ثريا الشهري
طفل أميركي يعاني ضعفاً شديداً في حاسة السمع وعليه تثبيت جهاز في أذنه بسماعة لونها أزرق لتقوية التقاطه للأصوات.
ولأن الصغير من عادته التصرف ضد مصلحته، فقد خلع السماعة ذات يوم ورمى بها بعيداً، لأن الأبطال الخارقين في نظره لا يضعون هذا الشيء الأزرق في آذانهم، فما كان من والدته إلا أن أرسلت بقصة ابنها الغاضب إلى شركة «مارفال» المسؤولة عن مطبوعات قصص الأبطال الخارقين المصورة، مثل سلسلة البطل المعروف «سبايدرمان»، فلم يهمل القائمون على «مارفال» معاناة الأم مع ابنها، مولين اهتمامهم الجانبَ الإنساني، وفي الوقت ذاته تحقيقاً لدعاية أكبر لشركتهم. وهكذا تم الاجتماع والتباحث والاستقرار على ابتكار شخصية اسمها «البطل الخارق بالأذن الزرقاء». ثم وعند الانتهاء من رسمها بخطوطها كافة، يرسل «بوستر» الصورة إلى عنوان الطفل. ومن اندهاش الصغير وفرحته بالرسمة، كان أن زفّ الخبر بين زملائه ومعلميه، فتفاعلت إدارة المدرسة مع روايته وعمدت إلى تخصيص يوم يتنكر فيه الطلاب بارتداء زي الشخصية الكرتونية المحببة إليهم، فكان البطل الخارق ذو الأذن الزرقاء رداء طفلنا ضعيف السمع. وليس هذا فحسب، بل وزد عليه حرص شركة مارفال على توزيع مجسّم البطل الخارق ومطبوعة باسمه في الأماكن المخصصة لبيع مستلزمات الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، كي تقنعهم كيف أن الرجل الخارق لا يستطيع أن يسمع كما غيره، ولكنه يظل البطل الخارق.
فكيف بمن يقرأ هذا الخبر وهو هنا؟ فلا «مارفال» ولا «ديزني» ولا غيرهما ضمن قائمة مؤسساتنا، ولا أهلها هم أهلنا كي نأمل باستجابة سريعة لنداء أطفالنا، ومع ذلك يبقى لنا استيراد تلك الأجهزة لضعاف السمع من الأطفال، فلن نبالغ ونطالب بابتكار وطني ومثيله، وإن كان ليس بشيء مستعصٍ، والأكيد أننا قادرون عليه وعلى غيره. ولكن دعنا في حدود المعقول، وطالما أن شراء الأجهزة الخاصة حاصل ووارد، فلِمَ لا تكون الأذن الزرقاء للبطل الخارق من ضمنها؟ وقس عليها أفكار أخرى ومدروسة في التعامل الأذكى مع أطفال الاحتياجات الخاصة.
وبهذا الخصوص، وقبل قرابة العشرة أعوام، جاءتني زميلة صحافية تعنى بالاحتياجات الخاصة تحديداً، وكانت أميركية سمعت بعائلة سعودية أطفالها من ذوي الفئات المبتلاة ولا يجيدون الإنكليزية، فلو أنني أرافقها لعلي أترجم لها ما يقولونه عن حياتهم وتكيفهم مع إعاقاتهم، فتحرجت بداية لهذا التطفّل، ولكن بعد علمي بوجود أربعة أطفال في بيت واحد من ذوي الاحتياجات الخاصة، وعقب موافقتهم على عقد اللقاء، تحمست لمقابلة الأبوين الصابرين والتعرّف إلى شخصيتيهما وأسلوب معايشتهما ابتلائهما الكبير، فكان السر في الإيمان بقضاء الله وقدره ولا شيء غيره، حتى إن زميلتي لم يفتها هدوء النفس الذي يتحلى به الاثنان وهما يجيبان عن الأسئلة بكل اطمئنان. وكيف أنه بسبب قرابتهما من الدرجة الأولى أصيب أبناؤهما بهذه الإعاقات.
وكل هذا كان مقبولاً إلى أن التقينا بالأطفال الأربعة، الذين لصغر أحجامهم وانكماشهم في كراسيهم المتحركة وشلل بعض أطرافهم، كان من الصعب تمييز أعمارهم الحقيقية المتفاوتة، التي راوحت بين المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. ولكن لنقل إن براءة تلك الأرواح الطاهرة وابتساماتها المتفائلة على رغم كل شيء، كان لها أثرها العظيم في أنفسنا وفي تجاوز وقت الزيارة المقرر. فما هو أكثر شيء كان يحزن أولئك الرائعين ويجدونه صعباً؟ اتفق الأربعة على أنها نظرة الآخرين إليهم، ومعاناتهم في الاندماج الطبيعي مع الأصحاء، ومعهم كل الحق.
إعاقات الجسد -وليس العقل- لا تمنع ولا تحول دون الاختلاط مع الآخرين والتعايش معهم، ولكننا بحاجة إلى التفكير في كل ما من شأنه التخفيف عن أصحاب الاحتياجات الخاصة، بدءاً بالسماعة الزرقاء. ولا أعنيها بذاتها كي لا يقف القارئ عندها، ولكنني دائماً ما أرمي إلى المبدأ نفسه والأعمق، وهو ماذا بإمكاننا أن نقدّم لإنسان من ذوي الاحتياجات الخاصة في بداية عمره ولا يريد أن يشعر باختلافه عن الآخرين، أو انعزاله عنهم؟ فكما قيل ليس هناك معوّق، ولكنّ مجتمعاً يعوِّق. وكما قالها المنفلوطي: «تربة الشرق لا تختلف كثيراً عن تربة الغرب لو تعهّدها الزارعون».
399 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع