د. كمال عبداللطيف
1ـ
لم أفكر في يوم من الأيام في معرفة كم الوظائف التي تقوم بها اليد، كما أنني لا أهتم بصور علائقها بالجسد. وكنت أحس بأن لليدين في الجسم وظيفة أقرب ما تكون إلى وظيفة الأجنحة في الكائنات المجنحة، مثل الملائكة والطيور والأسماك.
ولأنني لاأمتلك خفة الملائكة، ولا أطير مثلما تسبح الطيور والأسماك في الهواء والماء، فقد أدركت أنهما يقومان بتحقيق التوازن عند الوقوف وأثناء المشي، إضافة إلى عشرات المهام الأخرى، التي لم أفكر في حصرها ولا تَعدادها. أدركت خلال مراحل العمر المختلفة، أن هناك تمييزا ثقافيا بين اليد اليمنى واليد اليسرى، وكنت كأغلبية البشر أعمل مختلف الأعمال باليمنى، وكانت اليسرى تقوم بدور المساعد وقت الحاجة. وتبينت مع الزمن، أن يدي اليمنى أقوى من اليسرى لأنها أكثر عملا. لكن من منا عَدَّ قائمة الأعمال المنوطة باليمنى؟ في ذلك الصباح، الذي تميز بحدث انفلات وسقوط القلم من بين أصابعي، وأنا منخرط في الكتابة، بل منخرط بالتفكير بواسطة يدي، سقط القلم من بين أصابعي على الورق، وفي تلك اللحظة بالذات، لم يصدر أمر يجعل اليد التي انفلت من بين أصابعها القلم، تحمل هذا الذي سقط في رمشة عين كما جرت العادة، بل وقع أمر آخر لا يوصف بالكلمات، حتى عندما تصفه الكلمات.. فابتسمت .. ولأول مرة رأيت وجهي يبتسم، لأن الابتسامة الصادرة عني إذ ذاك، لم تكن ابتسامة، لقد كانت فعل تعجب وإحساس أًوَّلي بما حصل مما لا عهد لي به.. فطلبت من اليد اليسرى أن تحمل القلم، وتضعه بين الأصابع التي انزلق من بينها، لكن اليسرى لم تجد أدنى استجابة في أصابع اليمنى، فأدركت أن الأصابع المذكورة لم تعد أصابعا في اليمنى، بل أصابعاً أخرى، في يد أخرى تحتل موقع اليد اليمنى، وهي ليست كذلك..
- 2 -
قمت بتشخيصات متعددة داخل أحد المستشفيات، فتبينت أن أمراً ما حصل، وأن الحالة تستدعي التمثل النفسي الهادئ لهذا الذي حصل، للتمكن من تجاوزه دون رفعه بالإرادة المتفائلة، للتمكن من قبول أهون صور المصاب. أدركت في البداية والنهاية أن يدي اليمنى أصبحت عضوا آخر غير العضو الذي رافقني طيلة مراحل عمري. لقد أصبحت اليوم إذن، أمتلك اليد اليسرى، واحتلت اليد الأخرى مكانة اليد اليمنى. دون أن تختفي اليمنى، أصبحت إذن في واقع الحال والمآل صاحب ثلاثة أيدي، دون أن يكون للثالثة خصائص تميزها عن الأولى والثانية، ولا مكان آخر خارج مواقع اليدين الأصليين.. قبل ما يزيد عن نصف قرن، كنت قد تعلمت الكتابة بريشة من قصب، ومداد خاص ..تعلمت الكتابة على لوحة من خشب مغسولة بالصلصال، وكان أول ما كتبته هو القرآن، كتبته كاملاً، وحفظته كما جرت العادة بالنسبة لأبناء جيلي في مسجد المدينة القريب من بيتنا. تعلمت الكتابة تعلماً ذاتياً بخط لا يخلو من جمال، بل من خط وصف لاحقا من طرف أقراني وزملائي بالخط الواضح والمقروء. وأدركت وأنا في أطواري تعليمي المتلاحقة، أن رسم الحروف يعد واحداً من مجالات الفن الجميل القادر على تحريك الوجدان. ولهذا أعجبت لاحقا بلوحات الخطاطين والفنانين الذين يوظفون الخط والأحرف في لوحاتهم. وكانت تعجبني لوحات الفنان عبد الله الحريري التي تتناسل في قلبها أحرف اللغة العربية بمقاسات وأحجام، تصبح فيها مستوعبة لفراشات وطيور وأسماك صغيرة بألوان مختلفة، وأحيانا تصبح اللوحة بحروفها المتطايرة، عبارة عن رذاد الموج وهو يتطاير مختلطاً بالرمل على الشاطئ، محدثا أشكالا يختلط فيها الوضوح بالظلال بالألوان بالقطرات، بالأصوات، برائحة البحر ورائحة المطر والتراب ..
3-
لم يعد بإمكاني أن أكتب اليوم باليمنى، ولا باليد التي أصبحت هي اليمنى. ولأنني لم أكن أستعمل اليسرى لا في الكتابة ولا في الأعمال التي تتطلب المهارة والحذق، فقد صوبت نظري نحو اليد اليسرى، صانعا منها يداً يمنى بديلة عن اليمنى الأولى والثانية، وذلك بحكم عطالة اليدين. وقد عانيت من جراء ذلك صعوبات عديدة، ذلك أن غياب المساواة في الأعمال بين اليدين، يجعل اليد اليسرى في موقع تبعية ورضى بحالها، إنها يد تكميلية. أما العمليات التي أصبحت اليوم أطالب بها هذه اليد، فإنها تستدعي أولا التدريب ثم التمرس، ورفع حالة الرضى السابقة، ثم الانخراط في أعمال كثيرة لم تكن في السابق تستطيع القيام بها. تترتب عن التمرينات الأولى لليسرى، آلاَم في الكتف والمعصم والأصابع وظهر اليد.. آلام لا تحصى، ومع الزمن وبحصول بعض التحسن في آليات التدريب المتواصلة بفعل غياب اليمنى، استوى الحرف تاماً ومقروءاً بأصابع اليسرى، وأصبحت أستطيع الكتابة بها. كما أصبح الكتف يحمل الأوزان التي كانت تحملها اليمنى..لكن الجديد هنا هو، أن استعادة الحال تقضي بأن لا نغفل اليمنى، وأن ندرب اليد الثانية التي احتلت مكانها وظلت معها على استعادة دورها بالمشاركة. ولكن كيف تكون المشاركة بيد لم تعد هي اليمنى؟ يد تتميز بعطالتها التامة، وفقدانها للقدرة على تلقي الأوامر الصامتة، من منطقة في الدماغ أصابها التلف، وأي تلف؟ وجدت نفسي مرة أخرى أمام جهود مضاعفة لمغالبة آثار المحنة، ومغالبة موضوع الانفصال الذي حصل بين الأمر العصبي والأداة المنفذة. فلم يعد الأمر أمراً، ولم يعد المنفذ أداة قادرة على التنفيذ، بل أصبحنا أمام أمر ينبئ بغياب التوزان، ليس توازن الجسم وحده كما هو فعل الأجنحة في جسد الطير، بل فعل التوازن في الكائن الذي لا يستطيع الاستمرار دون المحافظة على صور عديدة من التوازن، من بينها التوازن الذي تمنحه اليدان.. يكون التوازن عند الوقوف وفي حال الجلوس، يكون بالاعتماد على اليدين، فكيف يصبح قائما بالاعتماد على اليد اليسرى وحدها، وقد كانت يداً معطلة رغم مشاركتها أحيانا، وذلك بفعل هيمنة اليد اليمنى كما وضحنا؟ يساهم الترويض بمختلف صوره وآلمه وطبيعته الميكانيكية، في منح العضو الساقط والمعطل إمكانية استدراك بعض من وظائفه بالتدريج، ويكون التدرج بالأفعال الآلية البسيطة للترويض، خطوة أولى نحو العودة إلى الأفعال الجامعة والمركبة من قبيل الفتح والإمساك والمد إلى الأعلى والأسفل، وهي الأفعال المانحة لحال التوازن. لقد كانت المشكلة منذ البداية مشكلة عضوية، ثم اتخذت أبعاداً نفسيةً، ثم سمح الزمن والرضى بالمآل بجعلها كما كانت مجرد مشكلة فيزيولوجية، حيث تتطلب مواصلة التدريب على العمل بواسطة اليد من أجل استعادتها مع ما يتطلبه ذلك من معاناة وآلام أثناء فترة الترويض وما بعدها. إن الأمر ليس سهلا ولا متيسراً، والمجاهدات في سبيل بلوغه تقضي بضرورة الجَلد والمكابدة، والحنين إلى زمن قادم، يمكن أن يشبه زمنا مضى، فهل يستطيع الزمن القادم فعلا أن يمتلك مواصفات الزمن الذي مضى؟ وهل تستعيد اليد يدها، وترفع الثالثة من قلب الثانية لتعود الثانية ثانية وكفى؟.
4 –
بعد مرور ما يقرب من سنة على حصول ما حصل، أي على فقدان وظائف اليمنى، وعدم قدرة اليد الثالثة على تحقيق بعض ما كانت تقوم به اليمنى. أصبح بإمكاني أن أدرك العذابات التي تواصلت سواء في الليل أو في النهار، في اليقظة أو في النوم، في حالات الصحبة وأثناء الخلوة. تقضي نصائح الأطباء والمروضات، بأن لا أتخلى عن تكليف اليمنى بأعمال خاصة وترويضها على ذلك. لكن الأحاسيس المصاحبة لعمليات الترويض، والعياء الكبير الذي يحصل بعد التمارين، يكلف جهوداً عضوية مصحوبة بهواجس نفسية غريبة. الأمر الذي يجعل فعل المجاهدة طقسا يوميا دون أن تنتج عنه نتائج تذكر.. ومع ذلك فإن الحالة تقضي بعدم التوقف. فتصبح حالة قصور اليد اليمنى الجديدة في قلب الليل أصعب من النهار، فهي تلتصق في النهار بالجسد، ويصعب إبعادها عنه، إنها تتجه نحو الأعلى، نحو الصدر .. ويصعب إنزالها منه نحو مكانها المناسب، بهدف تحقيق التوازن.. وكلما التصقت بالجسد غاب التوازن. إنها تلتصق في الليل أيضاً بالجسد، فتصبح ثقيلة خفيفة، ثقيلة يصعب إبعادها ، خفيفة تحمل على الجسد. وبعد أشهر عديدة من الترويض، تبدأ في الانفصال وفي القيام بأعمال بسيطة، يبدأ تحقيق مطلب الإبعاد بالقرب، والقرب بالإبعاد ممكناً، فيركب المعني بالأمر ومن معه من المقربين الأهل والأصدقاء مراكب الفرج والأمل، وتحل الابتسامة محل التعجب..
- 5-
في نهاية صباح قادم، عادت اليد اليمنى كما كانت.. ومددتها نحو الآخرين بالتحية، أكلت بها تفاحة ولامست عطراً وفراشة بألوان البهاء والضياء..، كتبت بأصابعها صفحات، كما رسمت الطيور والأسماك ورذاذ الموج في الشاطئ، وأحصيت الرمال، ثم رسمت حرف النون والميم والتاء دون إغفال وضع علاقة التشديد على الحرف الأول والثالث لتشكيل ما يوحي بالأشكال التي تمنح الأحرف معانٍ ودلالاتٍ.. كانت اليد اليمنى قد نامت ذات يوم نوماً عميقاً طال أشهراً، وأصبحت عاجزاً دون إقرار بالعجز، متطلعاً إلى حال أخرى أحن إليها، أتملكها بالرغبات وأحققها عنوة.. عادت اليد دون أن أدري أين كانت؟ وأين اختفت؟ فكتبت مرة أخرى بأصابعي أجمل الحروف والكلمات، وتبينت أن الحكاية لم تكن أكثر من حلم، من أضغات أحلام مرت مرور السحاب، فعادت اليد وامتلكت توازني مجدداً وأصبحت أطير، كما كنت أتمنى أن أطير باليدين، طيران المتماسك التابث الذي يمشي على قدمين.. أصبحت اليد الأخرى مجرد ذكرى، فعادت الحياة إلى سابق عهدها، وابتسمت أمام الموقف الجديد، كما ابتسمت سابقا بفعل التعجب أمام الحدث القديم، وأصبحت اليوم أمتلك ما ضاع مني بجرة قلم، مثلما أن ما ضاع مني لم يكن أكثر من سقوط القلم من بين أصابع اليد، في ذلك الصباح من خريف سنة مضت. في خريف سنة أخرى، كانت الحياة قد عادت إلى سابق عهدها، فعدت أحمل اليمنى على ما دربت اليسرى على القيام به، وأصبحت في النهاية أمتلك لأول مرة يدين، يد يمنى ويد يسرى، وأذكر جيدا منذ أن تعرفت على نفسي أنني أمتلك يدين، وها أنتم ترون الدليل على ذلك..
709 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع