متى يتخلّص العراق من المهزلة ؟

                                             

                             د. سيّار الجَميل

لم يعد للمجتمع العراقي " دولة " محترمة لها شرعيّتها  ومؤسّساتها وهيبتها وكيانها ..

لم يعد للعراقيين زعماء وقادة يمكنهم تطوير ايّ حقل وميدان يتولّون مسؤوليته .. ان كان للعراق  " دولة " اليوم ، والدولة – كما تُعرّف - مجموعة مؤسسّات فاعلة ، يديرها اناس من المؤهّلين والنزهاء من الوطنيين  الحقيقيين ليؤدوا الامانة نحو مجتمعهم ، ويخدموه خدمة عامة بإخلاص ليل نهار  .. لما  غدت "الدولة " فاشلة ، ولما امست مهزلة ، ولما تراجعت الى الوراء .. ولما فشلت العمليّة السياسيّة التي ساهمت بها جوقة من الفاشلين الذين عدّوا انفسهم من السياسيين ( العتاة الدهاة ) ، وقد بوركت عمليتهم ضمن صفقة اميركية - ايرانية مفضوحة .. ان ما نسمعه كلّ يوم منذ ثماني سنوات من اخبار داعرة ، وفضائح مستهترة عن احداث يقوم بها مسؤولون ، ومراهقون من ابنائهم ، او اقرانهم من الطائفيين ، ناهيكم عن البدائيين والقتلة والمعتوهين والخونة والمنحرفين ، وغدوا يوما بعد آخر من اسوأ الحاقدين والمسيئين والمرضى النفسيين ..

ثمان سنوات مضت ولم يزل الجهلاء يصفون ما يجري في العراق ، عمليّة ديمقراطيّة ،وحياة دستوريّة ، و شرعيّة سياسيّة ، او هناك " دولة قانون " حقيقيّة !  او هناك مجلس نوّاب حقيقي يؤدّي وظيفته كسلطة تشريعيّة تمثّل الشعب افضل تمثيل .. او هناك حكومة تعمل بكلّ نشاط وامانة وذكاء كسلطة تنفيذيّة في البلاد .. او هناك رئاسة عليا للعراق والرئيس العراقي لا يُعرف مصيره حتّى الان! فكيف بقي النظام السياسي يتمتّع بشرعيّة دستوريّة بلا رئيس ؟ ثم اين مبدأ الحصانة عندما يحاكم مسؤول كبير  ويصدر الحكم بحقّه غيابيا وهو على دست الحكم ؟ وكيف ينكّل بنوّاب برلمانيين من قبل الحكومة ، وتهان كرامتهم ، وهم ممثلون عن شعب انتخبهم ؟ وكيف يُقصى البعض من العراقيين عن الترشيح للانتخابات القادمة ؟  ولكن يؤتى بأناس كانوا متهمّين بأشنع التهم لتشركهم في عمليتّها السياسيّة الكسيحة ؟

ثمان سنوات مضت ونحن نشهد رئيس حكومة يعدّ نفسه الرئيس التنفيذي الاول في البلاد ، وهو لا يعترف ابدا بكلّ ما تحفل به البلاد من مشاكل ، ولا بما ارتكبه هو وبعض وزرائه ومستشاريه من الاخطاء الجسام ؟ بل يختلق المشكلات ، ويلقي بالاتهامات على سياسيين معارضين  ليلاحقهم وينكّل بهم سياسيّا واعلاميّا .. في حين يسكت سكوتا تاما على ما يقترفه مسؤولون ووزراء آخرون من جرائم وانحرافات واختلاسات وضلوعهم في النهب المنظمّ وصنعهم الخراب ، بل ويصمت ازاء ما يفعله اولاد المسؤولين الطائشين من استهتار وفضائح ، ويخرج على الناس ليتباهى بمغامرات ولده ؟  

ثمان سنوات ورئيس حكومة لم يتعلّم شيئا من معاناة العراقيين ، ولا يعرف كيف يحكم ، او يدير اصغر الازمات ، ولا كيف يتخّذ القرارات ، وهو  يشهد عقد الصفقات ؟.. ولا  يرضخ لإرادة نوّاب او يستمع لمعارضين ، فيقف  امامهم في المجلس ويجيب على تساؤلاتهم ، او يقف في ميادين المعتصمين ليسمع مطالبهم  ؟ كان نوري باشا السعيد – رحمه الله – يحضر قبل النواب جلسات البرلمان ، ليجيب علي اسئلة معارضيه ويطلب نشر ما يقوله ويقولونه على الناس .. يبدو ان رئيس الوزراء اليوم  لا يقوى على الاجابة على شؤون انهيار مؤسسّات الدولة .. ولما كان قد اتّخذ هذا الموقف ازاء برلمان ساهم حزبه وكلّ المتحالفين معه على انقسامه طائفيّا وعرقيّا ولا يمثّل ارادة وطنيّة للعراقيين  جميعا ، فان الجميع بات لا يقيم وزنا للبرلمان الذي غدت له تقاليد مشوّهة ومؤسسّة هزيلة ، استندت الى عمليّة سياسيّة فاشلة والى دستور اضرّت بنوده بالعراق والعراقيين معا

 تتمثّل أوجه الضعف في دولة فاشلة كالعراق  اساسا بوصول من ليس مؤهلا للحكم والسلطة والمسؤولية لاحتكار اغلب المناصب والمواقع المهمة في الدولة . لقد تطّور هذا الانحراف على ايديهم ، في حين ان المناصب ومكاتب صنع المشروعات والقرارات ينبغي ان يشغلها من يتمرّس في ادارة البلاد  ، ومن له معرفة بالمؤسسة ، وخبرة طويلة في الوظيفة ، او كما يسمّى بتدرّج ( السلم الوظيفي ) ، سواء كان وزيرا  ، او مديرا  ، او رئيسا  ، او مستشارا ، او قائد ميدان ، او حاملا للأركان .. لقد انهار هذا " المبدأ " ، وكنت اتمنى ان تحتفظ مؤسسات الدولة برجال اكفاء ، وخصوصا من وكلاء وزراء ومدراء اقوياء وموظفين نزهاء.. لقد انتهت التقاليد والاعراف ، فانتهت الدولة بنهاية مؤسساتها بأشكالها ومضامينها ، وان الضعف الحاسم الذي نشهده اليوم على مدى ثمان سنوات يمثّل في المقام الأول : الافتقار إلى الشرعيّة ، والشرعيّة ليست هي العدالة ، او ما يفرزه صندوق انتخابي  ، وان المناصب المهمة في المؤسسات ينبغي ان تتّم على اساس  المنافسة بين المؤهّلين ، والإدراك الجمعي للناس في المفاضلة والمقايسة بين هذا وذاك على اساس الانتماء والاخلاق والعراقة والكفاءة والثقافة المدنية العليا .

المشكلة ليست يا اهل العراق بالحرص على عمليّة سياسيّة سيئة، والاستمرار فيها ،  وكأنها ستأتي بالملائكة لحكم العراق .. وهنا اخاطب المرجعيّة الدينية التي تبقى في عزلة عما يجري في البلاد ، وفجأة تحرّض الناس على ابقاء العمليّة السياسيّة ، وكأنّها هي المنقذ للبلاد والعباد ! انها ويا للأسف الشديد ستبقى القديم على قدمه ، او ستأتي بأسماء اخرى لا تكون افضل ممّا هي عليه اليوم . وعليه ، فالمطلوب هو التغيير الجذري بتبديل العمليّة السياسيّة بالكامل والغاء الدستور والدخول في مرحلة وطنيّة انتقاليّة ومدنية جديدة بعيدا عن كلّ الوجوه الحالية واجراء محاكمات لكلّ المقصرّين في السياسة والحكم والادارة والوزارة والبرلمان ، في محاكمات عادلة لبدء مرحلة جديدة كما جرى في بلدان اخرى .

لم اكن يوما ضدّ الاحزاب الوطنية التي عملت على انقاذ العراق من التبعيّة والتخلّف وآمنت باستقلاله وأمنه وتقدّمه .. ولكنني ضدّ الاحزاب العقائدية والفاشيّة والطائفيّة التي قصمت ظهر العراق ، وفكّكت نسيجه الاجتماعي ، وجعلته يتهشّم ويعيش هذه الفوضى وهذا الانقسام البائس . ان تقلّد المناصب وحمل الدرجات هي لمن له مؤهّلات وكفاءات ، وتتحلّى بها شخصيّات نظيفة لها اخلاقياتها ووطنيتّها . ان السلطة ليست مجرد مقاعد في كابريهات يجلس عليها بعض الطائفيين التافهين الذين وجدوا انفسهم فجأة تحت الاضواء ، وهم بلا معرفة ، ولا خبرة ، ولا سير  ناصعة ، ولا  حسن سلوك ، وقد كُشف عن ارتباطاتهم المشبوهة ونزعاتهم السلطوية او الطائفية .

ان من ابرز العوامل التي ضيّعت العراق واهله تتمثّل بأولئك الذين جاءوا الى سدّة الحكم والادارة والسلطة في غفلة من الزمن ، فادخلوا تاريخ العراق الى كهوف مظلمة ومارسوا كلّ السيئات والموبقات ، واحالوا العراق الى خراب يباب وبدّلوا صور العراق الحضارية المتمدنة  . ويدرك كلّ العالم بأنّ العراق لم يزل ينجب المبدعين والرائعين من علماء وشعراء وفنانين ومطربين ومثقفين ورياضيين .. فهل عقم العراق عن انجاب الساسة والقادة والمدراء والوزراء والقضاة والبرلمانيين ؟

دعونا نسأل : بأيّ حقّ يتقلّد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي " وزير " بلا شهادة عليا  ( ويقال بلا شهادة دنيا ) ، بل انه حاصل على شهادة معهد معلمين . وعليه ، فليس له أي باع في الحياة الوظيفية ولا الاكاديمية  ؟ سؤال مشروع ، ليس لأن الرجل لا يمتلك شهادة عليا مرموقة فقط ، بل لأن لا خبرة وظيفية او اكاديميّة تؤهلّه لقيادة هذا الميدان وضرورات انقاذه الحقيقية  اليوم .. وبأيّ حق يتقلّد وزارة النقل " وزير " كان سابقا مجرّد نائب عريف ومارس دوره (.... ) المعروف  بعيدا عن العراق ووزارة النقل . فكيف يتقلّد حقيبتها ؟ وما كفاءته ؟ ان ما قام به ابنه قبل ايام يعدّ فضيحة اساءت للعراق والعراقيين امام العالم بشكل مستهتر ؟

لو ادرك هؤلاء حجم الاساءة لقدّموا استقالاتهم من مناصبهم ، فأين الاعتراف بتقصيراتهم واين مساءلاتهم  ؟ ومتى سيشهد العالم محاكمتهم ؟ وهل نسأل عن مؤهّلات وزير الثقافة اليوم ؟ ما شأنه والثقافة ؟ حدثتني احدى النائبات العراقيات ان نائبا من حزب رئيس الحكومة اقترح اسم مثقف عراقي واكاديمي كبير مستقل ليكون وزيرا للثقافة كي ينهض بالثقافة العراقية ويرعى كل المثقفين العراقيين ، فما كان من ( دولة الرئيس ) الا ان امتعض ونظر الى تابعه شزرا .. فقلت لها مستطردا : ومن قال بأن ( فلانا) سيقبل العمل مع هذه الجوقة الطارئة ؟ ثقافتنا العراقية ليست تافهة ليمثلها وزير يحمل حقيبة فارغة ؟ لو سمح لي حجم المقال لسألت كل وزير  عراقي اليوم عن سيرته وكفاءته ومؤهلاته .. ونسأله عن اسآءته وقرف صفقاته ! ابعد هذا وذاك من فصول المهزلة ، هل ثمة شرفاء من العراقيين يتهمونني بالإساءة الى الواقع (الجميل) الذي يعيشه كل العراقيين اليوم ؟

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

925 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع