعثيين والشيوعيين. وأُعدم نقيب المحامين الذي لا يجيد استعمال السلاح على سطح منزله، بعد أن حولوا سطح منزله الى ساحة قتال، (يقصد الشهيد المحامي توفيق منير)، بينما أُطلق سراح قائد الفرقة الأولى المعروف بموالاته لقاسم بكل نجومه وسيوفه وتيجانه".
وأعقبت هذه الجريمة جرائم بشعة لا يمكن للانسان تصورها، ومن بينها جريمة حدثت يوم 4/7/1963 اثر انتفاضة معسكر الرشيد بقيادة الشهيد حسن سريع. فقد كان أكثر من مائة وخمسين من الضباط الشوعيين يقبعون في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد. وبعد فشل محاولة مجموعة حسن سريع، تم نقل السجناء فوراً وبشكل سري إلى محطة السكك الحديدية، وأودعوا في عربات حديدية مقفلة لكي يتم نقلهم إلى مدينة السماوة، ومنها إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي. ولم يعرف أحد ماذا تحمل هذه العربات. وقد عرف سائق القطار الشهم عبد العباس المفرجي بالحمولة عند الوصول إلى مدينة الحلة اثر تعالي صراخ السجناء. وقام بزيادة سرعة القطار من أجل الوصول بشكل مبكر إلى مدينة السماوة كي يتم انقاذ السجناء. ولولا هذا الاجراء الشجاع، لأصبح مصير كل هؤلاء الابطال في خبر كان. وعند وصول القطار الى محطة السماوة في يوم 5 تموز عام 1963، تجمهر اهالي السماوة، حاملين الماء والطعام والدواء متحدين جلاوزة الحرس القومي. وقاموا بنقل الضابط يحيى قادر الصفار إلى مستشفى السماوة حيث فارق هناك الحياة بسبب الاختناق. ولولا مبادرة العقيد الطبيب الرفيق رافد اديب صبحي بابان، الذي كان من ضمن ركاب القطار، لما نجا أحد من الركاب. فقد طلب الدكتور رافد من الركاب خلط الملح مع الماء وقام المعتقلون بتناوله، لحلت الكارثة. وفُقد في هذا الحادث الشهيد الرئيس نوري الونة. والغريب أن يشير هاني الفكيكي في مذكراته إلى هذا الحادث ويقول أنه كان المبادر إلى إرسال هؤلاء السجناء إلى نقرة السلمان من أجل إنقاذهم!!!. هذه جرائم البعث، ومن لف لفهم من القوميين شركائهم في جريمة 14 شباط الاسود الدموي. ومن الجرائم البشعة الاخرى هي جريمة اعدام 25 شيوعياً عسكرياً من الضباط وضباط الصف والجنود وبدون محاكمة في معسكر سعد من قبل العقيد الركن نصيف جاسم السامرائي. وأصبح هذا الضابط معاون رئيس أركان الجيش في عهد عبد السلام عارف.

في يوم 8/2/1963، كنت في الصف الثاني في المدرسة الحزبية في موسكو. فتحت الراديو لكي استمع كعادتي إلى اذاعة بغداد. فسمعت البيان الأول لانقلاب 8 شباط. فاتصلت تلفونياً بالرفاق وأخبرتهم عن حدوث انقلاب في بغداد. وعلى الفور دُعينا الى اجتماع، للتاريخ اقول إن عامر عبد الله أشار إلى أن القضية خطيرة، ويجب علينا ان نتحرك لفضح الانقلاب، لأن رفاقنا الآن في خطر. لقد بادر الاتحاد السوفييتي إلى فضح الانقلاب في الاعلام مما ترك أثراً كبيراً سواء في داخل الاتحاد السوفييتي أو خارجه. وأتذكر إننا في أحد الايام قمنا بسفرة نهرية خارج موسكو، وكنا جالسين حول مائدة وعلت وجوهنا إمارات الحزن الشديد على الوطن المستباح وضحايا رفاقنا وشهدائنا، وبكينا بكاءاً مراً. واذا باحد العمال الروس الذي يعمل في احدى المعامل الكبيرة، يتقدم إلينا ويسألنا، ما بكم ومن أين انتم؟ فأجبناه إننا عراقيين وهذي مصيبتنا. فقال إنني أعرف بما أصابكم..... وبدأ هو الآخر بالبكاء وقال لقد طلبت التطوع ورفضوا، وبعدها قدمت راتبي تبرعاً للمناضلين العراقيين، فرفضوا هذا ايضاً!!!. أرجوكم ان تأتوا معي وتأخذوا راتبي تبرعاً. وأجهش بالبكاء، وقمنا جميعاً الى تهدئته وعزفنا نحن عن البكاء، ولكن بدون جدوى. هذه هي مشاعر الشعب السوفييتي، الذي كان له دور متميز في التخفيف من محن العراقيين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المدونة هي جزء من كتاب "صفحات من السيرة الذاتية" للفقيد ثابت حبيب العاني الذي سيرى النور قريباً.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

646 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع