بغداديات / الچرخچي شخصية إجتماعية هل تتذكرونه؟

     

     الچرخچي شخصية إجتماعية هل تتذكرونه؟

                     

            

                
 
إرتبط إسم الچرخچي أو البصوانچي أو الحارس الليلي أو الوحاش، في الذاكرة البغدادية والذاكرة العراقية عموماً بأيام التماسك الإجتماعي والتآلف الحميم الذي كانت تعيشه الأحياء السكنية بحيث كان (الچرخچي) يشكل واحداً من أهم أركانها، جنباً إلى جنب مع (المختار)، ومأمور المركز، ومأمور البلدية المسؤول عن نظافة الأزقة وعدم وجود مخالفات تؤذي الناس.

     

                  مأمور البلدية / المتحف البغدادي

وقد يضاف إليهم قارئ مقياس الكهرباء والبوسطجي (موزع البريد)، وفي ليالي رمضان يبرز (المسحرچي) كركن من أركان الحي البغدادي والعراقي عموماً.
هل تتذكرون الحارس الليلي (الچرخچي) يوم كان رمزاً للأمان والطمأنينة في نفوس أبناء المحلة، بل كان واحداً منهم، يحفظ أمنهم وسلامتهم ويحرس دورهم، ويجول في الأزقة والأسواق يحمي الناس والممتلكات ويشيع الطمأنينة في قلوبهم بصافرته أو بصوته الجهوري وهو ينادي على احد البيوت ينبهم على اقفال بابهم التي نسوا اقفالها او كان يناديهم لفتح بابهم لاحد افرادهم وهو عائد متاخر بعد منتصف الليل من العمل او من سهرة سمر وأنس!!

                               
 
أتذكّر بأن الأخ آرا دمكجيان كتب تعليقا في مجالس حمدان الثقافية عن ذكرياته مع الحارس الليلي قال فيه:
((أذكر مرة في أوائل الستينات بقينا ساهرين في الليل لسبب ما وبقيت الإنارة في (الحوش). سمعنا طرقاً على الباب، وإذا به الچرخچي (الحارس الليلي) يسأل إن كنا بحاجة للمساعدة بسبب وجود مريض أو غير ذلك لأنه لم يعتد أن يرى أضوية الدار منيرة بعد منتصف الليل. هكذا كانت الحياة في محلات بغداد.. الله يرحم تلك الذكريات الطيبة))


هل تتذكرون الچرخچي؟
لقد تألمنا حين قرأنا في الأخبار أن قراراً صدر عن الجهات الرسمية يقضي بإلغاء العمل بنظام الحراس الأهليين أو الليليين لعدم جدواه. ولا ندري ماهو السند فيما ذهب اليه قرار الالغاء؟
فللحراس الليليين تاريخ في الموروث الشعبي البغدادي، بل وسائر مدن محافظات العراق العزيز. فالحارس الليلي (الچرخچي) مهنة شعبية تراثية إجتماعية سادت في معظم مدن العراق الحبيب.


أصل كلمة الچرخچي:
الچرخچي كلمة تركية استخدمت في اللهجة العراقية وتعني الحارس الليلي،  و(جَرَخ) يعني دائر أو دورة، والأسم متأتي من دورانه في الأزقة، ويسمى أحيانا النوبجي، ويعني الذي يأتي بالنوبة، أي بوقت معين أو فترة عمل محددة، كما يسمونه في الجنوب بالبصونجي، وأحياناً (الوحاش) لأنه يخرج في وحشة الليل. أما في مصر وبعض البلدان العربية فيسمى بالخفير.

منذ تاسيس دولة العراق الحديثة (1921) تم ربط الحراس الليليين بمراكز الشرطة، وكانت مهمتهم إعانة الشرطة بحفظ الأمن ومنع وقوع السرقات في مناطق عملهم، وكانوا يرتدون القميص الخالكي أو السترة الخاكية حسب الموسم مع البنطلون الخاكي ويلبسون العقال واليشماغ ويضعون علامة الشرطة على العقال، وتم تزويد كل منهم برقم معدني يرمز له ويحمله على صدره. وغالباً ما كان يتم تعيين الشرطة المتقاعدين بوظيفة حارس، بسبب خبرتهم ومعرفتهم الأمنية والقدرة على استخدام السلاح ان تطلب الأمر، وكان لايقبل تعيين حارس إلا إذا تجاوز الأربعين من العمر.

              


اليشماغ والعقال وعلامة الشرطة والدونكي:
كان الحارس الليلي رمزاً يمثل الامن والامان والطمأنينة في نفوس الناس المتعبة من عناء اعمال النهار وتبعاته لتنام مسترخية مطمئنة.وعندما كنا صغارا، وفي ليالي الشتاء الباردة المظلمة، كنا نجلس في (رازونة شباك) البيت المطل على الشارع العام لنتطلع على مرور الحارس الليلي وهو بملابسه الخاكية، يعتمر في راسه اليشماغ والعقال المعلق عليه النجمة الخماسية النحاسية (علامة الشرطة)، وعلى صدره شارة مكتوب عليها رقمه، ويعلق البندقية الانكليزية على كتفه وبيده الدونكي الخشبي ويمسك بيده الاخرى الصافرة ويضع في حزامه حربة، مع علبة جلدية صغيرة يضع فيها الاطلاقات، وهو يمضي في الشارع يتلفت يمينا ويساراً يراقب المحلة ويتاكد من اقفال ابواب البيوت والدكاكين ويرد بصفارته على صوت صافرة دورية افراد الشرطة المكلفة بمراقبة الحراس الأهليين. وفي صبيحة أول يوم من ايام عيدي الفطر والأضحى، كنا نشاهد الجرخجي وهو يلف على  بيوت المحلة مهنئاً بالعيد منتظراً ماتجود به الأيادي من عيدية.


للحارس مواقف انسانية:
وللحارس الليلي مواقف انسانية اخرى غير الحراسة، حيث كنا نراه  يهرع الى مساعدة ابناء المحلة اثناء تعرضهم ليلاً الى الحوادث كالحريق او المرض .. ومازالت ذاكرتنا تختزن الكثير من حكايات جرخجي المحلة وما يواجهه من احداث وطرائف، فالحارس كان يستفسر من أصحاب البيت إن وجدهم متأخرين في الرقود أو شاهد أضوية الدار مفتوحة بعد منتصف الليل.

   

شروط تعيين الحارس الليلي:
في حديث صحفي تحدث السيد عباس وهو أحد الحراس  الليليين القدامى في بغداد عن ذكرياته في الحراسة الليلية يقول :  (عندما دخلت بغداد لاول مرة قادما من قضاء الحي وعلى وجه التقريب في عام 1926 فقد استهوتني مهنة الحراسة الليلية في حينها كمكسب اضافي لما أعمله نهاراً، رغم ما تتطلبه من مشقة وسهر، فقدمت عريضة الى مدير الحراس في حينها المدعو (ابو زكي) اطلب فيها تعينني كحارس ليلي.


وكانت الموافقة في حينها تتطلب الشروط التالية:
أ- السلامة من الامراض والعاهات بموجب تقرير طبي رسمي.
ب- حسن السلوك والسمعة وعدم المحكومية بجناية او جنحة مخلة بالشرف.
ج- شهادة الجنسية العراقية بالولادة او التجنيس بها بعد مرور خمس سنوات.
د- عدم خضوعه لخدمة العلم.
هـ- يفضل في التعيين من سبقت خدمته في قوات الشرطة والجيش او حراسة السجون لان هؤلاء لهم كفاءة في استعمال السلاح الناري.

 

يوم كان راتب الجرخجي (دينار و350 فلس) شهرياً:
 يقول السيد عباس: (تمت الموافقة على عريضتي  لتوفر الشروط اعلاه وارتبطت في مركز الشرطة (القلّغ) القسم الثالث في ابي سيفين وعينت في محلة تدعى (كنكيجة) وموقعها حاليا في المنطقة التي تلي الشورجة حاليا وباستقامة سوق الشورجة بعد شارع الخلفاء (الجمهورية سابقا) وحتى شارع الكفاح (غازي سابقا) وكانت حدود منطقة حراستي ابتداء من نهاية سوق الشورجة مرورا بالعكد الذي يمر بمنطقة كنكيجة الى ابي سيفين، وحتى علوة شيخ عمر (قديما) وكان الاجر اليومي للحارس الليلي في حينها (45 فلسا) (اي براتب شهري لايتجاوز الدينار والثلاثمائة وخمسين فلسا، والذي نتسلمه من ابي زكي وكان يجلس في غرفة خاصة له في القشلة وكان يوزع الرواتب على حراس القسم الثالث كل رأس شهر.
وفي بداية عملي تسلمت من عريف الشرطة شارة الشرطة (النجمة الخماسية) وكان يضعها البعض على العقال والبعض الاخر على الصدر كما تسلمت صافرة وقطعة نحاسية دائرية برقم (79) حيث يخصص بكل حارس رقما، و(تفكة) قديمة من النوع القديم ذات الزناد الشلخ (الترباس) ومن البنادق التركية القديمة او الانكليزية مع خمسة اطلاقات واخبرني بأن الحارس الليلي المناوب هو موسى الساعدي حيث استلم منه واجب الحراسة بعد الساعة الثانية عشر ليلا وفي الساعة السادسة صباحا اذا كنت (مصبحجي) ويستلم هو مني بدوره التفكة والعتاد اذا كنت اقوم بواجب الحراسة (اخشمجي) وعندما ينتهي دور المصبحجي يتوجب عليه تسليم البندقية والعتاد الى مأمور المشجب في مخفر الشرطة  ويعطي تمام خبر بأن منطقته ليس فيها حادث وعلى هذا الاساس يتبادل الحارسان المناوبان الواجب مرة صباحا ومرة مساء).
اما بخصوص كيفية اجراء الحراسة في المنطقة، يقول السيد عباس (تبدأ الحراسة من الوقت المخصص وذلك بالتجول في المنطقة مع ارتداء الملابس الخاكي (حيث يتوجب على كل حارس شراء بنطلون خاكي مع سترة ذات ازرار نحاسية وعلى حسابه الخاص حيث ان سعر البنطلون في حينها (50 فلس) والسترة كذلك وعليه ان يشتري (لابجين) او (بسطال) (حذاء) مع (جراز) وهو عبارة عن عصا رفيعة من جانب بها حلقة جلدية لمسكها منها بيده، وجانبه الاخر اغلظ قليلا مرصع بمجموعة من المسامير الصفراء العريضة الرأس.

                     

وعلى الحارس ان يشتري كذلك معطفا خاكي او بلون اخر شتاء، واثناء تجواله يضع خنجراً (أو حربة بندقية) في حزامه مع علبة جلدية صغيرة يضع الاطلاقات الخمسة فيها وان يعلق البندقية على كتفه وان يضع الصافرة في جيب سترته بقيطان يعلق في كتفه الايمن وعليه مراقبة ابواب المحلة وان ينبه اصحابها في حالة بقائها مفتوحة ليلا وكذلك ينبه على الدكاكين غير المقفلة، وان يقوم بين حين واخر بالصغير بصافرته عندما يسمع صافرة الدورية التي تخصص من افراد الشرطة لمراقبة الحراس والمؤلفة من عريف ونفر من الشرطة وللتأكد من انجازهم واجباتهم او الرد على صافرة مفتش الحراس المدعو (شلال) مع حارسين من تواجدهم في مناطقهم المخصصين للحراسة فيها).


           


بندقية الچرخچي في القلغ:
 وأضاف السيد عباس:

(كما كانت تحفظ اسلحة الحراس نهارا في مشجب السلاح في المركز (القلّغ) او المخفر التابعين اليه وتوزع عليهم قبل غروب الشمس من قبل عريف دوريات المركز او العريف الخفر ويفتش بدوره على الاسلحة والعتاد قبل ارسالهم الى الواجبات المعنية لهم، ويدون في سجل المركز اليومي اسماء الذين حضروا منهم وتسلموا سلاحهم وعتادهم كما يشرح في السجل الغائبين ثم يتسلم العريف نفسه او من يخلفه تلك الاسلحة بعد انتهاء الحراس من واجباتهم صباحاً، مع تدوين ما قد لحق بالسلاح او العتاد من ضرر أو نقص في السجل المذكور واجراء التحقيق حالا مع الحارس الذي يسبب ضرراً او عارضاً بسلاحه اونقص بعتاده).

           


وصايا للحراس:
كانت هناك وصايا  ضرورية يتوجب مراعاتها من قبل الحراس الليليين وهي:
أ- عدم اخذ الاسلحة الى دورهم او الى محل آخر خارج حدود اختصاص عملهم.
ب- لايجوز تسليم السلاح لغيرهم لايصاله الى المركز.
ج- عدم انابة اقاربهم او اصدقائهم او معارفهم في الحراسة وكذلك عدم قيامهم بالحراسة عوضا عن غيرهم من الحراس المرضى او الغائبين بدو ن علم مأمور المركز او موافقته.


   


حكايته مع الطنطل (ابو مرة) !!
وعن ذكرياته عن الحوادث والمفارقات التي حدثت له اثناء قيامه بواجبه كحارس ليلى تحدث السيد عباس قائلا:

بعد مضي اسبوع من استلامي واجب الحراسة في (كنكيجة) انذرني الحارس موسى الساعدي بأن منطقة (كنكيجة) مسكونة، وان فيها طنطل ويتوجب على الحذر منه. وفعلا بعد يوم او يومين كانت المنطقة مظلمة لانقطاع النور فيها وعند مروري ببيت مهجور بعد منتصف الليل سمعت صيحة عالية مرتبكة (تمام) وهذه الكلمة يقولها المفتش عادة للدورية التي تلتقي بالحارس، ويكون الجواب تمام فأجبته بصوت عال (تمام) فما كان الاّ ان (زيّگني بزيگ) قوي، هنا تبادر لي ان ذلك صادر من الطنطل لذا استحضرت في ذهني ما يتوجب عمله من رباطة جأش واشعال نور فقمت رأسا باخراج الخنجر مهددا اياه، ثم قلت له بلهجة قوية:

(عرفتك انت الممضوخ، وعندي ملح سأنثره عليك.. ان كنت شجاع فاظهر لي لانني تمنيت الالتقاء بك)!

ثم بدأتُ باشعال عيدان الكبريت لاضاءة المنطقة ومعرفة مايدور حولي وتجنبا لما كان معروفا في ذلك بأن الطنطل يباغت خصمه ويركب على اكتافه يطارد عليه حتى ينهكه تعبا ثم يتركه، وبعد فترة من الوقت لم اسمع ولم ارَ شيئا فاردفت قائلا له:

ها يويل إجبنت لعد انت مو گدها (أي لست شجاعا كفوءا لي)..

وبعد مرور عشر دقائق تقريبا تركت المنطقة باتجاه ابي سيفين وبعد حين التقيت بالحارس موسى الساعدي الذي فاجأني بقوله عاتبا:

ها عباس صار مدة ادگلك صافرة وماكو جواب شنو قصتك؟

وفكرت قليلا في الاجابة فاردف ولم ينتظر اجابتي قائلا:

ها أبو خضير اخاف طلعلك ابو مرة؟؟ وكان (الطنطل) يكنى بأبي مرة والتهيت وياه؟!، فاجبته هذا الصار وهذا اللي جره!!

      

اليهود العراقيون والحراس الليليين:
يروي الجرخجي القديم السيد عباس شيئا من ذكرياته، فيقول:

(عندما تكون نوبتي من الثانية عشر ليلا وحتى الساعة السادسة صباحا كنت اصادف وانا في طريق عودتي في الساعة الخامسة او الخامسة والنصف يهودي كبير السن يدعى ابو نسيم وهو يخرج من الكنيس الخاص بهم في محلة (كنكيجة) ليمر على بيوت اليهود يطرقها بيتاً بيتاً، وهو يهيب بالمواضبين على الصلاة منهم وهو يسميهم بأسمائهم الواحد بعد الاخر وهو يصبح: شاؤول.. خضوري.. انور.. ابو منشي.. لاوي اقعد.. اقعد..

ثم يستدير الى الجانب الاخر من العكد ليطرق بيوتا اخرى وهو يصيح: حسقيل.. ابو الياهو.. شميل.. ساسون..موشى.. زعرور.. اقعد صلاة الصبح فليحة.


قصة الحرامي أبو الزيگ!!!
ومن الروايات الطريفة التي يرويها الچرخچي سيد عباس، متحدثا عن واحدة من الاحداث التي وقعت لاحد الحراس الليليين مع الحرامية في زمانه قائلا: (سطا احد الحرامية في بغداد على احد البيوت في محلة من محلات بغداد وفي ليلة من ليالي الصيف التي ينام فيها الناس على السطوح استيقظ اهل البيت على صوت وحركة داخل المنزل.. وعندما نزلوا من السطح ولما أحس بهم الحرامي .. هرب مسرعا الى الدربونة، وهنا اخذ أهل البيت بالصياح ..مستنجدين بالجيران: (حرامي.. الزمه.. حرامي)، وهنا استيقظ الجيران واطلوا من سطوحهم على الطريق ليشاهدوا الحرامي وهو يركض مذعوراً، بدأت النساء والاطفال بالصراخ والعياط والولولة.. (يبوه.. يبوه.. حرامي انزول نزّلك)!! وفي هذه الاثناء تناول احد الجيران (تنكة) من على (التيغة) وقذف بها على الحرامي، وعندما اخطأته احدثت صوتا عاليا بارتطامها بالارض كصوت المفرقعات، فما كان من الحرامي الاّ ان يلتفت صوب الشخص الذي ضربه (بالتنكة) و(جابه بزيگ قوي) وعندما سمع اهل الدربونة ذلك تحول صياحهم وعياطهم الى (ضحك) في وسط الليل الامر الذي جلب انتباه (الچرخچي) من بعيد فهرع ليلقي القبض على الحرامي ويضربه ضرباً موجعاً بالجراز ويقتاده الى المركز (القلّغ).. ويشفي غليل الناس الذين فزّوا مفزوعين من نومهم تلك الليلة من الحرامي أبو زيك!!..

     


ومن تتذكر من زملائك في مهنة الچرخچية؟
أجاب السيد عباس قائلا: (لقد كان ذلك وقتا طيبا عشناه مع مجموعة خيرة من اخواننا الحراس الليليين الذين اذكر منهم سلمان حسين بكال الذي كانت منطقة حراسة في السنك وجاسم الخباز (وهو خباز في النهار ومن اهل الفضل) وجوي الشمري اللذين كانا يحرسان في شارع الرشيد سوية.

مواقف إنسانية للچرخچية:
وللحارس الليلي ـ الچرخچي ـ مواقف انسانية اخرى غير الحراسة ،فتراه يهرع الى مساعدة ابناء المحلة اثناء تعرضهم ليلاً الى الحوادث كالحريق او المرض .. ومازالت الذاكرة تختزن الكثير من حكايات جرخجي المحلة وما يواجهه من احداث وطرائف وهو يستقبل ليلاً العائدين من السكارى الذين تلفظهم آخر الليل الملاهي، وباصواتهم العالية غير المهذبة واغانيهم وقهقهاتهم السمجة، حيث يتولى الجرخجي تسليمهم الى عوائلهم.
لقد كان الحارس الليلي رمزاً يمثل الامن ويبعث الامان والطمأنينة في نفوس الناس المتعبة من عناء أعمال النهار وتبعاته لتنام مسترخية مطمئنة.

               

مهنة مباركة:
الحراسة الليلية مهنة لها شرفها وقدسيتها، وقد بارك الرسول صلى الله عليه وسلم بمن يسهر لحراسة أمن الناس، وهي إمتداد لمهنة (العسس) في عهد الخلفاء الراشدين، وهم جند يعسون بالليل (وقت العسس أي شدة ظلام الليل)، ويطوفون على الناس لحراستهم أثناء نومهم وراحتهم.


قانون تنظيم الحراس الليليين:
يعود تاريخ تاسيس قوة الحراس الليليين، إلى عهد الاحتلال البريطاني حيث تم استحداثها مع تشكيلات الشرطة، وقد سماهم قانون اصول المحاكمات الجزائية البغدادي الصادر في سنة 1918 بالخفراء العموميين. واستمر ارتباط الحراس الليليين بمراكز الشرطة.


مقاولو چرخچية التسعينات أفسدوا سمعة المهنة!
وفي التسعينات تم تشكيل لجنة لوضع قانون للحراس الأهليين (هكذا تمت تسميتهم الجديدة بدلا من الليليين) ينظم شؤون الحراسات الأهلية، من خلال مبلغ معين من المال تدفعه العائلة عن الحراسة المنزلية، وتضاف نسبة أخرى عند وجود سيارة لدى العائلة، وتؤخذ نسبة أكبر من أصحاب المحلات والمصالح التجارية من بقالين وأصحاب مهن، وكان يفترض أن تذهب الأموال إلى محافظة بغداد شعبة الحراس، لتقوم بإعادة توزيعها كرواتب على الحراس، أو تدفع لرئيس الحراس ليقوم بتوزيعها على من يتبعون له، ولكن هذه التجربة الجديدة صادفها الكثير من الخلل والفساد، حيث أنيطت مهمة (رئيس الحراس) ببعض المتنفذين حزبياً، وكانوا يعينون أقاربهم من غير الملتزمين، ورغم ان القانون نص على مسائلة رئيس الحراس عما يقع ضمن منطقته من سرقات، إلا أن التجربة تلكأت وارتدت الى الوراء.. وانتهت تجربة الحراس الاهليين بعد أن دخل للمهنة المنتفعون والمستغلون وصارت مجالا للتكسب والفساد ولم يعد الجرخجي كما كان حارساً وفياً مخلصاً كما في عقود مضت.
وصار المواطن المسكين لا يرى (الحراس) الا صبيحة يوم العيد، ممن لم يشاهدهم يوما قبلها، وهم يبتزون الناس بطلب العيديات وياويل من يمتنع!!.


قصة حقيقية عن بساطة الچرخچي وطيبته:

أتذكر حادثة تدلل على بساطة الچرخچي أيام زمان، فقد كان في إحدى ليالي شتاء عام 1962 مجموعة من الشباب يوزعون نشرات سياسية مضادة للحكومة موضوعة داخل أظرف رسائل، على الدور السكنية في إحدى محلات الكرخ، بعد منتصف الليل، فوقع أحدهم في قبضة (چرخچي) فسأل الچرخچي هذا الشاب:

ماذا تفعل في هذا الوقت؟

فأجابه بإرتباك: (عمي هذا بريد مال الناس، وإحنة مانلحك إنوزع البريد بالنهار فنجي إنوزعه بالليل!!)،،

فما كان من الجرخجي البسيط إلا أن قال له: (بارك الله بيكم اهل البريد داوم وليدي وزع بريدك!!!).
رحم الله ايام زمان وجرخجية ايام زمان


              
المصادر:
·ذكريات شخصية من أيام الكرخ في الخمسينات والستينات، والإطلاع على وثائق حكومية تخص الموضوع بحكم العمل
·دراسة شخصية للكاتب عن الحراس الليليين وتاريخهم وأحوالهم قدمت عام 1993 بتكليف من وزارة الداخلية.
·محمد مجيد الدليمي: "الحارس الليلي (الجرخجي) رمز الأمان  والطمأنينة في نفوس الناس".
·محمد اسماعيل: "حارس الظلام الذي يسامر الأشباح": جريدة الصباح البغدادية.
·محمد الحسيني: "صفيرهُ في الليل يطمئن القلوب - الجرخجي.. صمام امان افتقدته البيوتات البغدادية ليلا"،  دار الدستور

       

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1291 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع