حوار في حدائق الگاردينيا مع الفريق المتقاعد الدكتور سعد خضير خلف العبيدي
مسيرة جيش العراق طويلة، وإن جزأها القدر جزأين لمرحلتين زمنيتين، ترك طوال زمنها الأول ضباط النخبة أثراً لا تمحوه السنون،
فعُرِفَ اللواء عمر علي بالشجاعة ومثله الفريق سعيد حمو في الحروب الجبلية،
واللواء الركن وليد سيرت في الضبط وسعة المعرفة واللواء الركن إبراهيم فيصل الأنصاري في القيادة والحزم، جيل أو أجيال عند مراجعة أعمالهم وإرثهم المقروء والمسموع تزداد القناعة بيننا أبناء ذاك الجيل وبعض من هذا الجيل أنهم نخبة، وتنفتح حواسنا هائمة تفتش عن من يكمل مشوار النخبة من بعدهم .
لكن انتاج النخبة لا يمكن حصوله في أوقات التردي والذبول، وقد حصل الذبول في بلادي بعد عام ٢٠٠٣ حد الاقتراب من اليباس، ومع هذا هناك استثناءات، ومن بين هذه الاستثناءات الفريق المتقاعد الدكتور سعد خضير العبيدي.
(ضباط الفوج الثالث لواء/١٥ عام ١٩٦٩ ويظهر فيها الفريق الدكتور سعد برتبة ملازم ومحاوره اللواء الركن فؤاد برتبة ملازم )
ضابط من بين النخبة، بدأ خطواته الأولى ملازم عام ١٩٦٦بدورة الكلية العسكرية ٤٣ ،درس اللغة وعلم النفس، برع به تخصصاً يحسب له الأول عسكرياً. أسس جهد الحرب النفسية، أداره طوال سني الحرب بكفاءة حتى اقترنت التسمية بشخصه، ويوم تركه توقف عن النمو حتى غاب تماماً عن ذاك الجيش الذي كان ينمو. عاود مشواره في الجيش الجديد ومع كل الصعاب والعقبات واليباس ترك بعض البصمات لا تنسي.
ألف أكثر من عشرين كتاباً في المجالات العسكرية وعلم النفس والشؤون السياسة. قدم أربع روايات من أكثر الروايات واقعية وتمثيلاً لحال العراق الحديث.
عرفته خمس وخمسون عاماً كان طوالها مثابراً، عملياً، ناقداً بحيادية لم أحس يوماً في المشاعر طائفية، قرأت جل كتبه، أكملت بالأمس قراءة آخر اصداراته (جمجمة بابل)، متعة مزاوجة بين السرد التاريخي وبين الحبكة الروائية لقرية في بابل جاء منها، أحبها أهداها أثمن هدية كتاب عنها، استوقفني الكتاب كثيراً دفعني الى إجراء حوار معه من جيل النخبة. حوار لمجلتنا الغراء (الگاردينيا )عبر الأثير حيث أقيم أنا في السويد ويتنقل هو بين بغداد ولندن.
س١- أهلا بك دكتور سعد في الگاردينيا المجلة الجامعة، أنقل لك مطلباً لشريحة واسعة من قرائها يودون التعرف على مسيرة لك اختلطت في وعائها الفسيح العسكرية باللغات والأدب بالطيران، والبحث بالرواية، مزيجاً من نوع خاص قد يتوه في جوانبها القارىء، وكي لا يتوه أسأل حقاً من أنت؟.
ج- قد لا يصدق القارئ أني وبعد هذا العمر الطويل نسبياً ما زلت أفتش عن ذاتي، أجهد نفسي لأعرفها وأحقق قدراً من ذاتي، دخلت الكلية العسكرية عام ١٩٦٤مضطراً لعدم القدرة مالياً لإكمال الدراسة الجامعية، ومع هذا كانت مسيرتي العسكرية أحسبها جيدة بمعايير ذاك الزمان، خلالها خصصت جزءاً من جهدي لدراسة الأدب الإنجليزي، لكنه لم يحقق ذاتي، فتحولت الى علم النفس فكان هو المرام، وكان الجيش محتاجاً هذا التخصص فأكملت دراسته بعثة الى مصر وتفرغاً في جامعة بغداد.استهواني الطيران بداية شبابي، لم أوفق في القبول بمجاله، فدرسته إبان الحرب وانا في عمر الوسط، وحصلت على إجازة الطيران ، عملت باحثاً واستاذاً في الجامعات وكاتباً في الصحافة، ولو دار الزمن دورته عكس الحقائق الفيزيائية للكون وعاد بنا الى البداية أقول أن الخدمة العسكرية هي الأسمى والأجدر لتحقيق الذات. عسكرية ستينات القرن الماضي وما قبلها من سنوات.
س٢- قبل مغادرة موضوع علم النفس الذي استهواك وعملت فيه اخصائيا نفسياً داخل الجيش وخارجه ومؤلفاً في علم النفس العسكري والسياسي، يود القارئ الاستفسار: لم استهواك هذا التخصص وانت الضابط الذي عملت في الوحدات الفعلية وفي المقر العام لفترة طويلة وبمستوى أداء مميز؟
ج- علم النفس هو علم الحياة، يدخل في كل مجالات الحياة أدلني عليه بالصدفة ضابط (موسى الحسيني) جيئ به مخفورا بتهمة الانتماء الى تنظيم سياسي للمرحوم (فؤاد الركابي ) محظور في الجيش عام ١٩٧٠، وكنت ضابط الخفر، وقد تشكلت لجنة تحقيقية معه كنت عضوا فيها، تعاملت معه باحترام كضابط طوال الخفارة وأيام التحقيق، وأصبحنا من بعد خروجه أصدقاء، نلتقي بين الحين والحين، وفي أحد اللقاءات أهداني كتاباً عن علم النفس العام قال اقرأه، وكان ذاك أول كتاب في علم النفس قرأته، ومنه بدأ اهتمامي، وفي دورة لآمري سريا استطلاع في الجيش المصري عام ١٩٧٤ مررت على جامعة عين شمس اتقصى دراسة الماجستير في علم النفس، قالوا يمكنك التقديم على الدبلوم العام ومن بعدها الماجستير، فقدمت وحصلت على القبول، وعدت من الدورة الى دائرتي في وزارة الدفاع، راجعت مديري العميد خليل العزاوي آنذاك، كان ضابطاً متفهما ومخلصاً للجيش، قلت أود دراسة علم النفس، فرد دون تفكير، نحن بحاجة الى هذا الاختصاص، وأنا موافق. ثم خرج معي الى مدير مكتبه العميد فاروق قال الآن تعد كتاب الترشيح لإيفاد سعد الى مصر لدراسة علم النفس، وبعد أسبوع وجدت نفسي على متن الطائرة العراقية ذاهبا الى مصر للدراسة في أعرق جامعاتها عين شمس، ومن هناك بدأت الحكاية.
س ٣- لقد كتبت حسب اطلاعي ما يزيد عن عشرون كتاباً في مجالات عدة قاسمها المشترك علم النفس يود القارئ معي التعرف على هذه المؤلفات؟.
ج- لقد دخلت مجال الكتابة متأخراً جداً، لأني ولجت عالم القراءة متأخراً، قليل من سكان القرى يقرؤون كتباً غير كتب الدراسة الا بعد انتهائها، وقليل منهم يحتكمون على كتاب خارجي أو رواية الا بعد التخرج، ثم أنهم حتى بعد اكمال دراساتهم الثانوية والجامعية، يكونون مشغولون أو أغلبهم مشغولين بإشباع حاجاتهم الإنسانية الغريزية التي لم تشبعها القرية، فتجد بعضهم يغطون في دنيا لا وقت فيها للقراءة، كنت في البداية منهم. أول كتاب قرأته بعد تخرجي من الكلية العسكرية عام ١٩٦٦، كان استعارة من ابن عم لي معلم يكبرني المرحوم رحيم كريم شهاب، وزدت عيار القراءة ببطيء لا ينتج كاتب، الا بعد مرحلة الدراسة الجامعية للماجستير والدكتوراه، من بعدها كثرت القراءة وزادت المعرفة العامة والتخصصية فكتبت أول كتاب نوايا وحروب، ومن بعده آخر أزمة المجتمع العراقي عام ٢٠٠٣ نشرتهما قبل الاحتلال بأشهر، وبعد الاحتلال كتبت عن الوضع السياسي للبلاد دوامات المحنة، وحصاد العاصفة بجزأين، ثم عدت الى المجال العسكري، كتبت كتباً عن المعنويات والمخالفة والضبط والشجاعة، والضغوط النفسية والاجهاد القتالي، وبعد الشعور بإفراغ ما في الجعبة من معرفة نفسية عسكرية، حولت اتجاه الكتابة نحو الرواية فكانت (جراح الغابة) رواية تحكي بؤس الطائفية، و(تلك هي) تتناول موضوع الانتفاضة الشعبانية، و(حفل رئاسي) عن مجزرة قاعة الخلد، وأخرى (تيه الجنوب)، تحسب الجزء الثاني من ثنائية حفل رئاسي، وكتبت أخيراً جمجمة بابل سيرة القرية الجمجمة، ومن قبله كتاب باللغة العامية حچاية التنگال (حكاية وطن هدمة الأبناء) وهناك الجزء الثاني منه سيصدر في الايام القليلة القادمة (سيرة وطن يحترق)، ولي كتاب جاهز للطبع (نقاط اختلاف) عبارة عن سيرة ذاتية، ما زلت أنتظر الوقت المناسب لنشره، لما يحتويه من تفاصيل عن العمل والحياة قد لا ترضي البعض.
الصورة عام ١٩٦٩ - الملازم سعد العبيدي والملازم فؤاد حسين والشهداء الملازم جدوع خلف و الملازم حاتم عبدالامير الذين استشهدوا خلال الحرب العراقية الايرانيه عندما كانوا برتبة مقدم رحمهم الله
س٤ -لقد خدمت في ذاك الجيش خدمة طويلة انتهت بالسجن تهمة حسبت سياسية، وأكملت الخدمة في هذا الجيش عودة سياسية، لفترة لو جمعت تحسب بعدد السنين نصف قرن، وهي خدمة طويلة بخبرات غنية، تؤهلك حتماً لتقديم مقارنة بين الجيشين في كافة المناحي. هل لك أن تقدم لنا صورة مقارنة تفيد القارئ؟.
ج- فاتني التنويه عن كتاب نشرتهُ عام ٢٠١٣عن الجيش السابق بعنون وأد البطل (نهاية جيش وملحمة وطن)، قدمت فيه رؤية مفصلة عن واقع ذلك الجيش منذ تأسيسه عام ١٩٢١ حتى مقتله يوم ٩/٤/٢٠٠٣، محصلته: أن محاولات الضباط الأوائل لتأسيسه جيشاً مهنياً كانت صحيحة، وقد نجحوا في جعله بالعقود الثلاثة ونصف الأولى من عمره جيشاً وطنياً مهنياً كفؤا ونجحوا في تحديد أهدافه وعقيدته دفاعاً عن الوطن، لكن مسيرته لا تخلو من أخطاء أسهمت في مقتله، فدخول الضباط عالم السياسة وتبنيهم نهجاً ثورياً للانقلاب على الدولة منذ العام (١٩٣٦) بكر صدقي و(١٩٤١) حركة مايس و (١٩٥٨) عبد الكريم قاسم و(١٩٦٣) البعثيين و١٨ تشرن (١٩٦٣)، عبد السلام، وأخيراً (١٩٦٨) البعثيين الثانية لتغيير أنظمة الحكم كان خطأ، والخطأ الأكبر تسييس الجيش وجعله عقائدياً، مجموعة أخطاء حسب ظني أجهزت عليه في مواجهة لم يكن مستعداً لها.
أما الجيش الجديد بعد عام (٢٠٠٣) فكانت الأخطاء تلازمه منذ البداية، إذ تشكلت وحدات قبل القيادات وزجت بمعركة الإرهاب قبل اكتمال تدريبها، توزعت المناصب خطأ وبيعت العليا منها خطأ، وتضخمت الرتب بشكل خطأ، إذ كان في عام ٢٠١٤ على سبيل المثال اقترب عدد الضابط برتبة فريق من المئتي ضابط، عدد يزيد عن ملاك كل جيوش العالم مجتمعة من رتبة الفريق. كان نظام الترقية فوضوي على المزاج وكانت المهنية ليست بالمستوى المطلوب، والأداء أقل مما يجب، والمشاعر الوطنية والمعنوية يعتريها التصدع، وكانت السياسة قد نفذت الى تشكيلاته مستويات زادت عن ذي قبل أضعاف، إذ كان في ذاك الزمان حزب واحد وأصبح في هذا الزمان أحزاب وكتل ومليشيات لا تحصى.
وللتاريخ أقول قولاً بحق الجيش في زمنين قد لا يرضي البعض قوامه: (أن السياسة في كلا الزمنين أضرت به كثيراً، حرفته عن المسار الصحيح، ظلمته جيشاً كان بالإمكان أن يكون أفضل).
س٥- أُقْحِمَ الجيش في حروب وأتون صراعات داخلية وخارجية، خلفت تلك الحروب جيشاً من الشهداء والجرحى وجيشاً من الأسرى والأرامل والمعوقين وأضرت باقتصاد البلاد. ماهي من وجهة نظرك سبل التعويض والخلاص لإعادة الجيش الى جادة الطريق الصحيح جيشاً وطنياً لأهل العراق؟.
ج -حسب ظني وعموم الباحثين المنصفين في العلوم العسكرية والسياسة والاجتماعية، أن الحروب التي خاضها العراق كان يمكن تفاديها. كان في العام ١٩٧٩ ضبابية في العلاقة بين العراق وايران، وضبابية على الحدود وتشنج بين قيادة البلدين، ومع هذا لم تصل الى مستوى الاضطراب. أخطأ البلدان في دفعها باتجاه الاضطراب والتصادم عسكرياً ودفعوا معاً ثمن السنوات الثمان خسائر في الأرواح والأموال والنمو الحضاري، والخسارة الأكبر وهمُ الانتصار الذي توهماه معاً على الرغم من أنهما خاسران... وهمٌ دفع قيادة العراق آنذاك غير العارفة بالتوازنات والنفوذ في الدخول بحرب أخرى لاحتلال الكويت أساسها الانفعال الموقفي غير العقلاني، قضت على بقايا الضبط والمعنويات والمشاعر الوطنية في الجيش ودفعته لما يتعلق بالقدرات أن يرتد خلف جيوش المنطقة جميعها، جعلته جيشاً واهناً ضعيفاً تعداده يزيد عن ستون فرقة وفيلقين للحرس الجمهوري ومعه جيش شعبي وآخر لفدائيو صدام، لم يصمد وباقي الجيوش الساندة في الحرب الأخيرة مع الحلفاء عام ٢٠٠٣ سوى أيام، ولم يقاتل منها الا القليل من الوحدات، تسرب المنتسبون، تفكك الجيش، غاب عن الوجود.
لقد تكررت بعض الأخطاء في هذا الجيش الجديد، ففي معارك الموصل عام ٢٠١٤ خسرت قيادة عمليات نينوى من الجيش معركة على الرغم من تفوقها على العدو الداعشي بنسبة تصل الى (٢٠ – ١) تسرب منتسبوها، وتفككت وحداتهاوالقيادات. هناك أخطاء في قيادة هذا الجيش إذ لم تباشر الحكومات في التعامل معها بشكل وطني صحيح، فلا أعتقد سيعود جيشاً وطنياً للدولة قادراً على حماية الديمقراطية الفتية،ومن بين هذه الأخطاء أو أهمها: الانحياز الطائفي، والتدخل المليشياتي، والارتزاق، والفساد، وضعف الإدارة، والتضخم الرتبي،والفضائيين، والبطالة القتالية المقنعة. والى أن يتم التعامل مع هذه الأخطاء بشكل صحيح سيبقى الجيش ضعيفاً وسيطول أمد الحرب وتتضرر البلاد.
س ٦-لقد عملت في السياسة بعثياً في ذلك الزمان، وعملت معارضاً لنظام صدام، واشتغلت في السياسة لهذا الزمان بصيغة تقترب من صيغة المعارضة لكنك لم تبلغ المستويات العليا في سلم السياسة، وكأن في الأمر تناقض يثير الانتباه، كيف وما هو السبب؟.
ج- نعم لقد انتميت الى حزب البعث أيام كنت طالباً في الدراسة الثانوية، لمّا كانت شعارات البعث بعروبتها وعدالتها جادة تغوي الشباب، لكني وبعد مرحلة النضج أدركت بعض الأخطاء، فتعطل الحماس دافعاً للتقدم حزبياً، هنا وفي هذا العمر استطيع القول أن شخصيتي العسكرية العلمية كانت لا تتوافق مع الشخصية السياسية، فنمت العسكرية العلمية وتوقفت السياسية حتى أصبح الفرق في الدرجة الحزبية بيني وبين جيلي ومن بعدي قبل حبسي وفصلي من الحزب عام (١٩٩١) يعد شاسعاً. واستطيع القول أيضاً أن خطأ الانتماء الى الحزب أنتج خطأ في الانتماء السياسي الى المعارضة، إذ أسهمت مع توفيق الياسري وآخرين بتأسيس الائتلاف الوطني العراقي في ليبيا ومن بعد في لندن، وتبين فيما بعد الاحتلال أن المطلوب الى العراق وجهة أخرى غير الوجهة التي كنا نفكر بها ونسير على هداها في بناء الدولة المدنية لعراق ديمقراطي موحد. وتبين قلة خبرة بعض قيادات الائتلاف لذا فشلنا وفشل الائتلاف، وبفشله تنحيت عن السياسة لأتفرغ الى الكتابة.
وهنا تجدر الإشارة الى انتقادات توجه بين الحين والآخر على عملي في ذاك الجيش وعودة للعمل في هذا الجيش وكأنه مثلبة، لكنها في الواقع ليست مثلبة إذ أن الأخصائي النفسي مثل الطبيب، لا تجيز له أخلاقيات المهنة الامتناع عن تقديم العلاج حتى لعدوه أثناء الحرب، فكان ذاك الجيش محتاجاً للتخصص أعطيته كل ما أملك من المعرفة، ويوم احتاج هذا الجيش الى التخصص قدمت له كل المعرفة، وما زلت مستعداً لتقديمها مشورة لمن يحتاجها وفي الوقت الذي يريد على الرغم من مواقفي وارائي التي تحسب بالضد في بعض الأحيان. علماً ان اختلاف الرأي لا يحول دون تقديم المعرفة لمن يحتاجها مؤسسة كانت أو أفراداً، كما ان الجيش الذي دفع كلفة المعرفة النفسية التخصصية التي أمتلكها شهادة عليا من قبل أربعين عاماً تقتضي الوفاء له ولامتداداته، أية كانت النتائج وأي كانت الظروف.
س-٧ قراءتي لكتبك ومقالاتك ومعرفتي القديمة بك تؤشر انتماءك القوي الى الوطن والمدينة والقرية، ومع هذا تركتهم الى ديار الغربة، لتعود اليهم بين الحين والحين، عودة لا تروي الظمأ الحسي بالوطن، كيف تفسر هذا التناقض الفكري. ؟
ج- لم تكن الغربة خياراً طوعياً، إذ لو عدنا بالزمن الى عام ١٩٩٢ وبعد خروجي من السجن، بتهمة صنفت في ذلك الوقت اهانة القوات المسلحة عن تقرير كتبه عني واللواء منذر عبد الرحمن ضابط رفيق حزبي برتبة عميد، حل التضييق والقلق الأمني زاد الأمر سوءاً وقع الحصار وحلول الضيق المعيشي، فاندفعت مثل عديد من الأساتذة والتدريسيين التوجه الى ليبيا، للعمل حيث لا أجيد غير البحث والتدريس، وفي ليبيا دخلت في عالم السياسة المعارضة الذي لا يمكن لأصحابه التفكير بالعودة الى بلاد يُحكم فيها بالموت على قائل نكتة، ولما توفر أمن العودة بعد ٢٠٠٣، عدت بإصرار البقاء، أرجعت بيتي ورتبت أوضاعي، وحصلت على وظيفة تعينني في العيش، واستمريت هكذا صامداً الى سن الإحالة على التقاعد عام ٢٠١٤، ومن بعدها وفي هذا العمر وجدت نفسي مجبولاً للعيش قريباً من أولادي الذين أكملوا دراستهم في ديار الغربة وحصلوا على وظائف في بلدان الغربة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن الوحدنة في أواخر العمر تبدو صعبة وإن كانت على أطراف الجنة.
س٨- الحوار مع الدكتور سعد أكثر من شيق، تاريخ وخبرة، ترقيان الى وضعه بمصاف النخبة، وقبل أن أغادره يلح عليَّ سؤالاً أخيراً قد يكون محرجاً، لكني أعهدك صريحاً جريئاً، الأمر الذي يشجعني طرحه بوضوح: (كيف ترى مستقبل القوات المسلحة في ظل هذا الاضطراب في تركيبة المجتمع العراقي وتوازناتها)؟.
ج- لا يوجد حرج في طرح الأسئلة، لك الحق أن تسأل كما إني أؤمن إن طوقت العلوم بأطواق الحرج لن تبق علوماً تنفع، وإجابتي عن سؤالك غير المحرج هو أن علينا أولاً ادراك حقيقة الحراك الاجتماعي الكوني، حقيقة تعني أن المجتمعات في العالم دائمة التغير، ونحن جزء من هذا العالم لابد وأن نتغير، المشكلة أن سرعة التغير في مجتمعنا بطيئة وفي المجتمعات الأخرى أسرع... تفاوت سيكوّن تناقضات وربما اضطرابات سترهقنا فترة من الزمن قد تكون طويلة، يواجه طوالها الجيش وجميع أفرع القوات المسلحة التي استبدلت التسمية فيها الى القوات الأمنية مشاكل واعاقات وربما اختلالات ليست في صالحها ولا في صالح الوطن وتركيبته الاجتماعية، لكن منحى الحراك سيعود حتماً الى وضع قريب من الطبيعي ولو بعد حين. وإذا تأخرت عودته أو صار تدخل خارجي لتأخير عودته وهو أمر وارد سيكون الجيش غير قادر على حماية الديمقراطية ولا الدفاع عن الوطن، وقد يحصل التقسيم أو الأقلمة وفي حالتها سيكون الجيش وعموم القوات المسلحة بصورة غير صورتها الحالية، وسيكون العراق غير هذا العراق.
في ختام حواري مع الفريق الدكتور سعد :
لا أخفي مشاعري في الارتياح لهذا الحوار العلمي، لو يسمح الوقت والسعة، لفتشت عن خفايا أخرى وعن أسرار أخرى ما زلت مقتنعاً وجودها في عقل الفريق الدكتور الذي عمل في الجيش وبعض الأجهزة ضابطاً ومديراً ومستشاراً لفترة زمنية زادت عن نصف قرن، كان العراق طوالها مضطرباً، وكان جيشه خلالها مشغولاً بحروب واستعدادات لحروب، واختلاف قيادات لم تمهله لأن يكون الأفضل. والى أن يكون الأفضل سنقول شكراً للفريق الدكتور على صراحته وسعة صدره، ونأمل اللقاء به ثانية كاتباً من كتاب المجلة.المعروفين
اللواء الركن المتقاعد فؤاد حسين علي
السويد /اوربرو - تموز ٢٠٢١
4795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع