آرا دمبكجيان
للأمانة الأدبية أودُّ أن أذكر أن المقالة في أدناه كتبها صديق عراقي أرمني، طبيب من أربعين خلَت، تلقّى رسائل تهديد في عيادته في بغداد، فسَلَكَ طريقَ المنافي مجبراً لسلامته و سلامة عائلته.
و لإشغالِ الفراغ في وقتهِ أرتادَ إحدى الكلياتِ للتقوية في اللغةِ الأنكليزيةِ و قواعدِها بعد أن شابت الذوائبُ منه.
طَلَبَ منه مُدرِّسُهُ كتابةِ بحثٍ باللغة الأنكليزية في نهاية الفصل الدراسي، ففعل، و رأى هذا النور. طلبتُ منه أن ينشر ما كتبهُ في الصحف المحلية و في عددٍ من المواقع على الأنترنت. رَفَضَ رفضاً قاطعاً لا رجوعَ فيه بسبب عقدة الخوف في نفسهِ من التعرُّض الى كوادر الدولة. و قد سَهَّلَ الله لي أن أحصل على موافقته لترجمة المقالة الى اللغة العربية و نشرها في "الگاردينيا" ... و لكن من دونِ ذكرِ أسمِه.
آرا دمبكجيان
قتلُ الأطفال
من المفزعِ أن نفكِّرَ عن حالاتِ اليأسِ و القنوط التي تنتاب الآلاف من الأطفال في عالمنا هذا عندما يخلدون الى النوم من دون الحصولِ على طعامٍ كافٍ يُشبِع جوعَهم، هذا اذا وجدوا ما يأكلون. و يكون حالهم مُريعاً أكثر عندما يستيقظون في الصباح و هم غافلون إنْ سيجدوا طعاماً كافياً في الفطور، هذا إذا وجدوا شيئاً منه.
من الممكنِ أن يحدثَ هذا الأمر في دولٍ تعيشُ تحت خطِّ الفقر حيثُ يموتُ الآفُ الأطفال بسببِ نقصِ الغذاء و التغذيةِ السيئة نتيجة للتوزيع غير العادل للغذاء في العالم.
ماذا لو حدثَ هذا الأمر الفظيع في بلدٍ غنيٍّ مثل العراق عندما قُتِلَ مئاتُ الآلافِ من أطفالِهِ بسببِ حصارٍ دوليٍّ جائر، شاركَ فيه الشقيقُ قبلَ الغريب، و فُرِضَ على البلدِ لأسبابٍ إجرامية و غيرِ منصفة.
ليس هناك عذرٌ مقبول لقتلِ نصفِ مليون طفلٍ عراقي تحت ذرائعَ سياسية لا تمتَّ الى الأنسانية بصلة.
في مقابلة على قناة CBS-TV في 11 أيار 1996 مع مادلين ألبرايت، مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة آنذاك، سألتها ليزلي ستاهل اذا كان موت نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار قد حقَّقَ الغاية من فرضه. أجابت ألبرايت: "نحن (الإدارة الأمريكية) نعتقد أن الثمن كان مناسباً."
كان الحصار المفروض على العراق يشمل حصاراً مالياً و حظراً تجارياً فُرِضَ من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بدأ في السادس من آب 1990، أي بعد أربعة أيام من غزو الكويت. كانت الأسباب الأساسية التي ذُكِرَت آنذاك لفرض الحصار هي إجبار العراق على الأنسحاب من الكويت، دفع التعويضات، و الأعلان و الكشف عن كل أشكال أسلحة الدمار الشامل العراقية و تدميرها. و من التأثيرات السلبية الناتجة عن الحصار المفروض حدوث درجة عالية من سوء التغذية، فقدان المستلزمات الطبية ثم أنتشار الأمراض لقلة الأدوية و عدم وجود الماء الصالح للأستهلاك البشري.
بعد أزَمَةِ سوء التغذية في العراق، قام عالمان أجنبيان بإجراء مسح ميداني للقطر لصالح منظمة الغذاء و الزراعة FAO التابعة للأمم المتحدة، و قدَّما دراسة تفيد أنه من الممكن ان 576,000 طفل عراقي ماتوا حتى نهاية حرب الخليج (1991) بسبب العقوبات الأقتصادية المفروضة من قبل مجلس الأمن. و أوضحت الدراسة أيضاً أن سوء التغذية يرتفع بشكل عمودي عند صغار السن من العراقيين مهدِّداً أعداداً أكبر منهم على مدى السنوات القادمة. (1)
و في كانون الأول 1995 قدَّمَت منظمة الغذاء و الزراعة نفسُها تقريرَها عن وفاة أكثر من مليون عراقي، 576,000 منهم من الأطفال، كتأثير مباشر للعقوبات الأقتصادية.
و قدَّمَت منظمة اليونسيف لرعاية الطفولة تقريرها أيضاً و ذكرت فيه أن 4500 طفل عراقي تحت سن الخامسة يموتون كل شهر من الجوع و الأمراض. و أجْرَت اليونيسيف مسحاً غذائياً في نيسان 1997 بمشاركة برنامج التغذية العالمي WFP و بمشاركة وزير الصحة العراقي آنذاك و أوضحت أنه يعاني في وسط و جنوب العراق 27.5% من العراقيين، أي ثلاثة ملايين طفل، من خطر سوء التغذية الحاد.
_________
في كتابها المعنون " Madam Secretary" (2) ذكرت مادلين ألبرايت: "يؤسفني أن أقول بأنني هَيَّجْتُ المشاكل في علاقاتنا العامة أكثر و أكثر خلال المقابلة في 1996 التي جَرَتْ في برنامج (60 دقيقة) على قناة CBS . تضمن المقطع زيارة ميدانية لدوائر الصحة العراقية مع صورٍ لأطفالٍ عراقيين ماتوا جوعاً، و تضمَّنَ كذلك إستنكاراً لسياسة الأمم المتحدة من قِبَل مسؤولين عراقيين. لم يُبْذَلْ (في البرنامج-آ.د.) جهدٌ كافٍ لتوضيح ما يستحقّه صدام من اللوم في الموضوع، و سوء أستخدامه للمصادر العراقية، أو حتى توضيح الحقيقة بأننا لم نفرض حصاراً على الدواء و الغذاء.
لقد تأثَّرتُ كثيراً عندما كنتُ أرى أن قناتنا التلفزيونية كانت تعرض ما عرضتْه وسائل الإعلام العراقي.
سألتني ليزلي ستاهل في نهاية البرنامج: "لقد سمعنا أن نصف مليون طفل ماتوا (بسبب الحصار-آ.د.)، أقصد أن هذا العدد أكثر من عدد الأطفال الذين قُتِلوا في هيروشيما. و كما تعلمين، هل كان الثمن يستحق موت هذا العدد؟"
جاوبتُها كالآتي: "أعتقد أن الأختيار كان صعباً جداً، و لكن الثمن يستحق ذلك." في اللحظة التي نطقْتُ بهذه الكلمات تمنَّيتُ لو كانت عندي المقدرة على تجميد الزمن آنياً و سحب كلماتي. كان ردِّي خطأً فظيعاً، مُسرعاً و أخرقاً، و غير صحيح. ليس هناك ما يعادل حياة ناس أبرياء. لقد وقعتُ في الفخ و نطقتُ بشيئٍ لم أكن أعنيهِ ببساطة. لم يكن ذلك خطأ أحدٍ غيري."
كان هذا اللقاء في 11 أيار 1996 و كانت ألبرايت تُشغِل في ذلك الوقت منصبَ مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة. و بعد بضعة أشهرٍ حصلت على موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع لتعيينها في منصب وزيرة الخارجية...
لم يستجوبْها أحد من مجلس الشيوخ عن إشاراتها و أجوبتها التي أخذتْ طابعاً قاسياً في ذلك اللقاء...
هل يحق لشخص يملك تلك المؤهلات السياسية أن يرتكب ذلك النوع من الخطأ الفادح ردّاً على سؤالٍ موجَّهٍ اليه و من ثم يُعَيَّن على رأس وزارة الخارجية؟
لقد أهْدَتْ ألبرايت كتابها : "الى عائلتي، في الماضي و الحاضر، التي أحترمها و أُحبُها."
من حقِّنا أن نتساءل إنْ كان الله خلقَ عائلتها بطريقة مغايرة لخلق بني البشر.
هل هي بهذه الدرجة من الشفقة و الرحمة و المغفرة تجاه عائلتها، و ليست كذلك تجاه أطفال العراق المساكين؟
من غير المعقول أن يفهم هذا النوع من البشر معنى الحبِّ و العاطفة و الأحترام الموجود في النفس البشرية.
أيُّ شعورٍ كان سينتابها لو كان أحد أحفادها من ضمن أولئك الأطفال؟ من دون شك كانت ستتفاعل بطريقة مغايرة بسبب حبِّها لعائلتها...
ذكِرِتْ ألبرايت أنها كانت ساخطة على التلفزيون الأمريكي الذي كان بثُّهُ مشابهاً ما يبثّه الإعلام العراقي. نسألها سؤالاً بالجدية نفسها: لماذا كانت ساخطة؟ أمريكا بلدٌ الحرياتُ فيها مكفولة و متاحة للجميع، و من حقِّ كلِّ مواطنٍ أن يُبْدي رأيه بصراحة، خاصة الجهاز الإعلامي و الصحافة.
على كل حال، من المتوقِّع أن يستعمل الشخص الدبلوماسي دماغَه و يفكر مرتبن قبل أن يتفوَّه بأي كلام.
عليه أن يزنَ كلماتِهِ و يكونَ مسؤولاً عن العبارات التي ينطقها، و أن لا ينقاد الى أحاسيسه لأنه يتعامل بمصير بلد و شعب برئ ليس له ذنب و لا مقدرة.
__________
خلال مدة رئاسته ترأّس بيل كلينتون على أعتى نظامِ حصارٍ دولي و عقوبات مفروضة و الذي أسَّستْه الأمم المتحدة حيث فقد من جرائهِ مليون عراقي حياتَه، معظمهم من الأطفال. (3)
ذكر هذا المصدر أن هذه التقارير ليست من مصادر عراقية، و لكن من منظمة الصحة الدولية WHO التي أبلَغَت عن زيادة ست مرات لمعدل موت الأطفال دون سن الخامسة.
و أخيراً، إن السيدة مادلين ألبرايت من يهود جيكوسلوفاكيا السابقة حيث عانت عائلتُها ويلاتِ الأحتلال النازي لأتهامها ب"اليهودية". ألم تفكِّر لحظة واحدة أنها تتهم أطفال العراق بسبب "عراقيتهم"؟
لعلها لم تفكِّر الى ذلك الحد، ربما لكونها سياسية، عندما كانت تقتل أطفال َ العراق عن طريق تجويعهم و حجب الأدوية عن مرضاهم. ألم تفكِّر لحظة واحدة أخرى عمّا قاستْه جماعاتها اليهودية في جيكوسلوفاكيا إبان الأحتلال النازي؟
________
المصادر:
1- Crossett, Barbara. “Iraq Sanctions Kill Children,” The New York Times, Dec.01, 1995
2-Albright, Madeleine. “Madam Secretary,” Printed in the United States, Published by the Easton Press 2003 Print.
3-Harten, David L. “Clinton’s worst Crimes.” Jan 26, 2001.
و مصادر أخرى كثيرة.
794 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع