د. علي محمد فخرو
شيئا فشيئا تتكالب قوى الشر والثورات الرجعية المضادة لتزيح مطالب الحرية والعدالة والكرامة الانسانية، مطالب الديموقراطية، من الساحة السياسية العربية لتحل محلها ظاهرة العنف والعنف المضاد عبر أصقاع الأرض العربية.
بعد أن كانت منذ بضع سنوات قضية الديموقراطية في وجه الاستبداد هي قضية المجتمعات العربية الأولى والأهم والأكثر الحاحا أصبحت اليوم قضية العنف، بكل أشكالها وألوانها، امتدادا من العنف اللفظي والرمزي ووصولا الى العنف الارهابي العبثي الفاسق، أصبحت هي قضية الساحة السياسية الأولى. هنا صعدت مفاهيم الأمن و خفتت مفاهيم السياسة والاجتماع، وارتفع صخب طبول البطش والاجتثاث ونفي وجود الآخر على صوت كل آلة أخرى في سيمفونية الحياة العربية الحالية.
دعنا من المولولين الكاذبين، ذارفي دموع التماسيح، وممن لا ترى ابصارهم الا زاوية واحدة والا لونا واحدا، ولنسأل سؤالا بريئا واحدا : ما موضوع العنف؟
اذا نظرنا في قاموس العلوم السياسية فان تعريف العنف السياسي هو أنه وسيلة تستعملها بعض قوى المجتمعات وبعض قوى السلطة لتحقيق أهداف سياسية وذلك من خلال قمع الآخر.
لكن هذا التعريف الغامض الجامد لا يسمن ولا يغني من جوع، اذ يتجنب الخوض في الأسباب وفي الأجواء المحيطة به وفي العوامل التي تغذيه وفي ارتباطه الوثيق بأحزان وأوجاع التاريخ.
البعض يحاول أن يدخل في صلب هذا الموضوع المعقد من خلال قول أو جملة أو تركيز على جانب واحد، فالرئيس الأميركي الراحل جون كندي ينسب اليه قوله بأنه «عندما تسد الأبواب أمام الثورة السلمية فان الانتقال للثورة العنيفة يصبح أمرا حتميا». وهناك قول ينسب لناشط سياسي ضد التمييز العنصري الأميركي بشأن المواطنين السود: «انني تلميذ العنف لأنني تلميذ القلب الانساني». الأول يتحدث عن انسداد الآفاق السياسية والثاني يتحدث عن أهمية القيم الانسانية والجوانب الأخلاقية. والواقع أن الأقوال كثيرة ومتنافرة.
ما يهمنا ايضاحه هو أن العنف السياسي ظاهرة معقدة مرتبطة أشد الارتباط بالممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع وأن الجانب الأمني هو فقط أحد وجوهها. انه في قلب موضوع السلطة في الدولة العربية الحديثة وفي قلب أزماتها واخفاقاتها، وهو أيضا في قلب أزمة الثقافة العربية الحديثة التي تراوح مكانها مشلولة بين الثقافة التقليدية الجامدة وثقافة العولمة الكاسحة المليئة بالسلبيات.
ان ذلك يعني أن ظاهرة العنف السياسي في المجتمعات العربية يجب أن تدرس وتحلل من خلال منهجية العلوم الاجتماعية وتوجد لها الحلول أيضا من خلال أفكار ومبادئ تلك العلوم. من هنا اعتراض الكثيرين على المقولة الأمنية التبسيطية التي تختزل الموضوع في ضرورة استعمال العنف الأشد والأكثر بطشا من أجل منع انتقال العنف السياسي الى ثورة عنيفة تحرق الأخضر واليابس، ليس لأن الاجراءات الأمنية غير مهمة بل لأنها وحدها غير كافية وغير كفؤة وتحتاج الى سلسلة طويلة من عناصر الاسناد.
وبالطبع فان الحكومة الرشيدة العاقلة هي التي تستطيع التمييز بين العنف السياسي، والذي له مبرراته أحيانا، وبين الارهاب السياسي الذي لا يمكن أن يبرر لأنه يأتي على حساب الأبرياء الآخرين وعلى حساب السلم الأهلي. وبالمناسبة فان هناك أكثر من مئة تعريف للارهاب السياسي مما يجعل الموضوع معقدا للغاية. وكذلك التعاريف المتعددة للعنف السياسي.
ولذلك حرصت بعض الدساتير أن تضع في ديباجتها توجيهات أساسية عامة من مثل أن وجود الحكومة الرشيدة لايمكن فصله عن تواجد النظام العادل والسلام الأهلي في المجتمع أو من مثل أن هناك علاقة حميمة ومتلازمة بين وجود الحرية والعدالة والقوانين العادلة والنظام العام العادل وبين اطاعة القانون من قبل أفراد ومؤسسات المجتمع.
كتوضيح واقعي لتلك المقولات يمكن ذكر تاريخ العديد من الدول الديموقراطية في بداية القرن الماضي. لقد استعملت حكومات تلك الدول العنف السياسي الباطش ضد العنف السياسي الذي مارسته حراكات النقابات العمالية، ولكنها فشلت في ايقافه. ولكن كل ذلك العنف السياسي العمالي توقف عندما باشرت تلك الحكومات بتقنين الحقوق العمالية على أسس عادلة معقولة. عند ذاك أصبح النضال الحقوقي العمالي نضالا سلميا نابذا للعنف.
لن تحتاج الأنظمة العربية الى الاستمرار في أو البدء باستعمال العنف السياسي، وأحيانا الارهاب السياسي مع الأسف، لايقاف العنف السياسي المجتمعي اذا هي اعتبرت العنف السياسي ظاهرة اجتماعية جديرة بالدرس والتشخيص والعلاج من خلال مبادئ وأسس علوم الاجتماع وهي معروفة ومجربة وناجعة.
645 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع