عرائس النار / قصة حقيقية من ذكريات الطفولة

                                         

                               طلعت ميشو

               

(( في آخر اللحظات، وقبل إقدامه على الإنتحار، قال (فان كوخ): الأحزان لا تنتهي أبداً )).

* اغلب رجال الشرق الأوسط مُصابون بعقدة "الشرف"، حيث يتصور الرجل منهم أن شرفه يكمن في أجساد وتصرفات وسلوك نساء بيته، فالمرأة هي عِرضه وحرمته وشرفه، ولهذا فهو “قوامٌ” ومهيمن عليهنَ. يعزلهن قدر المستطاع خلف الجدران والحجب لأنه لا يريد لنفسه "شرفاً مثلوماً" بأية صورةٍ من الصور!.خوفه وقلقه وكابوسه هذا يقوده الى الهيمنة المُطلقة على نساء بيته، والهيمنة تقوده إلى إستعمال العنف على أنواعه ودرجاته وصولاً الى مرحلة القتل التي يحللها فقهاء الدين والمجتمع والعرف والتقاليد.
ولهذا تصبح الهيمنة والعنف أسلوب يومي بديهي متعارف عليه وجزء من العادات والتقاليد في التعامل مع النساء، وعنواناً ورمزاً إجتماعياً ونفسياً وحتى دولياً لشخصية الرجل الشرقي الجلف الأناني المتخلف والمنغلق كالقوقعة على تصحره الفكري والديني والإجتماعي.


* مروراً بحضارات العالم حولنا، قلما نجد حضارة تفصل بين النساء والرجال كحضارة الدول الإسلامية!، هذا إذا كانت هناك أية حضارة تُساوي أو حتى تقترب من مفهوم الحضارة المتعارف عليه فكرياً وأكاديمياً وعالمياً في مجتمعات العالم المُتحضر اليوم والنابعة من مفاهيم لائحة حقوق الإنسان التي شُرِعَت لكل البشر ووَقعَت عليها الدول التي تضم البشر في كل الكرة الأرضية.
كتب إبن رشد في القرون الوسطى: ( أن أحد أبرز مواطن الضعف في الإسلام هو تغييب دور المرأة )!.
أن أهم الإصلاحات التي يتوجب معالجة الشرق المسلم بها هي إعادة فهم وتفسير (الشرف) بما يعني: “القيم الإنسانية والعدالة والمساواة”. كذلك يجب تدريس وتعميم الثقافة الإنسانية المبنية على فهم حقوق الإنسان وليس الثقافة الدينية الجاهلة المُتخلفة القامعة لتلك الحقوق.

 يقول الشاعر نزار قباني في:
ثقافتنا ... ؟
فقاقيعٌ من الصابونِ والوحلِ
فما زال بداخِلنا
رواسبَ من (أبي جهلِ)
وما زلنا نعيش بمنطقِ المفتاحِ والقفلِ
نلف نساءنا بالقطنِ
ندفنهنَ في الرملِ
ونملكهنَ كالسِجادِ
كالأبقارِ في الحقلِ

* في منتصف الخمسينات، يوم كنتُ لا أزال في المدرسة الأبتدائية، كان على مبعدة من دارنا بيتٌ كبيرٌ كئيب الشكل، من الطراز البغدادي القديم الذي تحوي واجهته الأمامية بعض الخشب المحفور على شكل زخارف ونقوش إسلامية مُلونة بألوان فاقعة يُسيطر عليها اللون الشذري البابلي الجذور.
لم يكن لهذا البيت حديقة أو سياج كما في بناء بعض البيوت الأخرى يومذاك، والظاهر أنه تم تشييد ذلك البيت في زمنٍ مضى بعد أن تم طمر مساحة كافية لمستنقع قديم (نزيزة)، ولهذا بقيت مساحة منخفضة من تلك النزيزة على جانبي البيت، تنق فيها الضفادع ليل نهار، وتملأها المياه الأسنة الداكِنةُ السواد.
كانت نوافذ البيت كلها مُغلقة من الداخل طوال أيام السنة!، ومن الخارج أيضاً كانت كل النوافذ مصفحة ومحوطة بكتائب حديدية مُشبكة ومتينة لا يُمكن إختراقها إلا بواسطة بلدوزر كبير ربما.
أما باب البيت الأحادي الخشبي الكبير المُطعم بمسامير حديدية كبيرة صَدِأة، فقد كان مُغلفاً بطبقة مشبكة من الحديد السميك، مما يجعله ثقيلاً وله صرير مُزعج ومُرعب بنفس الوقت كلما تم فتحه أو غلقه، كصرير ألأبواب العتيقة في أفلام الرعب التي نُشاهدها في أفلام اليوم!. وكان لهذا الباب من الجهة الخارجية ثلاثة أقفال كبيرة الحجم!، ولا أحد يعلم كم من المزاليج والمتاريس والأقفال كان لهذا الباب من الداخل!!.
لم يكن أحد يعرف أسم الرجل الذي يسكن هذا البيت، لكن كل أهل المحلة كانوا ينادوه بإسم (حجي) حين خروجه من البيت صباحاً وعودته بعض الظهر أو العصر من عمله حيث يقول البعض أنه كان عَلوَجي.

 شخصياً لم تكن مداركي الطِفلة يومذاك تفهم معنى كلمة (حجي)!،كنتُ أحسبها إسماً من أسامي الناس المسلمين حولنا في المحلة!!، لذلك سالتُ والدتي ذات يوم عن سبب وجود كل هذا العدد الهائل من الرجال بأسم “حجي” في محلتنا وأينما ذهبنا في الحياة اليومية!!.
كان يسكن مع الحجي بناته الثلاث المراهقات، كُنَّ جميعاً بأعمارٍ أقل من العشرين، حسب قول الممرضة (نشمية) التي كانت تسكن نفس محلتنا والتي كانت الإنسان الوحيد الذي إستطاع دخول ذلك البيت لمعايدة من تتمرض من بنات الحجي أحياناً.


كان الحجي رجلاً طويل القامة نحيلُها، حليق اللحية، ويظهر على وجهه بكل وضوح ما ترك مرض الجدري من حفرٍ وآثارٍ قديمة. يلبس (الصاية) البغدادية ويعتمر عرقجيناً بغدادياً يضع فوقه غترة تُغطي أغلب وجهه المتجهم أبداً، حيث لم يكن قد شاهدهُ أحد وهو مُتلبس بجريمة الضحك أو حتى الإبتسام!!، كذلك كان ينتصب فوق فمه الكبير شارب كث يشبه العقرب مفتول بكل دقة وعِناية، فالشارب كان وما زال عنوان الرجولة والهيبة والوقار، وضرورة لا بد منها في المجتمع العراقي بصورة عامة. كذلك كان الحجي يحمل في يده دائماً عصا طويلة ذات رأس حديدي مدبب يتوكأ عليها وربما كانت كعصا موسى "له بها مآرب أخرى"، وكان محفورٌ على جانبها عبارة (ولا غالب إلا الله) !!!.

كان "الحجي" ميسور الحال كما كان يتبين وبحسب مقاييس الزمان والمكان يومذاك، تدل عليه ملابسه الجديدة والنظيفة دائماً، و"علاقة المسواق" العامرة التي كان يحملها حين يتبضع من المحلات القريبة، والظاهر أن الرجل لم يكن مُقصراً على بناتهِ حين يتعلق الأمر بالطعام، ولكن .. وكما يقول السيد المسيح: "ليس بالخبزِ وحدهُ يحيا الإنسان".

* كنت أسمع همس نساء المحلة وهن يقشبن مع بعضهن في (كعدة القبول) لنساء المحلة في بيتنا عندما كان يأتي دور والدتي في إستضافتهن، كُنَّ يرددن إشاعة تقول بأن زوجة الحجي الجميلة كانت قد هربت مع رجل آخر الى سوريا قبل سنوات، لأن الحجي كان يضطهدها وينكل بها كونها إمرأة مِئناث (لا تلد غير البنات)!. كذلك كانوا يتهامسون بأن الحجي جن جنونه وتعقد وزادت شراسته مع كل الناس بشكلٍ فاضح بعد حادثة زوجته، وكانت ردود أفعالهِ العنيفة قد دفعتهُ لحبس بناته في داره التي حولها الى سجن رهيب حرم فيه صغيراته من رؤية بقية الكائنات البشرية!، فعشن كالسجينات لا يعرفن غير القليل عن الحياة التي كانت تدورعلى مقربة أمتارٍ منهن عبر الحواجز الحديدية والخشبية التي صنعها الرجل الخائف على شرفه الثمين. كل هذا كان يُعزز في رأسي مقولة قرأتها ذات يوم تقول “في الشرق لا ذنبَ للمرأة إلا كونها إمرأة”!.
وإلى زمن ليس بالبعيد كانت تُبنى في بغداد دور ليس لها أبواب أو شبابيك تطل على طريق أو زقاق، وإنما ينفذ إليها ذكورالعائلة من دار أخرى ملاصقة لها، وكان بين البيتين من الداخل باب سميك يملك رجال العائلة مفاتيح أقفاله. وكل ذلك منعاً لأي إتصال بشري بين نساءهم وأي رجل آخر!!.

كل الجيران كانوا يعرفون بأن الحجي ينام فوق سطح بيته في ليالي الصيف العذبة تحت الغطاء السماوي لأمنا الطبيعة حيث تتناثر بلايين النجوم والأجرام والكواكب في الوقت الذي كان يحرم بناته من رؤية السماء والنجوم وإستنشاق نسائم الليالي البغدادية العذبة المُنعشة!. واليوم حين أستحضر الماضي أتسائل: كيف كان الحجي يستطيع أن يغفو وهو مُثقلٌ بكل تلك الأعباء!؟.

* كنتُ وصِبية المحلة تحتَ سن العاشرة من العمر نلعب أحياناً أثناء النهار قدام بيت الحجي حيث صبة الكونكريت التي بين باب البيت والشارع عريضة ومناسبة جداً للعبة (الأورطة) التي كنا نلعبها بالدعابل، كذلك كانت ظلال وأفياء شجرة الكالبتوس العملاقة ومئات عصافيرها داخل الأغصان الكثة المتشابكة تُساعد على تلطيف الجو البغدادي الحار.

 

أحياناً كُنا نسمع أصوات بنات الحجي من خلف سُمْك الباب وهُن يلعبن وينشدنَ كلمات وأنغام تلك اللعبة الشهيرة (الخطوبة) التي تلعبها البنات الصغيرات:
الله يصبحكم بالخير ............... يل عمارة العمارة
الله يمسيكم بالخير ............. يل عمارة العمارة
ما تنطونة بنتكم ............ يل عمارة العمارة

 
ويجيب الصوت الثاني:
ما ننطيكم هِية ............ إلا بألف ومِية
إلا بفَص الألماس ............ دَوار الصينية

 
ويدخل صوتٌ ثالث:
نُعبر على بابكم ............... ونكَسِر إعتابكُم
والشمِع دَواركم ............ عروستنة هِية


وفجأةً يصرخ أحد الصبية: إجة الحجي ...........
وبدورنا نصرخ مُنبهين البنات المسكينات خلف باب الدار عن إقتراب "الطنطل"!، وبسرعة البرق يصيرُ (طشارنة مالة والي)، نتقافز هاربين مرعوبين كالأرانب الصغيرة تُلاحقنا شتائم الحجي القادم عن بُعد تسبقه لعناته وتهديداته!!.

 كان الحجي يرتعب من أي شيئ قد يشكل خطراً أو تهديداً لشرفه المُقيد المحبوس داخل “قلعة الطنطل” كما كُنا نُسمي بيته، أتصوره كان يقلق ويتوجس ويتطير حتى من العصافير الصغيرة التي تزقزق فوق أغصان شجرة الكالبتوس.
وهل كان الشاعر نزار قباني مُبالغاً حين قال:

 
دَرَسونا: رُكبة المرأة عورة
ضِحكة المرأة عورة
صوتها ...
من خلف ثقب البابِ ... عورة

* كان الحجي يتفنن في تغطية وإخفاء ما كان يعتقده عورة في نساء بيته، في بلدٍ بائس متخلف نصف مجتمعه مكبوت ومقموع ومحجور ومُغيب ومُعتدى عليه وعلى حقوقه الإنسانية من كل نوع. بلد مُضحك يؤمن رجاله بأن شرفهم يكمن بين فُخذي إمرأة!، ولهذا تراهم يقضون جلَ حياتهم في حراسة ذلك الجزء من أجساد نساءهم، وبنفس الوقت لم يكن في عالم هؤلاء الرجال شيئ عشقوه وأحبوه وعبدوه كذلك الجزء المقدس من جسد المرأة!.وكما يقول الشاعر المعري:

وأشرف من ترى من الناس قدراً ….. يعيش الدَهرَ عبدَ فمٍ وفرجِ


* كان من يدعي الثقافة من رجال ذلك المجتمع يتشدقون بأنهم من أنصار تحرير المرأة .. وإلى آخره من الشفاهيات والشعارات الشرقية العقيمة، وتراهم ينامون ليلهم مصارعين الكوابيس من أن تكون خرقة ليلة عرس بناتهم بيضاء!، فاللون الأحمر أثمن عندهم من الرب الذي يعبدون!.
اي مسخٍ هذا الذي تفنننا في إعداده وإخراجه في الشرق!، وأمعَنا في إذلاله وتشويهه؟، ولا عجب لو كنا نزحف كالسلحفاة بعد ان صدقنا تلك الرواية التي زعمت بأن الأرانب ستنام في منتصف الطريق وإننا سنصل خط النهاية متفوقين على كل أرانب العالم!، لا لشطارتنا.. بل لأن آلهتنا المغرورة قالت لنا ذات يوم باننا خير نُكتةٍ اُخرجت للناس!!.
يقول نزار قباني :


تظلُ بكارةُ الأنثى
بهذا الشرق عُقدتنا وهاجسنا
فعندَ جدارها الموهوم قدمنا ذبائحنا ..
وأولمنا ولائمنا ...
نحرنا عند هياكلها شقائِقنا
قرابيناً ... وصحنا "واكرامتنا".
وبَرَمنا كعنترةِ بن شدادٍ شواربنا ...

* كانت (نشمية) واحدة من النساء العاملات في محلتنا، ممرضة في أحدى المستشفيات الحكومية.
وقفت ذات يوم مع جارة لها تُسلم على الحجي أثناء إنشغاله في فتح الأقفال الثلاثة لبابه الكبير وهو يستعد لدخول الدار مُحتضناً عِلاقة المسواق.
قالت له من خِلال إبتسامتها المجاملة الودودة أن بودها خطبة واحدة من بناته لأخيها (الجابي) في مصلحة نقل الركاب العامة. ويقول المثل البغدادي: (يا ثوب من شَكَك؟)، فقد ثار الحجي .. وهاج وماج وأرغد وأزبد وهدد وارعد، وراح في هياجه وسورة غضبهِ يكفخ على رأسه بقوة ويلطم على صدره كالمجنون وهو يطردهن شر طردة رافعاً عصاه عالياً في وجوههن زاعِقاً كالغراب والزبد يتطاير من زوايا فمه: إمشَن أنعل أبوجَن لابو البَزَرجَن، والله وبالله وتالله أذبحهِن ذبح النعاج وما أزوجهِن، “المؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين”. والعظيم إذا ما تِمشَن  أدخل أجيب التُفكة واخلي عشر جيلات إبراسجَن .. برابيك!!. ثم دخل البيت وصفق الباب الكبير خلفه بقوة جنونية!!.
كان الأشخاص المستطرقين القلائل الذين تحلقوا حول مسرح الحدث يسمعون جميعاً أصوات صرخاتٍ نسائية وبكاء ونحيب داخل البيت. بعد دقيقتين تفرقوا جميعاً .. فالأمر لا يعنيهم!، وهو حدثٌ إعتيادي روتيني يحدث كل يوم في بيوتهم جميعاً!، ومن حق الرجال تأديب نساءهم من أجل الحفاض على شرفهن وتحصين فروجهن كما يقول ويأمر الله الحكيم العادل !!.

 لم يبق في مسرح الحدث غيري وبضعة أطفالٍ آخرين من عصابتنا الصغيرة، كنا صامتين واجمين وقد صَفَعَت طفولتنا تصرفات الحجي التي خَدَشَت مشاعرنا وجرحتها، لأن بنات الحجي كُنَّ يعنينَ لنا الشيئ الكثير الذي لم نكن نستطيع تفسيره آنذاك رغم إننا لم نرى أحداهن من قبل، فقط سمعنا أصواتهن من خلف الباب الخشبي الكبير. هو التعاطف الإنساني الغريزي مع كل مُستضعف.

لم يقطع صمتنا إلا صوت أصغر صبي في عصابتنا وهو يهدد بعصبية: “والله باجر أجيب مصيادتي وأفجخة للحجي” (أفشخ راسه)، ضحكنا جميعاً وإنصرفنا الى بيوتنا.

كان إسم ذلك الطفل (حسن)، وكان يقول حين يُسألُ عن إسمه: (حَجَن)!. لأن نصف أسنانه كانت مفقودة!.  

* كل أهالي محلتنا كانوا يحبون (نشمية) الممرضة، حيث لم تكن -أحياناً- تتقاضى أجراً عندما تقوم بحقن أي مريض من فقراء المحلة، وأغلبهم كانوا يعرفون سلاطة لسانها عند الضرورة، لِذا لم يمنعها أحد من التنكيل بالحجي كلما كانت تلتقيه بعد تلك الحادثة، حيث كانت تكيل له الصاع صاعين وتنتقم لكرامتها وكبريائها، وتُعَيرهُ بتشفي وقسوة: “ما قَصِرَتْ بيك مَرتك ... إي بالعظيم، ولك ما جذبوا من كالوا "الفرس من خيالهة"!، وشلون خَيال عيني؟ هه .. لا نفع ولا دفع، لا سنك ولا رنك، لا خلقة ولا أخلاق، طَيَح الله حظة للمطي….. الخ.


**********

* بعد سنتين أو ثلاثة من تلك الحوادث إنتقلنا إلى بيت آخر في جانب الكرخ هذه المرة. ومرت سنوات كثيرة. وذات أمسية كنتُ مع أصدقائي في زيارتنا الإسبوعية لمشاهدة فلم سينمائي في صالة سينما النصر الحديثة، ومن خلال الزحام على شباك التذاكر تعرفتُ على وجه أحد زملاء طفولتي من سكان حارتنا القديمة، من خِلال ندبة عميقة كانت فوق جبهتهِ منذ أيام طفولته.

 تصافحنا وتعانقنا ورحنا نتذكر طفولتنا والمحلة والشط القريب من بيوتنا والمدرسة والمقالب الصبيانية التي كنا نُدَبِرها لبعضنا البعض، ومن خلال الحديث سألته عن عائلة بيت الحجي وأخبارهم، إختفت الإبتسامة الحلوة من على وجهه وإبتلع ريقه وتوجه بنظراته نحو الأرض وهو يقص لي بحزن أحداثاً شاهدها بأم عينيه. قال بأن بيت الحجي إحترق ذات صيف، ولم يكن الحجي متواجداً حينها، وإن البنات ذهبن كلهن ضحية ذلك الحريق، حيث لم يستطع رجال المحلة أو الشرطة أو الإطفائية إقتحام الشبابيك والكتائب الخشبية والباب الكبير المُحصن بالحديد، وخاصة أن البيت كان قد إحترق أكثره عند وصول رجال الإطفائية!.
قال بأن أغلب سكان المحلة ومعهم الشرطة والإطفائية يعتقدون بأن الحادث كان مُدبَراً، وإن البنات تخلصن من دنياهن إنتحاراً مع سبق الإصرار!، وإنه تم إغلاق ملف القضية، ونُسِبَ الحادث الى القضاء والقدر!.
وَدَعتُ ذلك الصديق القديم ودخلتُ إلى قاعة العرض السينمائي المُظلمة حيث كان ينتظرني أصدقائي بقلق. راحَ ظلام قاعة العرض يمتدُ عِبرَ أحداقي ليُغطي كل العوالم الموحشة القبيحة التي حاصرتني، كنتُ أنظر الى الشاشة الكبيرة ولا أرى غير البيت الخشبي المزخرف القديم وهو يحترق، ومن فتحات النوافذ المُكسرة الزجاج التي أكلت النيران أغلبها رأيتُ عرائس النار وهي تتوهج في لظاها وعذابها الأخير!، كنتُ أسمع صرخاتهن الهستيرية المؤلمة تخترق أذني وتجرح ضميري ووجودي وآدميتي، وأقسمُ بكل عزيز عندي إنني شممتُ رائحة الحريق والشواء البشري، ومعها شممتُ رائحة مأساة ذلك المجتمع الذي يصر على خلق الفجيعة ويتلذذ بها!، وتذكرت قول أمي من أن بعض نساء بلادي يخرجن من بيوتهن مرتين، مرة الى بيت الزوجية ومرة الى قبرهن!!،أما بنات الحجي فقد خرجن مرة واحدة فقط … الى قبرهن ومرقدهن الأخير.. المُريح.
جثثٌ مشوهة المعالم لم يبكِها أحد، ولم يراها أحد، ولم يندبها أحد، ولم يحبها أو يعشقها أحد، ولن يفتقدها أحد، ولم تحقق في الأسباب الحقيقية لموتها عدالة، ولم يسجلها ضميرٌ أو قلم في دفتر هوامش الوطن.

 لهذا أسجلها اليوم .. عسى أن أستطيع تقديم إعتذارٍ متأخر لهن .. بالنيابة عن أبناء وبنات وطني المُغيب والمجروح والمحترق ربما أكثر منهن ......…


 يقول نزار قباني:
أريد البحث عن وطنٍ جديد غير مسكونِ
وربٌ لا يُطاردني، وأرضٌ لا تعاديني
أُريدُ أفرُ من جِلدي .. ومن صوتي .. ومن لُغتي
وأشردُ مثلَ رائحةِ البساتينِ
أُريد أفرُ من ظِلي
وأهرب من عناويني
أُريدُ أفرُ من شرق الخرافةِ والثعابينِ ..
من الخلفاءِ ... والأمراءِ ...
من كلِّ السلاطينِ ...
أريدُ أُحبُ ….. مثل طيور تشرينِ ...
أيا شرقَ المشانقِ والحرائقِ ... والسكاكينِ ...

***************
* من طِباعي عشق كل ما يتعلق بالماضي، ولحد اليوم أزور أحياناً بيتي القديم في منطقة (ساوثفيلد) مشيكان، حيث رُزِقتُ بذريتي. لِذا فقد قمتُ بزيارة محلتنا القديمة في منطقة (سبع قصور) في الكرادة قبل رحيلي وتغربي سنة 1974، وفي زيارتي تلك شاهدتُ بيتاً جديداً قد تم بناؤه فوق الأرض التي كانت بيتاً للحجي، كان بيتاً جميلاً ملوناً وله نوافذ كبيرة وباب خارجي جميل ومُزخرف أيضاً، كان عدة صبية وصبيات يلعبون أمام باب الدار ويصخبون ويتصايحون بكل براءة. وعبثاً حاولتُ في خيالي أن أجد بين وجوههم وجه حسن (حَجَن)!!. كذلك لم أجد شجرة الكاليبتوس العملاقة!!، لعلها إحترقت مع بيت الحجي وبناته البريئات، ومن يدري … لعلها رَحلَت وهاجرَت مع مِئات عصافيرها الصغيرة إلى بلاد أخرى لا تضطهد أولادها وبناتها بسبب أو بدون سبب!!.

أحياناً يَجمحُ بيَ الخيال لدرجة تصديق أن هناك أقوامٌ غير بشرية جائت من حضارات شريرة عدائية من كواكب أخرى بعيدة، وتركت بيننا لسبب أو لآخر كائنات من صُنعِها تشبهنا في كل شيئ عدى إمتلاكها للحس الإنساني!، ربما لأن علوم تلك الكائنات وتفوقها العلمي لم يصلا بعد لصنع ذلك الحس الذي يُميز البشر عن غيرهم. ولهذا ربما كان هناك في حياتنا أشخاصٌ كالحجي!.  


لا زلتُ لحد اليوم أحلم بين آونة وأخرى بأنني وصبية الحي القديم نتلاعب قُدامَ بيت الحجي، وأسمع أصداء أصوات البنات الثلاثة من خلف الباب العملاق وهن يُنشدنَ بأصواتهن الجميلة البريئة تلك الأغنية الطفولية البغدادية:

الله يصبحكم بالخير … يل عمارة العمارة

الله يمسيكم بالخير ….. يل عمارة العمارة

تحياتي …….


المجدُ للإنسان.

طلعت ميشو. كاتب وناقد عراقي. شباط 2014

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

640 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع