د.محمد عياش الكبيسي
في مصر (القديمة) مرت سبع عجاف من القحط والجوع والجفاف، وكان يوسف الصدّيق -عليه السلام- يعمل خلالها ويضع الخطط ويجيب عن التساؤلات ويتشاور مع الجميع لحل المشكلات وتجاوز العقبات، لا يستبعد (كافرا) ولا يحابي (مؤمنا) إن مهمته الآن هي إنقاذ الحياة،
وقد نجح في مهمته وأثبت بالفعل أنه هو الحفيظ العليم وأنه هو (الحل) حيث قلب العجاف إلى ربيع جميل (فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)، وجاء الناس يقصدونه من أقطار الأرض قائلين له: (يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا إن الله يجزي المتصدقين).
اليوم عادت العجاف وزادت على السبعة والسبعين ليس في مصر وحدها بل في كل هذه الأمة الممتدّة من المحيط إلى المحيط، فأكلت كل ما ادخره أجدادنا وجداتنا من مصوغات ومجوهرات ومقتنيات غالية وجميلة حتى تينك الجوهرتين الغاليتين اللتين كانتا تزيّنان قلادة الدهر أعني (القدس وبغداد).
ما جفّ جرح القدس لكن ألحقت... بالقدس رغم أنوفنا بغداد
فالجفاف عندنا لم يكن بسبب التصحر أو قلة المطر فحسب، بل وصل إلى كل شيء فينا حتى التعليم والسياسة والثقافة والقانون، فصرنا نستورد كل شيء حتى القيم والأخلاق وطريقة لبس الثياب وقص الشعر والدخول في الحمّام! إنه القحط الذي جعلنا نعتذر لدعوات مقاطعة (ألبان الدنمارك) وإن شتموا نبينا، لأن نوقنا وشياهنا لم تعد قادرة على إنتاج اللبن!
في هذه العقود الثقيلة والمريرة كانت الوعود والشعارات تروج سوقها لدى العاطلين والحالمين، وتختلط فيها أصوات المتدينين الذين يبشرون بـ (الحل الإسلامي) مع أولئك اليساريين أو اليمينيين الذين يهتفون (وطن حر وشعب سعيد) وهناك أيضا الكثير من (الخطابات التاريخية) و(مؤتمرات القمة)، حتى أصيب الناس بالملل واليأس وعمى الألوان لكثرة ما رأوا من صور ولافتات وشعارات.
وعلى غير موعد ولا اتفاق ولا توقع جاءت عربة (البوعزيزي) من تونس فيها شيء من الخضراوات والفواكه وهمة إنسان قرر أن يكشف حقيقة تلك الشعارات أو الطلاسم التي كان الحكام يستخدمونها ليسحروا أعين الناس، ولم يجد بائع الخضراوات هذا سوى عود ثقاب واحد أشعله في ثيابه، لا ليتعرى هو، بل لتتعرى الأصنام، ولا ليحرق جسده بل ليحرق تلك التمائم والطلاسم.
أفاق النائمون واستبشر اليائسون، وغصّت الشوارع والساحات بالجموع، وكان الفقراء والضعفاء في الصفوف الأولى يتصدون للكلاب البوليسية ولخراطيم المياه والرصاص والدخان، ولم يكن هناك من يدري بمآلات الأمور ولا بالمشاريع المستقبلية، وكأنهم كانوا يرددون ما ردده امرؤ قيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فلقد انجلى الليل بالفعل لكن الصباح لم يأت، وذهب الخريف ولكن المطر لم ينزل، بل هبّت أعاصير الفتن من كل حدب وصوب حتى صار بعض الناس يندمون على تلك البطولات والتضحيات، وراح آخرون يجمعون الشواهد والشوارد ليثبتوا أن الربيع لم يكن سوى (مؤامرة) غربية أو شرقية لتقسيم التراب العربي أو تقاسمه!
لقد انقلب الربيع إلى خريف ثقيل بأسرع مما كان يتوقعه المتشائمون، وبدأت إفرازات مؤذية للثوار وللناس وللمحيط العربي والإسلامي كله، ومن ذلك:
أولا: ظهور انشقاق حاد وعنيف على مستوى الأنظمة والشعوب حول الموقف من ظاهرة (الإسلام السياسي) خاصة بعد صعود الإخوان إلى دفة الحكم في قلب العالم العربي (مصر)، وقد أثار مخاوف المتخوفين أكثر وجود تنظيمات سرية أو علنية في كل البلاد العربية تجمعها خيمة (المرشد) وينسق مواقفها (التنظيم العالمي)، والذي ظهر بشكل واضح أن الإخوان لم يحسبوا لهذا الأمر حسابه، فوقعوا وأوقعوا الأمة معهم في دوامة لها أول وليس لها آخر في وقت كانت الأمة أحوج ما تكون فيه إلى لملمة شعثها لمواجهة التحديات القادمة من جهة الشرق، حتى صرّح أحد المسؤولين الأمنيين في دول الخليج (أن الإخوان أخطر علينا من إيران)! واكتفى الإخوان إزاء هذا بالاحتماء بمقولات (الحق والشرعية) وهي قطعا لا تكفي، فالبحث في المآلات والاحتمالات وردود الأفعال من صميم واجب القيادة.
ثانيا: محاصرة (حماس) في قطاع غزة، وهذه نتيجة متوقعة للصلة الوثيقة بين حماس والإخوان، ولأن الفلسفة العربية دائما فلسفة أحادية فقد تم غض الطرف عن المشروع الصهيوني وخطره على الأمة، فحماس مهما كان الخلاف معها ما زالت تشكل ورقة قوية لمواجهة هذا المشروع أو مشاغلته.
ثالثا: في الربيع اليمني والسوري كانت الظاهرة الأخطر هي قدرة الميليشيات المرتبطة بإيران على التحرك بشكل غير مسبوق، حيث تمكن الحوثيون من اقتلاع مركز التعليم (السلفي) في دماج والوصول إلى مشارف صنعاء، بينما تقدم حزب الله وميليشيا العباس وجيش المهدي للوصول إلى عمق المدن السورية، دون أي رد مناسب لا على مستوى الحكومات العربية ولا على مستوى الشعوب.
رابعا: هناك ظاهرة أخرى أسهمت بشكل كبير في حالة التشتت والارتباك، وهي ظهور الجماعات (الجهادية) ذات التوجهات الراديكالية الحادة، مما نتج عنه تهديد جاد لوحدة الثورة كما في سوريا، أو لاستقرار الدولة كما في ليبيا واليمن وتونس، وقد وصل الأمر إلى حد الاقتتال الداخلي والتفجير وسط المساكن والأسواق والمستشفيات، ولعلنا لم ننس بعد جريمة مستشفى العرضي والتي اعترف بها رسميا تنظيم القاعدة دون إعطاء أي مبرر، وإعلان دولة العراق والشام الإسلامية (داعش) من قبل البغدادي بلا تنسيق ولا مشورة مع أهل البلاد بما فيهم الثوار والمجاهدون من الفصائل والجبهات الأخرى مما ينذر بتحويل الثورة إلى حالة من الفوضى العامة.
خامسا: إعلان التحالف الرسمي بين أميركا وإيران، وهي رسالة قرأها الكثيرون على أنها موجّهة للربيع العربي أو الإسلامي، وهذا يذكر بتبني الغرب لمعادلة التوازن بين (الكثرة السنّية والقوة الشيعية) لضمان انشغال الفريقين أحدهما بالآخر، بعدما تأكد الغرب أن الربيع العربي من شأنه أن يأتي بالإسلاميين السنّة.
سادسا: ظهور الخلاف الخليجي وبطريقة غير مسبوقة أيضا، و(التعاون الخليجي) هو آخر المعاقل الحصينة والآمال الوحدوية للعرب، ومهما ألبس هذا الخلاف من عنوانات أو تبريرات فإن الخلاف حول كيفية التعاطي مع الربيع يبقى السبب الأبرز أو الأوحد، وهذه مشكلة في غاية الخطورة على الأمن الخليجي والعربي، وينبغي ألا تطول أكثر مما ينبغي، والثقة بحكمة القيادات الخليجية وتاريخ العلاقات الحميمة على كل المستويات يشعرنا بنوع من الطمأنينة أو الفأل الحسن على الأقل.
إن هذه الإفرازات المؤذية لا يمكن أن يعدّل كفتها ما يروّج له بعض المفرطين في التفاؤل، وهو أن هذه الشعوب يكفيها أنها قد أعتقت نفسها وحررت إرادتها، وأنه لم يعد من الممكن إرجاعها إلى سجون الرق أو محاضن التدجين.
إنها ليست آلام المخاض، كما أننا نرجو ألا تكون سكرات الموت، ولكنها معضلة مركبة ومعقدة ولها أكثر من وجه، وهي بحاجة إلى المراجعة والمشاورة بصدق، والتحول من حالة ردود الأفعال المضطربة والمرتبكة إلى حالة من الوعي بخطورة المرحلة وضرورة القيام بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا، وكل بحسب موقعه وقدرته
506 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع