إبراهيم الزبيدي
مشكلتنا في العراق اليوم أن القادة المتصدرين للقيادة ليسوا قادة. ومرة أخرى، لولا أمريكا وفعلتـُها الناقصة لما شمَّ أحدٌ من القادة المستأسدين علينا اليوم رائحة القصر الجمهوري، ولا سار بجانب حائط البرلمان.
لدينا ساسة، نعم. ولكن بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ولدوا وترعرعوا في سراديب أحزاب المعارضة السابقة، وعلى مكرمات دول الضيافة، وأفضال ِ مخابراتها.
فلو كان لعرب العراق، شيعةً وسنة، قيادة ٌواحدة محترمة ومعترف بها من فئات الشعب العراقي، بجميع مناطقها وتياراتها السياسية والفكرية والعقائدية والاقتصادية، لتغير وجه العراق بلا شك، ولعاد العراقيون إلى أعمالهم الاعتيادية بسرعة، ولاستعاد الوطن عافيته وعاش حياته الطبيعية، كما تعيش بلاد الدنيا التي تحترم نفسها وأهلها، حتى وهي فقيرة لا يدخل خزائنها عُشرٌ فقط مما يدخل خزانة العراق المنهوب.
أعلم بأنني سأغضب بعض أصدقائي السياسيين، ولكن لابد من القول هنا إن مشكلتنا مزودجة، فرضها علينا الاحتلال بحصرنا بين ثلاثة معاول هدم لا تحتمل. الأول شلة السياسيين السيئين الذين سطوا على قرار الطائفة الشيعية. والثاني شلة أخرى من السياسين السنة الذين فرضوا أنفسهم على الطائفة بقوة السلاح والمال، أو بالاستقواء بالمحتل، أو بدول الجوار، حتى تحول أمن الطائفة وكرامة أهلها ورزقهم إلى سوق مزاد علني يقامر فيه المرابون هواةُ الوجاهة والثروة والمشيخة بالدم البريء، دون وازع من ضمير ولا دين. أما الثالث فهو ذراع النظام الإيراني المغلق والظلامي والعنصري المتغطرس والعازم على تركيع شعوب المنطقة بالقتل والحرق وتخريب الموارد وتسميم العقول وسفك الدماء البريئة.
ورغم أن حال الطائفة السنية في العراق ساهم بعمق في تعقيد الحياة السياسية وتحويل العملية السياسية إلى صراعات شخصية طائفية وعنصرية مدمرة، إلا أنه، رغم كل سوئه، أقلُ مسؤولية عن الخراب الشامل الذي حل بالوطن، وذلك لأن السلطة الحقيقية صارت من حصة شلةٍ ثانية تتاجر، هي الأخرى، بحقوق تاريخية مهضومة تدعي الجهاد من أجل استعادتها للطائفة، وهو هراء في هراء.
ثم اكتشفنا، متأخرأ، أننا كنا مخدوعين ومتعلقين بحبال من دخان حين بنينا كثيرا من أحلامنا على المرجعية، وعلقنا على حكمتها وحنكتها وسطوتها الكثير من الأحلام، واعتقدنا بأنها لن تسكت على الضلال، ولن تجيز الظلم، ولن تدع المفسدين يعبثون لا بأمن الوطن العراقي كله، بل بأمن الطائفة الشيعية ذاتها ومستقبلها كله كذلك.
فمع أشد الأسف، ومع عميق الإحساس بالخيبة، ثبت بالدليل القاطع أن المرجعية عزلت نفسها عن أهلها، وتحولت إلى مؤسسة عاجزة لا حول لها ولا قوة لأداء واجبها المقدس.
فهي، أولا، فقدت ولاء قادة وزعماء أحزاب الإسلم السياسي، معممين وغير معممين، حيث شقوا عليها عصا الطاعة، رغم أنهم جاؤوا إلى السلطة بكرم الاحتلال ولكن تحت خيمة المرجعية، وبركاتها وأوامرها الصارمة.
ولم ينسَ أحدٌ منا أن بول بريمر ومستشاريه توهموا بأن المرجعية هي الشيعة، وأن السيد السيستاني هو خميني العراق، وأن التفاهم معه يُسهل عليهم مهمة ترسيخ الاحتلال وإدامته دون وجع راس. وعلى هذا كان موفق الربيعي مكوك الحائك بين المرجعية وقادة الاحتلال.
وكما ترون، فنوري المالكي يتمرد على المرجعية ويدفع بالسفينة عكس رياح المرجعية، بصلافة وقسوة وعناد. ولعل أبرز مظاهر الإحساس بالهزيمة لدى المرجع الأعلى السيد السيستاني أنه، منذ سنوات، يقاطع أصحاب السلطة، ويرفض استقبالهم، ولو كان في مقدوره أن يفعل غير ذلك لفعل.
ترى لوكان رئيس وزراء سني عربي أو كردي فعل مع المرجعية ما فعله ويفعله المالكي ألم تكن قامت قيامة (آل إيران) وأبواقهم التي لا تعرف الله ولا رسوله ولا المؤمنين؟
أما ثانيا، فالمرجعية كانت قد خسرت، من زمن بعيد، ملايين العراقيين الشيعة المتنورين المتحضرين الرافضين، بشدة، أية وصاية داخلية أوخارجية، وبالأخص من رجال المساجد والحسينيات والكنائس، مؤمنين بأن للدين مكانه وللسياسة والدولة رجالها وأحكانمها وفنونها وعلومها التي لا يريدرجل دين أن يتعلم من أمرها شيئا لأنها في عقيدته حرام وكفر وإلحاد، بل هي بدعة (استكبارية) وكل بدعة (استكبارية) في النار.
وليس من الضروري هنا أن نُذكر العراقيين بأن الشارع الشيعي، كما السني أيضا، مزدحم بالأفكار والتوجهات والعقائد والعبادات والثقافات والأذواق والأمزجة التي تتقاطع بالكامل مع منظومة الفكر المرجعي المتوارث.
كما أن عهود الصراع السياسي العراقي منذ أوائل الخمسينيات زرعت في نفوس العراقيين وعقولهم وأرواحهم بذور الفكر التقدمي التحرري الديمقراطي، حتى أصبح واقعا قد يكون ممكنا إسكاتُ أصحابه زمنا، ولكن نزعه أو اجتثاثه أمرٌ من آخر المستحيلات.
أما الخسارة الأكبر التي لحقت بالمرجعية فهي على يد الحاضنة الدافئة الملائمة لمثل هذا الخلل، والقادرة على إحداث هذا التحول العميق والمصيري في ولاءات الشيعة العراقيين، ألا وهي إيران التي امتلكت الساحة، ونزعت من المرجعية كثيرا من سلطتها وهيبتها، وبالأخص لدى الأجيال الجديدة المُسيسة المرتبطة بالكيانات العسكرية والأمنية والحزبية العراقية التي تخضع بالكامل لإرادة قاسم سليماني وسفارة الولي الفقيه في بغداد.
بمعنى آخر. إن سلطان المرجعية تقهقر إلى أقل من القليل، حتى أصبحت مثل أي مواطن عراقي عاجز وأعزل ولا حول له ولا قوة لديه، يرى ما فعله السفهاء الذين يحكمون باسم الطائفة فلا يملك سوى (الحوقلة) وانتظار الفرج البعيد.
تخيلوا ممثل المرجعية في خطب أيام الجمعة وهو لا يملك سوى النقد الناعم واللوم الخفيف والعتاب الرقيق، وسوى سهام خجولة يوجهها لسياسيين كانوا حتى الأمس القريب يتمسحون بأعتاب المرجعية ويتسترون باسمها وبهيبتها ومكانتها في المجتمع العراقي، ثم صاروا اليوم يتضايقون من توجيهاته وإرشاداته التي صاروا يقولون إنها فقدت زمانها ومكانها.
تابعوا الشيخ عبد المهدي الكربلائي ممثل المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني وهو يلهج بالشكوى من لجوء الحكام العراقيين إلى دول الجوار، بحثاً عن التفاهم لحل مشاكلهم، ويطالبهم بالتحاور والإتفاق في بلدهم الذي وصفه بأنه خيمة الجميع وبيتـُهم المشترك، ويدعوهم الى تنظيم صلاحيات رئاسة الحكومة، لتجنب ما حصل خلال الفترة الماضية من انفراد او استبداد او تحكم بالسلطة. ثم، وعلى رؤوس الأشهاد، يشكو بمرارة من فضائح الحكومة التي أصبحت عبئا على الطائفة، وشوهت سمعة المرجعية، وأشاعت لدى الناس، في الداخل والخارج، معا، فكرة أن شيعة العراق لا يصلحون للسلطة، وأن حكمهم لا يقل ظلما وعدوانا وفسادا عن النظام السابق الذي اتهموه بالطائفية والظلم والفساد، وعملوا بكل وسيلة على إسقاطه، ووعدوا بأن يقيموا على أنقاضه نظاما بديلا إسلاميا عادلا ورحيما يسعى لمرضاة الله وإنصاف المظلومين، لا لمرضاة الأحبة والأقارب والمحاسيب.
ومن زمن طويل والمرجعية تدعو أبناءها الناخبين إلى إسقاط الحكام الفاشلين الذين أدخلوا الطائفة في حروب وصراعات دامية عبثية لا داعي لها ولا معنى، مع كيانات عراقية أخرى، منها شيعية أيضا.
لكن المرجعية تريد، ولكن طهران تريد أيضا. وها هي، وبالضد من المرجعية ومن شكاواها الدائمة من سوء سلوك المالكي وشلته الحاكمة، تأمر بترسيخ ديكتاتوريته، وتعمل على تثبيته، وتطفيء اعتراضات حلفائه في الائتلاف الشيعي على توليته دورة ثالثة، وتطرد المعترضين، وتجبرهم على الاعتزال.
سؤال أخير. إذا كانت المرجعية، بجلالة قدرها وعظمة هيبتها، عاجزة عن لجم المعتدين المحليين علينا وعليها، وعاجزة عن منع تدفق (المجاهدين) الوافدين من وراء الحدود، رغم أنها تتحمل جانبا كبيرا جدا من مسؤولية صناعة هذه الظلمة الفاسدة، وإذا صارت مثلنا، نحن الكتاب العاجزين الذين لا نملك غير الكلام العابر في مقاتلة الفساد والفاسدين، فما جدوى مرجعية، مثلنا، لا تهش ولا تنش؟.
هل تخاف من المتطاولين على هيبتها، أم تستحي من وهنها المحزن الجديد؟؟؟
3869 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع