قصة حقيقية /الموت في الوقت الخطأ
تتوتر الأجواء بين العشيرتين، تتلبد سماء المنطقه بغيوم سوداء تنذر بالشؤم، تتعالى أصوات النسوه في الحي الشعبي على أطراف محافظة العماره ،عويل وصراخ،ونحيب على مقتل عبد سويلم أخذا للثأر.
المشهد لم ينتهي بسهوله ،مازالت العشيره مطلوبه لعدوها،فهناك أمرأه منها مقتوله أيضا من عمومة عبد سويلم.
يجلس الكبار بعد أتمام مراسم العزاء ،يحكمون بأمرأه تكون فصلية تساق الى العشيره المطالبه بالثأر ، يتزوجها جاسم شقيق المرأة المقتوله ،أيذانا بأنتهاء الخصام ،يجلس الكبار ثانية يأمرون بأن تكون الزوجه المنكوبه بمقتل زوجها هي الفصليه ،العروس التي ستزف بعد أتمام العده ،لأنها أبنة عم الجاني ،تقف أمامهم تتوسلهم أن يختاروا غيرها ،كي تتفرغ لتربية سالم أبنها الوحيد ،وعندما يئست عاودت البكاء في حضرة الشيخ وكبار العشيره .
–أمنية أخيره أن تعطوني وقتا أنسى زوجي المذبوح.
يأتيها الرد..... عبد ذهب الى جوار ربه ،يرحمه الله ،وأعراف العشيره أهم من ذكريات الموتى ،أما سالم فهو أبن العشيره وسنتولى تربيته. تنتهي أشهر العده الثلاث ،تساق الأم عروسا بالاكراه لزوج مشارك في قتل زوجها ،تنقطع أخبارها ،ألا من أيماءات سلام بسيطه ينقلها مستطرقون قلت تدريجيا حتى تلاشت تماما، قبل بلوغ سالم سنته الخامسه.
الجده سنية باتت وحيدة في بيتها المصنوع من القصب بعد مقتل أبنها عبد ،ورحيل زوجته تنفيذا لحكم العشيره ،تأخذ سالم في أحضانها ، تتوسم به تعويضا عن أبنها التي حلمت به حاميا لها في شيخوختها الصعبه ،تتعلق به كثيرا ،لم تغادره مرة ،ولم تقبل أن تغادر بدونه حتى في ذهابها الى السوق لبيع حليب البقره التي ورثتها عن زوجها المتوفى قبل سبع سنوات .
يكبر سالم ،يجتاز المدرسه الابتدائيه بتفوق،ينهي المتوسطه ،فيزداد تعلقا بجدته ،وتزداد الجده حبا به ،تنتظره في باب المدرسه أحيانا وهو شاب لتصحبه معها الى البيت ،لأتأكل حتى ينهي أكله،ولاتنام قبل أن يغمض عينيه ،هو من جانبه تعود هذا الحب،أستهواه ،عشقه،بات يعتاش عليه ،لايبالي أنتقاد الاصدقاء وتهكمهم عند مشاهدتهم الجده العجوز تمسكه من يده بعد خروجه من المدرسه ،كأنه طفل تخاف توهانه وسط الزحام.
سالم الشاب الوسيم ،يكمل دراسته الثانويه بتفوق يفضل الذهاب الى المعهد التقني في العماره ليكون قريبا من جدته ،يتخرج منه بتفوق ،تصبح سيرته على لسان أهل الحي الشعبي ،وتصبح رجولته مثار أهتمام جل الفتيات من جيله والجيل الذي يليه ،وضعنه جميعا فارس احلامهن ،يشغل مخيلتهن في أوقات قبل النوم.
الحرب العراقيه الايرانيه ،يلتهب سعيرها ،قوانين التجنيد لن تستثني أحدا ،يساق سالم بعد تخرجه من المعهد التقني عام 1983 الى مركز تدريب العماره وينهي فيه شهرا واحدا ،كانت الجده في غالبية أيامه تقتحم المعسكر عصرا عند عدم النزول لتبقى معه حتى المساء وتعود الى بيتها والبقره التي تعتاش على حليبها.
أنتهت فترة التدريب الاساسي ،تحاول الجده مد عزيزها سالم بالعون المعنوي فتخاطبه بطريقه وكأنها تخاطب نفسها ،لتقنعها أو لتمدها بالصبر على فراق الأعز في حياتها.
ألم يكن هو من نذرت له حياتها؟؟ - أبني العسكريه تسوي زلم.–الوطن محتاج رجال وأنتم الشباب رجال هذا الوطن .
لكنها وكلما تعاود هذا النوع من الكلام تخشى نزول الدمع من عيونها التي صغرت كثرا ونشفت دمعها من كثر البكاء على مصيبتها ،فتغطي وجهها الأسمر المجعد بطرف عبائتها السوداء الباهته.
المتدربون يخضعون الى القرعه في توزيعهم على الوحدات بأستثناء أصحاب المقامات الرفيعه والحظوظ العاليه،ونصيب سالم أحد أفواج اللواء الرابع من الفرقه الثانيه التي تشغل موضعا دفاعيا في منطقة –سد كنجان جم -الايرانيه ،تودعه مع زملاءه المنقولين الى ذات الفرقه ،تمشي خلف السيارات العسكريه التي تنقلهم حتى تغيب عن أنظارها فتعود مكسورة الى بيتها البسيط،ترفع يدها الى السماء. – ربي هو حياتي أعده لي سالما، أصوم قربانا حتى يعود .
أنها لاتقوى على الفراق ،مر أسبوع لم تر حفيدها الحبيب،والحفيد لم يستطع معاودتها لتخفيف ألم الفراق ،فالنزول في أوقات الحرب محكوم بالوقت والظروف القائمه،وأحيانا بلباقة تكوين الحجج والاعذار ،وسالم معروف بأستقامته وجديته .
الوقت يمر ثقيلا على العجوز السبعينيه ،والصوم زاد هزال جسمها النحيف ،تخرج من بيتها ،تتوسل رجال يصادفونها في الحي والاحياء القريبه عسى أن يحن أحدهم على حالها فيوصلها الى مكان الحفيد الذي لم تره منذ أسبوع ،وعندما يسألها أحدهم عن عنوان الوحده العسكريه التي ينتسب لها سالم ،تعجز عن الاجابه ،فتعود الى بيتها شاعرة بالخيبه تطحن قلبها الواهن .هكذا هو حال أربعة أيام بلياليها ،اليوم الخامس ،عادت مساءا من جولة لاتختلف عن سابقاتها ،يحضر الى بيتها شاب بلباس عسكري ،وقبل أن يستفهم هويتها واسمها قال...:
– حجيتنا العزيزه ،هذه رسالة من سالم ..
وعندما مد يده ليخرجها من جيبه ،وجد الجده تترنح ،وكأنها ضربت على رأسها بعصا غليضه،مسكها وأجلسها على حافة التنور ،ورش على وجهها قليلا من ماء أحضره من أبريق متروك خارج الغرفه ،وعاد كلامه...
سالم يسلم عليك ،وهو الحمد لله في أحسن حال وهذه رسالة من عنده...
قرأها باأللهجه الدارجه ،كأنه يترجم الى العربيه شيئا مكتوبا بلغة آخرى .
وعندما أستوعبت الأمر قالت :
– أبني أريدك أن تآخذني الى سالم.
– جدتي لقد حصلت على أجازه لخمسة أيام ،وهذا يومي الاول ،حتى أني لم أذهب الى البيت قبل المرور على بيتك وتسليمك الرساله،سالم أوصاني هكذا وهو عزيز علي ،لقد كلمني عنك كثيرا ،حتى أشتقت لرؤياك وتقبيلك من رأسك ،فأجابته في الحال:
– دلني على العنوان وأنا أذهب الآن،لاأستطيع الانتظار ،أشعر أنني مخنوقه ،ولا أستطيع التنفس حتى أراه.
– جدتي العزيزه ،لايمكن الذهاب ليلا ،الطريق طويل ،وهو عسكري خاص ،لاتوجد سيارات ركاب تذهب اليه ،ومع هذا أمهليني فقط هذه الليله أشاهد فيها أهلي وسأكون عندك صباحا لنذهب سوية ،عسى الله يقدم مافيه خير....
-وكيف لي أن أنام الليل؟؟؟
- لو كان بالامكان الذهاب ليلا ،لتركت أهلي وذهبت معك،لكن لافائده ،صدقيني لافائده .
الليله هي الاطول في حياتها ،لم تنم فيها لحظه واحده ،الانتظار يبعد النوم، وتمني المجئ في أي لحظه يبعد النعاس ،الشمس تشرق من بعيد فتغطي أشعتها الكوخ وباحة الدواب ،تقف الحاجه سنية متوكئة على عصاها في مقدمة البيت تنتظر العسكري الصديق يفي بوعده .
حميد الجندي الصديق يفي بوعده ،يحضر قبل تناول الفطور .
– جدتي الآن جاهزين للذهاب....
– دعني أجلب الخبز والطعام الذي أحضرته الى سالم ونتكل على الله.
السياره الصالون التي أستأجرها حميد ،تقف عند آخر سيطره عسكريه ،المرور من بعدها الى وحدات اللواء ممنوع ،يترجل حميد والحاجه سنية ،يعرف نفسه ،يقص القصه كاملة على العريف محمد آمر السيطره ،يبدأ الهاتف بالرنين ،يحضر سالم بعد فتره وغبار المعركه يغطي هيئته .
لقاء وتقيبل للأيادي والجبين،ينتهي بوجبة غذاء جلبتها معها ومتاع يكفي سالم مدة يومين آخريين ،وتنبيه من آمر السيطره بضرورة المغادره فالعدو بدأ قصفا مدفعيا للمنطقه.
العوده للبيت فيها نشوة مع خوف على مصير العزيز سالم،يعطي العجوز جرعة صبر لعدة أيام .تنتهي هذه الايام كأنها شهور ،يعاودها الشوق والقلق وبدرجة أكبر .ترزم متاعها وتتكل على الله فقد عرفت الطريق ،وصلت نقطة السيطره قبل الظهر ،تكرر مشهد الاتصال الهاتفي بوحدة سالم وتكرر اللقاء المستمر ،فأصبح منتسبوا السيطره ينتظرون الحاجه سنيه كل يوم جمعه ،وكأنهم على موعد معها،شاع خبرها في وحدات اللواء والفرقه وعرف بالتفاصيل قائد الفرقه الثانيه اللواء الركن طارق محمود شكري ،فوجه بمنح سالم أجازه خاصه للذهاب مع جدته ،تنتهي الاجازه وكأنها لحظات ،لم تشبع شغف الجده الى التمعن بحفيدها .فتعاود وقع ذهابها الاسبوعي الى نفس المكان ،وكأنها أحد منتسبي الفرقه الثانيه .
تنقضي ثلاثة أشهر على هذا الحال ،الجمعه الاخيره من رمضان ،تمسك بعصاها ومتاعها وتتجه الى السيطره المذكوره ،تصلها قبل الظهر ،فالشوق عندها هذه المره قد أستعجلها في الذهاب أبكر من المرات السابقه ،تنتظر رد العريف محمد ،يرجوها الصبر فالمعركه قائمه وهجوم أيراني واسع على المنطقه ،تنقضي خمس ساعات وهي جالسه على صخرة في الجوار ،ترقب منظر الدبابات الماره ،وعصف الانفجارات ،وسيارات الاسعاف ،لاتأبه لشئ مادامت تمني نفسها بلمسة على جباه العزيز.....
العريف محمد مسؤول السيطره يتلقى أتصالا هاتفيا ،يطلب منه التصرف ،فسالم لايأتي هذه المره ،لقد أستشهد منذ الصباح .يحاول العريف محمد السيطره على مشاعره ،كيف له أن يخبر هذه العجوز التي لاتملك في حياتها سوى حفيد تعلقت به حد العباده ،يستجمع قواه قائلا :
– خاله سنية ، المعركه شديده والطريق مقطوع ،لايمكنه الحضور هذه المره.
– أبني دعني أذهب اليه مشيا ،وأتحمل مايجري في الطريق،كيف لي العوده دون أن أراه؟؟ .
– لايمكن هذا أيضا ،ممنوع المرور لغير العسكريين.
– دعوني أبات ليلتي هنا ، أنتظر الى الغد عسى أن يفرجها الله عليكم وعلينا،ويأتيني سالم ولو ساعه واحده،لأ ، دقيقه واحده أشمه فيها وأعود من حيث أتيت .
– خاله سنية ،لايمكن الاوامر التي لدي هي أبلاغك بالعوده الى العماره فالموقف خطير. – ارجوك أن تذهبي الآن.
– سأذهب وسأترك هذا المتاع أمانة توصلوها الى سالم ،لأنه يحب الطعام الذي أطبخه بيدي ...
عادت الحاجه الى بيتها مرهقه ،وصلته في المساء ،يعتصرها الألم ،مسحة حزن سيطرت عليها ،منذ أن تركت نقطة السيطره ،وكأنها غير مقتنعه بالحجج التي ساقها العريف محمد،خلدت الى النوم فور الوصول من شدة التعب ،على أمل تكرار الذهاب في اليوم الذي يلي . لم يأت اليوم الثاني ، ولم تشرق الشمس على كوخ القصب ،ولم تبدأ الحاجه سنيه رحلتها المعهوده الى نقطة السيطره ،نهضت قبل طلوع الشمس ،على وقع أصوات تقترب من البيت ،ومحرك السياره يتوقف عن الدوران ،نعش ملفوف بالعلم العراقي ،ينزلونه جنود مدججون بالسلاح من على سقف السياره ،ميزت من بينهم حميد صديق حفيدها القريب،يتقدمهم وهم ينزلون النعش في باحة بيتها ،وقفت متشنجه في مكانها ،سقطت من يدها العصا التي رافقتها عشر سنين . شعرت بالدنيا تدور من حولها. حاولت أن تصيح بأعلى صوتها سالم..سالم ..سالم ،فخرج بدل الصيحه صوت حشرجه من حنجرة يبست من شدة الألم .
جهدت نفسها في أن تمشي خطوة الى الامام خانتها سيقانها المتعبه ،نظرت الى السماء ،نظرة عتاب ،ثم سقطت ميته على النعش الممدود...
1379 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع