أيام زمان...٢٩- السيرما
التطريز في شغل السيرما ينفذ باستخدام خيوط ذهبية أو فضية، أو نحاسية، إما طبيعية أو مُخلّقة، ويمكن أن يضم الخرز والترتر، والترتر رقائق معدنيّة أو بلاستيكيّة، مستديرة لامعة صغيرة، ذات ألوان متعدِّدَة توشّى بها ملابس النِّساء، ويأتي سحر وفتنة هذا النوع من التطريز، بفعل لمعان الخيوط المعدنية، حيث يغير اتجاه الخطوط مع حركة الضوء من درجات الألوان، ويجعل السطح يظهر بمستويات مختلفة، وتعطي بُعداً آخر للتطريز. وتتميز المشغولات بقدرتها على التجانس، مع أشكال عديدة من الديكور والتصميمات المختلفة للأثاث، خصوصاً في غرف الاستقبال أو المكتب، حيث يمكن أن تستخدم في لوحات تعلق على الجدران، أو مفارش لتغطية الموائد والأرائك ومنحها لمسة من الفخامة والأصالة.
وفى ظل تفنن الطرازين في ابتكار أنواع مختلفة من المطرزات، والتي تستعمل لتوشية الملابس والمفارش ومجالس الكبراء، كانت دور التطريز مخصصة لتزيين ملابس النبلاء والسلاطين والأمراء، وفق نماذج محددة، تناسب مقام من تهدى إليه، وتتدرج من الدروع الداخلية البسيطة إلى الأثواب الفاخرة، المطرزة بالذهب والفضة، وتحوي بعض المتاحف مجموعة نادرة من الأقمشة التي نقشت بالزخارف والرسوم النباتية بطريقة السيرما، وقد عثر على بعض الملابس في مقبرة توت عنخ آمون في مصر، وتعود إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد، ويعتقد بعض الباحثين أن شعوب معظم الحضارات القديمة مارسته.
وكان لكل دولة أسلوبها الخاص في التطريز، فالصينيون واليابانيون كانوا يستخدمون الحرير، وخيوط الذهب على قماش البروكار الرقيق، لتطريز التنين والطيور والأزهار والمناظر الطبيعية، ولعل الأشهر في مجال الأنسجة هو البروكار الدمشقي، وأخذ اسمه المركب من (البرو) أي الحرير و(الكار) أي المهنة، ولكن بعد عده سنوات استخدم مصطلح دامسكو نسبه الى مدينه دمشق، التي تعد من أشهر المدن بصناعه هذا القماش، ومهنة الحرير الدمشقي الطبيعي عرفه الدمشقيون منذ مئات السنين، من خلال عائلات شهيرة عملت به، والدامسكو هو قماش بامتياز من التراث القديم ويستعمل النول اليدوي في حياكته ونسجه، يرجع تاريخ هذه الصناعة إلى بدايات صنع الخيط، وبدايات ظهور الممالك، حيث أمر الملوك والسلاطين والأمراء الحرفيين، بصناعة أثواب وأزياء لهم من الذهب والحرير، ويعتبر من أعرق الأقمشة النسيجية ذو جودة عالية، وألوان ثابتة لا تتبدل مع مرور الزمن وقد أُدخِلت عليه النقوش الناعمة من الخط العربي وبعض الرسومات الهندسية، ورسومات الأزهار الناعمة وهذا ما زاد في أناقته وجماله، ويذكر أن فستان زفاف الملكة إليزابيث الثانية، صنع من قماش الدامسكو، الذي بعثه هديه لها الرئيس السوري السابق شكري القوتلي، عندما طلبت السفارة البريطانية من سوريا إرسال لها أجود الدامسكو الموجود لديها، وقام المصمم نورمان هارتنيل بتحويل القماش إلى فستان الزفاف، والمحفوظ حالياً في المتحف الملكي في قصر باكنغهام، وكانت الرسمة عليه عصفورين يقبلان بعضيهما بعضاً، (العاشق والمعشوق)، والملكة اختارتها من خلال عرض نماذج عليها، والتي أصبحت فيما بعد مشهورة جداً، ويقولون عنها نقشة الملكة إليزابيث، والقماش أرضيته بيضاء وعلى جناحي الطيرين خيوط الذهب من عيار 12.
وكانت البلاد الدافئة كإسبانيا وإيطاليا تنتج تطريز زاهي اللون والنموذج، أما فرنسا وسويسرا فامتازت بأرق أنواع التطريز على قطع القماش الأبيض، وفي دول البلقان تزخرف الثياب والبياضات، بتطريز ذا غرز وألوان زاهية، وكانت تنتقل مهنة التطريز هذه من جيل إلى جيل.
وأشهر تطريز القرون الوسطى هي أنسجة الفرنيين، التي توضح المعارك ويتم رسم الجنود والخيول والفرنيين (وهو حيوان خرافي نصفه بشر ونصفه أسد)، وكذلك العنقاء والمسخ، وفي القرن الثامن عشر أصبح للتطريز أهمية كبيرة، حتى أنه أصبح يساوي وزنه ذهباً، وقد عرف في القرن الثامن عشر والتاسع عشر أن الفتيات الصغيرات، كن يقضين ساعات معينة في تطريز غرز مختلفة على قطع من الكتان، ويطرزن بيوتاً وحيوانات وأرقاماً وأحرفاً أبجدياً وأحياناً أبياتاً شعرية، وعندما تنتهي الفتاة من عملها، تضيف إلى القطعة اسمها وعمرها والتاريخ تدعى القطعة سامبلر.
كان تطريز السيرما فنًا مهمًا في العالم العربي في العصور الوسطى، أطلق عليه حرفة اليدين. كان له علامة على المكانة الاجتماعية العالية في المجتمعات العربية، فقد أصبح شائعًا على نطاق واسع، في مدن مثل دمشق، القاهرة وإسطنبول، وكان التطريز مرئيًا على مناديل الزي الرسمي، والأحذية، والجلباب، والسترات، وزخارف الحصان، والنعال، والأغماد، والحقائب، والأغطية، وحتى على جلد الأحزمة، والعناصر المطرزة الحرفيين مع أسلاك ذهب وفضة، والتطريز بالسيرما من الفنون التقليدية القديمة، التي ازدهرت في الفن العربي لارتباطها بأقدس أشكال العمل الفني في التراث القديم، أقمشة سوداء منقوشة بآيات قرآنية مطرزة بالخيوط الذهبية، يطلق عليها «السيرما» وهي صناعة كسوة الكعبة، إذ كانت تُزخرف وتُكتب شرائط من الآيات القرآنية عليها، باستخدام أسلاك الذهب والفضة، لتبدو الكتابات والزخارف بارزة ومتألقة، وتعتبر كسوة الكعبة من أبرز وأهم القطع التي تعتبر بشكل كبير عن فن السيرما، أو التطريز بخيوط الذهب والفضة، حيث تعتبر كسوة الكعبة الموجودة بمتحف النسيج المصري بشارع المعز، وهي التحفة النسيجية، والتي كانت تصنع في دار الكسوة بالخرنفش، وهي آخر قطعة مصرية ذهبت إلى الكعبة والتي تم صنعها في عهد الملك فاروق الأول، كما تُعد «ستارة باب التوبة» هي درة تاج المتحف وهي قطعة من القماش مستطيلة الشكل، عليها زخارف نباتية، وكتابات قرآنية مطرزة بخيوط فضية بأسلوب «السيرما».
السيرما فن عرفه المصريون منذ عشرات العقود، وتطور بتطور الزمن، إلى أن ناله ما نال غيره من غلاء الأسعار وتراجع السياحة، لتتحول من مهنة أكل عيش إلى حرفة على وشك الاندثار، لا تزدهر إلا في مواسم الحج، على مدار 7 قرون، كان مصر تقوم بصناعة كسوة الكعبة، بدءا من عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي في القرن أل 12 الميلادي، مرورا بالعصرين المملوكي والعثماني، وصولا إلى القرن العشرين، حيث كانت تنقل الكسوة للسعودية في موسم الحج وسط أجواء احتفالية عظيمة يحضرها كبار رجال الدولة، إلا أن التقليد توقف تماما عام 1962، حينما أنشأت السعودية مصنعا لتولى مهمة صناعة كسوة الكعبة. وبعد توقف إرسال مصر لكسوة الكعبة، اتجه حرفيو المهنة بالتطريز على الأقمشة بخيوط الذهب والفضة المعدنية، ومع غلاء الأسعار بات التطريز بخيوط النحاس المطعم بالذهب أو الفضة، سواء برسم أشكال أو كتابة أدعية وآيات.
تأتي مراحل تصنيعها، بداء من تخطيط ورسم الشكل المراد نقشه على ورقة بمساحة القماش، مروراً بثقب مكان الأحرف، انتهاءً بغزل تلك الأحرف بخيط النحاس الذهبي أو الفضي باستخدام الإبر.
أما عن أقدم ستارة لباب الكعبة، والتي أعدها المماليك في مصر عام 1516 والتي أُحُضرت تلك الكسوة من مكة، بعد استبدالها بأخرى جديدة، في أول حج بعد الفتح العثماني لمصر والحجاز، وأُعطيت لخليفة المسلمين السلطان سليم الأول سليم يافوز في عام 1517، وظلت الكسوة معروضة بالجامع لمدة 600 عام مُعلقة على الحائط وتم ترميمها مؤخراً في عام 2009 بعدما اهترأت بشدة، فوُضعت بعد الترميم في صندوق زجاجي محكم تحت درجة حرارة ورطوبة منخفضة للحفاظ عليها، ويبلغ طول تلك الستارة 6.5 متر وعرضها 3.45 متر وبها خيوط من حرير. في العصر المملوكي كان في القاهرة دار لصناعة الكسوة ترسل الكسوة سنوياً في موكب مهيب يتزامن مع موسم الحج، وكان الموكب يعود بعد انتهاء موسم الحج حاملاً الكسوة القديمة فيهدي السلطان المصري قطعاً منها لمماليكه أو للعلماء وكبار الأعيان، وبالتأكيد كان لهذه القطع قيمة معنوية كبيرة فضلاً عن قيمتها الفنية الرائعة وكان الناس يعلقونها في صدارة مجالسهم، ومن هنا أصبحت لوحات السيرما جزءاً تقليدياً، من مكونات غرف الاستقبال في كثير من بلدان العالم العربي.
اشتهرت السيرما قديماً في كثير من البلدان، وأدخلها إلى بيوت أمراء المماليك وبيوت كبار التجار والأعيان، وجعلتها أناقتها وتنوع استخداماتها وأصالتها، قادرة على الاستمرار في البقاء كجزء من الديكور الحديث الذي
يوصي به كبار المصممين. ومشغولات السيرما من أكثر الأشياء التي تشتهر بها الدول العربية والخليجية، بصفة خاصة، فهي تصلح لتزيين كل ركن بالمنزل وإضفاء مظهر جديد وأنيق في المكان وهي تتناسب مع كل الأذواق، خصوصاً مفارش طاولة الطعام أو اللوحات، التي تستخدم لتزيين الجدران، بنماذج مختلفة من الخط العربي، فضلاً عن توافر قطع السيرما التي تجسد الفن الهندي، التي تتميز بالزخارف والنقوش الحيوانية والنباتية، وكل قطعة يكون لها طابعها المميز ورونقها الخاص، الذي يختلف عن القطع الأخرى، وعلى الرغم من شهرة مراكز النسيج التقليدية في العالم العربي، مثل القاهرة ودمشق بدقة هذه الحرفة، إلا أن كثيراً من أعمال السيرما التي تباع في العالم العربي مصدرها الصين والهند، وحيث يوجد تراثٌ من فنون تطريز النسيج الذي نما بشكل مستقل، واعتمد بشكل كبير على رسوم الحيوانات والزخارف النباتية، والتطريز فوق قطع من القماش السميك، ليمنح الزخارف ارتفاعاً إضافياً، وبروزاً يجعلها ظاهرة من زوايا مختلفة عند النظر إليها، وهذه الأعمال تتناسب مع أشكال الديكور الحديثة في غرف الاستقبال، حيث تغلب خامات الأقمشة الملونة على الخشب المذهب في تصميم الأثاث. وبشكل عام تبرز خامات السيرما المذهبة مع الخشب والرخام، فهي تليق بالفيلات ذات الأعمدة أو مع الأثاث ذي الطابع الكلاسيكي، أو في ديكورات غرف المكاتب سواء الخاصة أو الرسمية، ومنذ سنوات بدأت المشغولات تتسلل أيضاً إلى ديكور غرف النوم، في شكل مفارش للسرير، خصوصاً بعد أن عادت الأسرّة الكلاسيكية النحاسية ذات العمدان لتصبح جزءاً من التصميم الرائج لغرف النوم، فأصبحت السيرما مقبولة وقادرة على تدعيم الطابع الكلاسيكي عند استخدام هذا النوع من الأثاث.
وهناك التطريز بالمعدن المذاب حيث تذيب نساء قبيلة ماوي المعدن ويصنعن منها خيوطاً للتطريز منها، ويعتبر التطريز بالشعر ممارسة دينية لدى بعض الناسكات البوذيات.
للحديث تكملة يتبع في العدد القادم
المصدر
وكالات –تواصل اجتماعي–نشر محرري الموقع
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/53730-2022-04-30-19-38-45.html
968 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع