سعد هزاع عمر التكريتي
تمر علينا كل سنة ذكرى حركة 8 شباط 1963 والتي تثير في البعض شجون وأفكار متضادة عن أسباب قيام هذه الحركة وعن الدوافع الحقيقية لقيامها سيما وأن التأريخ لم يكتب لها أن تستمر بسبب أخطاء داخل بنية المجموعة التي تصدت لقيادتها ومن ثم لحكم البلد طوال تسعة أشهر هي كل الفترة التي أنجزت فيها الحركة بعض من أهدافها ونكصت عن تحقيق الأهداف الأخرى.
ولست هنا في محاولة مقاربة تلك الأهداف لأني أعتقد أن كثيرين قد أشبعوا هذا الجانب بحثاً وتحليلاً أنطلقت أغلبها من خلفية حزبية أو أيدولوجية معينة ولم يتم بحثها من قبل أشخاص محايدين لكي نستخلص نتائج تاريخية واقعية بعيدة عن التجريح والغموض.
بعض المشاركين في الحركة وعند تشكيل الوزارة الجديدة
وقد تسنى لي أن أكون شاهداً على ما جرى صبيحة ذلك اليوم والذي صادف أيضا الرابع عشر من رمضان، فقد استيقظنا في الساعة التاسعة صباحاً على وقع هدير الطائرات وهي تعبر أجواء الكرخ لتقصف مقر وزارة الدفاع وكنا نرى بالعين المجردة كيف تنقض الطائرات لتتخذ لها مساراً تحاول فيه أفراغ حمولتها من الصواريخ والقنابل على المبنى الذي كان يتحصن فيه الزعيم عبد الكريم قاسم. بالمقابل كنا نشاهد أيضا الدفاعات التي نشرت على ضفة نهر دجلة وفي الجانب المقابل للكرخ من مدفعية مضادة للطائرات ومدفع ميدان للدفاع عن المبنى ضد القوات المدرعة التي كانت تقصف المبنى من جهة الكرخ وكذلك مشاغلة الطائرات المهاجمة والتي كان يقود أحداها النقيب الطيار منذر الونداوي وهي من نوع هوكرهنتر.
احدى طائرات الهوكر هنتر العراقية
وألأخرى والتي كان يقودها ألملازم الطيار فهد عبد الباقي السعدون وألأخرى ويقودها الملازم الطيار واثق عبد الله وهما من نوع ميغ 17ومحاولة أسقاط أحداها، وفعلا تم أسقاط إحدى الطائرات المغيرة التي سقطت في منطقة الصليخ لكن قائدها وهو الطيار (واثق عبد الله) تمكن من القفز بالمظلة وعاد الى قاعدة الحبانية ليستخدم طائرة أخرى في القصف الذي استمر لمدة يومين كاملين.
أحدى دبابات تتمركز في منطقة البتاويين في الباب الشرقي صبيحة يوم الحركة
أما الدبابات فقد تم وضع بعضها في مناطق منتخبة من الكرخ، فقد وضعت دبابة يقوها المقدم أسعد خليل السامرائي مجاورة لمكان أنشاء ما عرف بعدها بالعيادة الشعبية في الكرخ في منطقة سوق الجديد ومقابل دار بيت صبار خلف الجواد وقد أصيب المقدم أسعد جراء قذيفة مدفع وبترت أحدى ذراعيه نتيجة لذلك كما وتضررت واجهة بيت صبار خلف الجواد نتيجة التراشق المتبادل، كما أتذكر النقيب درع أمجد سليمان ( أبو حامض ) والذي تضررت أحدى ساقيه نتيجة ارتداد مدفع الدبابة عليه واضطراره الى معالجتها في المملكة المتحدة فترة طويلة دون جدوى فكنا نراه يستخدم العكاز عندما كان يزور والدي في فندق الوحيد.
الزعيم وخلفه عبد السلام عارف ويبدو مرافق الزعيم الملازم الأول حافظ علوان التكريتي
أما الدبابة الأخرى فقد وضعت عند مدخل جسر الشهداء بعد أن عبرت عدة دبابات الى شارع الرشيد ومنه الى منطقة الباب المعظم لأكمال تطويق مبنى وزارة الدفاع والحيلولة دون هرب كبار الضباط الذين كانوا بمعية الزعيم. أما الثالثة فقد وضعت في منطقة الجعيفر الثانية وقرب تقاطع شارعي الشيخ معروف وموسى الكاظم وأمام مقهى أحمد جاكوج، حيث تمكن المدفع المدافع عن وزارة الدفاع من أصابتها إصابة مباشرة وقتل الجندي الرامي على رشاشة الدبابة والسائق أيضاً.
وأتذكر أيضا أن منطقة الكريمات والشواكة في جانب الكرخ قد حاول البعض في هاتين المنطقتين الهجوم على ساحة الشهداء وقطع ألأمدادات والتعزيزات التي كانت تتجه لوزارة الدفاع ومحاولة الامتداد للمحلات الكرخية التي كانت تساند الحركة والتي كان لشبابها نصيب كبير في عملية إنجاحها، وقد قص لي والدي (رحمه الله) أن الذين تصدوا لهذه المحاولات كانوا من شباب السوامرة والتكارتة والدوريين وعلى رأسهم بيت خلف الجواد، حيث دافع أهل الكرخ ضد المحاولات المتكررة التي كان يروم القيام بها سكنة منطقتي الكريمات والشواكة والمعروف عنهم بولائهم الشديد للزعيم. فالبيان رقم (13) الذي صدر في الساعات الاولى من صبيحة يوم الثورة (الجمعة 14ـ رمضان ـ 8 شباط/1963)أي خلال الفترة ما بين الساعة العاشرة والحادية عشر من صبيحة ذلك اليوم والذي تضمن نداءات الى اعضاء الحزب الشيوعي ومؤازريه لحمل السلاح والنزول الى شوارع بغداد لمقاومة الحركة من خلال الدعوة الى ابادة (البعثيين وحلفائهم الناصريين) القائمين بالحركة وذلك بـ (سحقهم بلا شفقة وبدون رحمة) و (سحق المؤامرة الرجعية الامبريالية) والقضاء عليها بـ (سحق المتآمرين عملاء الامبريالية) ودون ان تستهدف حركة 14- رمضان- 8 شباط/1963 الشيوعيين اساسا اوان تكون في نيتها التصادم معهم اطلاقا مالم ينزلقوا الى مقاومتها برفع السلاح ضدها دفاعا عن نظام ـ عبد الكريم قاسم. لهذه الأسباب وغيرها تداعى سكنة هذه المناطق ومناطق أخرى غيرها كمناطق الكاظمية والكفاح والصدرية لمقاومة ألحركة وأستمرت المقاومة في الكاظمية ثلاثة أيام قمعت بعدها من قبل القوات المسلحة. وكانت قد خرجت تظاهرات كبيرة من مناطق الكرخ كافة متوجهة الى ساحة الشهداء يقودها شباب الأحزاب القومية والبعثيين كذلك، كما ترأست الشهيدة السيدة (كنتولة أم محي) تظاهرة نسائية كبيرة كذلك، وفي منطق التكارتة استقبل الأهالي الدبابات بالأهازيج والهتاف ورفعوا المدعوة (حسيبة) وهم يهتفون (ياحسيبة يابطلة كل العروبة تساندج)، لأن الشيوعيين كانوا قد اغتالوا أبنها عبد الله (أبو قيس) عندما كان يعمل كضابط شرطة في أحد مراكز مدينة الموصل آبان أحداث الموصل الشهيرة.
كما أستشهد المقدم أبراهيم جاسم التكريتي في صبيحة يوم الحركة حيث كان الشهيد آمر كتيبة دبابات في معسكر الرشيد وقد تم اغتياله من قبل بعض أفراد من العناصر الشيوعية داخل الكتيبة وشيع جثمانه من منطقة سكناه في الست نفيسة الى مثواه في مقبرة الشيخ معروف وقد أطلق اسمه بعدئذِ على الساحة التي تؤدي الى كورنيش العطيفية وشارع موسى الكاظم.
وتبدو أن الأسباب التي سيقت لتبرير الحركة بعد أن استنفذت ثورة 14 تموز 1958 طاقتها في مشاريع واندفاعات أخذت تؤلب عليها القوى الوطنية والقومية والتي كانت مؤتلفة صبيحة يوم 14 تموز 1958 ومنها:
1- كان الزعيم عبد الكريم قاسم حاكماً فردياً دكتاتورياً.
2- استيلاء العناصر الشيوعية والشعوبية على مقاليد السلطة واضطهادها للشعب.
3- اعتقال وعزل وإحالة على التقاعد لكل الضباط اللذين كان لهم دور رئيس في انجاز الثورة.
4- متابعة كل الأحزاب القومية والوطنية والثورية التي قاتلت الاستعمار وساهمت في إسقاط النظام الملكي وتحرير العراق من التبعية البريطانية.
5- إعدام مجموعة من الضباط الأحرار وسجنهم وتعذيبهم عن طريق مهزلة ما يسمى محكمة الشعب.
محكمة المهداوي ويبدو المدعي العام ماجد محمد أمين
6- الاستيلاء على الحريات الشخصية والعامة وتقييدها.
7- مجازر الموصل وكركوك والتي كانت بإشراف السلطة آنذاك وبتدخلات أجنبية.
8-عزل العراق عن الأمة العربية والتقوقع على نفسه.
مجموعة من الضباط الأحرار الذين أعدموا منهم الطبقجلي وسري
ولا زلت أتذكر كيف أن قوات الجيش كانت تعزل منطقة الجعيفر الثانية وتقوم بتفتيش الدور بحثاً عن شباب المنطقة ذوو التوجهات القومية والعروبية وتعتقل البعض منهم وتلاحق ألأخرين بحجج وتهم ملفقة، صحيح أن ثورة 14 تموز 1958 قد عملت جهدها في سبيل تحسين الحياة المعيشية لطبقات واسعة من الكادحين والعمال وصغار الموظفين وقامت ببناء الدور السكنية لشرائح واسعة في مناطق شرق وغرب بغداد، كمنطقة الثورة والشعلة والحرية وغيرها كثير. إلا أن ذلك انعكس بالسلب على المجتمع البغدادي من خلال الهجرة التي أخذت تتزايد من الريف الى المدينة مما سبب في تغييرا في واقعها الديموغرافي بصورة كبيرة وخاصة بعد فشل قانون ألأصلاح الزراعي الذي أصدرته الثورة بغية تحسين واقع الفلاحين والتخلص من الأقطاع إلا أن فشله انعكس على منجزات كثيرة للثورة وأعاق تقدمها.
وكان من أسباب سقوط الحركة بوقت قياسي لا يتجاوز التسعة أشهر، هو أعمال الثأر التي رافقتها منذ البداية وحتى حركة 18 تشرين الثاني 1963 وذلك من خلال محاكاتها لما قامت به الأحزاب الشيوعية من تأسيس وأنشاء فرق للمقامة الشعبية تضم رجالاً ونساء أخذت مهامهم تتعدى السبب الذي أنشأت من أجله وهو حماية الثورة الى مطاردة المواطنين وتعذيبهم وسجنهم، فحركة 8 شباط قامت بأنشاء ما سمي آنذاك بالحرس القومي الذي كان يشرف عليه منذر الونداوي أحد رموز الحركة وقامت هذه الفرق كذلك بترويع المواطنين في بيوتهم وأتذكر أننا أستيقظنا في ليل أحد الأيام وإذا بأفراد من الحرس القومي في داخل منزلنا في منطقة الجعيفر الثانية وقاموا بتفتيش الدار بحثاً عن أحد زملاء والدي وهو المحامي محمد الألوسي والذين اعتقدوا أنه كان في الدار آنذاك.
الدار التي كنا نسكنها والتي استهدفت من قبل الحرس القومي في عام 1963
هذه هي بعض من مشاهداتي وذكرياتي لبعض ما حدث في ذلك التأريخ وخاصة فيما يتعلق بالأحداث في منطقة الكرخ.
757 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع