جميلة - قصة من مدينة الاسرار مدينة بغداد، بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية/ ح٨ والأخيرة
منذ اول أيام انقلاب 14 تموز 1958 الدموي شهدت مطاردات واعتقالات للكثير من موظفي الدولة السابقين كالوزراء ومدراء الدوائر المهمة..
وبناء على أوامر عبد الكريم قاسم تم تشكيل محكمة عسكرية عليا باسم محكمة الشعب والمعروفة بمحكمة المهداوي نسبة الى ابن خالة عبد الكريم قاسم العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة وكانت جلسات تلك المحكمة تعقد في قاعة الشعب الملاصقة لمبنى وزارة الدفاع مقر عبد الكريم قاسم في الباب المعظم وكل أعضاء المحكمة من الضباط العسكريين الذين لا يملكون أي خبره في القانون وكانت جلسات المحكمة تنقل على الهواء مباشرة عبر تلفزيون بغداد وكانت المحكمة مهزلة مثيرة للاشمئزاز..
حيث كان المهداوي يستعمل كلمات بذيئة خارجة على الادب لم يتعود العراقيين سماعها من قبل وكان هدف المحكمة هو تصفية رموز العهد الملكي واهانة النظام الملكي والصاق التهم بكل مسؤول مدني واحلال العسكريين بدلا عنهم وكان المهداوي يتقصد إهانة الموقوفين اثناء البث المباشر للتلفزيون كجزء من الحملة الإعلامية المنظمة ضد النظام الملكي , واستمرت تلك المحكمة بمحاكمة كل من يعارض نظام عبد الكريم قاسم حيث حوكم رجال انقلاب الشواف سنة 1959 ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم نهاية 1959 وكانت تتم محاكمة القوميين والبعثيين تحت أي ذنب مهما كان حجمه واستمرت تلك المحكمة بعملها الى ان تم الانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم سنة 1963 , لقد كان كل ما يقوم به المهداوي من أوامر القاء القبض وما سيتم التحدث به خلال جلسات المحاكمات بتوجيه مباشر من عبد الكريم قاسم حيث كان يجتمع الاثنين في مكتب عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع يوميا لتناول وجبات الإفطار والغداء وكانت ملفات كافة القضايا يتم اعدادها في مكتب عبد الكريم قاسم وتسلم الى المهداوي بيده وبعد الانتهاء من تناول الإفطار او الغداء مع ابن خالته يخرج المهداوي من مكتب عبد الكريم قاسم متجها الى قاعة الشعب الملاصقة لوزارة الدفاع ويبدأ بجلسات المحاكمة.
عبد الكريم قاسم قام بتأسيس مجلس السيادة والغى دور الضباط الاحرار ولم يسمح لهم بتشكيل مجلس لقيادة الثورة كما كان متفقا عليه معهم وكان مقر مجلس السيادة في بناية البلاط الملكي في الكسرة وهو مجلس صوري بدون صلاحيات..
وقام بتعيين الفريق محمد نجيب رئيسا للمجلس أي رئيسا للجمهورية لكن ذلك الرئيس لم يقم باي نشاط طوال كل فترة سنوات عمله وكانت وظيفته هي الجلوس في مكتبه يوميا وشرب الشاي والقهوة واستقبال أصدقائه واقاربه, واستفرد عبد الكريم قاسم بالسلطة في منصب رئيس الزوراء ,
والغريب ان اول رئيس جمهورية لمصر كان اسمه كذلك محمد نجيب وهو الشخص الذي قام بتأسيس وقيادة الضباط الاحرار وعمل لسنوات في خطوات مدروسة لعزل الملك فاروق وتغيير نظام الحكم من ملكي الى جمهوري..
وقد قام جمال عبد الناصر بعزله من منصبه وبقي سجينا في بيته ثلاثين عاما الى وفاته سنة 1984 , واغرب تظاهرة قامت في تاريخ البشرية هي تلك المظاهرة التي انطلقت في القاهرة في يوم 28-3-1954 بعد مطالبة رئيس الجمهورية محمد نجيب بعودة الديمقراطية والبرلمان وترخيص الأحزاب السياسية فكان شعار المتظاهرين في تلك التظاهرات : لا أحزاب لا برلمان – تسقط الديمقراطية تسقط الحرية – وقد قام جمال عبد الناصر في حينها بشراء رئيس اتحاد العمال صاوي احمد صاوي الذي اخرج الاف العمال للتظاهر ضد الديمقراطية والحرية , وبعد ان قام عبد الناصر بالتآمر على محمد نجيب وعزله وسجنه واخذ مكانه كرئيس للجمهورية قام عبد الناصر باتباع سياسة استعلائية عدوانية ضد السودان وبالاتفاق مع بريطانيا مما أدى الى انفصال السودان عن مصر وبذلك تقلص حجم مصر وقوتها الى الثلث.
اول القرارات التي أدت الى الغاء النظام الديمقراطي والبرلماني في العراق والتي أصدرها عبد الكريم قاسم هي الغاء البرلمان ومنع الأحزاب التي كانت مرخصة خلال العهد الملكي ولم يتم منح أي حزب ترخيص للعمل ماعدا الحزب الشيوعي العراقي الذي استفرد بالسلطة وفتح مقرات في كل المدن العراقية الكبرى ,
ودخل العراق بنفق جديد اخر عندما قام عبد الكريم قاسم بتأسيس كتائب المقاومة الشعبية من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي وقد عين العقيد طه البامرني امر الحرس الملكي السابق الذي خان المملكة ورفض الدفاع عن العائلة الملكية التي تمت ابادتها من قبل الانقلابيين امام عينية قام بتعيين طه البامرني رئيسا لكتائب المقاومة الشعبية ..
واخذت تلك الكتائب باستعمال الحبال لربط كل من يعارض نظام عبد الكريم قاسم من ارجلهم وسحلهم بالسيارات وتعليقهم على أعمدة الكهرباء وتمزيق جثثهم امعانا في إرهاب الناس او من قد يفكر في إعادة النظام الملكي وقامت تلك الكتائب بمجازر الموصل وكركوك الشهيرة سنة 1959 حيث قام الشيوعيين باستباحة مدينة الموصل وقتل كل من يعارضهم وتعليقه على أعمدة الكهرباء ونهب وحرق الكثير من البيوت والابنية العامة والخاصة وحصل في كركوك مجزرة أخرى وبنفس الأسلوب وكان عدد ضحاياها ضعف ضحايا مجزرة الموصل بعد ذلك مباشرة بدأت كتائب المقاومة الشعبية حملة استفزاز المناطق الدينية حيث تم الاعتداء على المصلين في مدينتي الكاظمية والاعظمية وحرق القران الكريم في عدة أماكن في مدينة بغداد وتم منع الاذان في الكثير من الجوامع وكان يتم ضرب المصلين في العديد من المساجد بعد خروجهم من الصلاة وكانت كتائب المقاومة الشعبية مختلطة حيث كان ينام الرجال والنساء في خيمة مشتركة وحدثت الكثير من الحوادث الأخلاقية مما اثار الناس على تلك الظاهرة الغريبة عليهم واخذ القوميين والبعثيين بمقاومة تلك الكتائب وتم تنظيم تظاهرات واضرابات عديدة واخذوا يوزعون المنشورات السرية ويكتبون الشعارات المعادية على الجدران .
لم يكن العراقيين متعودين على تلك الجرائم فقد كان النظام الملكي مستقر وهناك قوانين وأجهزة شرطة ومحاكم تتمتع بقدر كبير من العدالة والمصداقية وكان هناك احترام كبير للمواطنين وما ان حلت الجمهورية حتى عمت الفوضى وقد تعلم العراقيين خرق القانون من الشيوعيين وأساليب القتل والسحل وقد انتمى الى الحزب الشيوعي معظم الفقراء والمهمشين من كل الديانات والقوميات وانتشر اللون الأحمر الذي يمثل الشيوعية في كل انحاء العراق امعانا في اخافة الناس من لون الدم من جانب وبحجة ان اللون الأحمر شعار الحزب الشيوعي وساد جو الموت والفوضى العارمة كل انحاء العراق , لم تكن الأفكار والتصرفات التي قام بها الشيوعيين العراقيين أفكارا او مبادئ شيوعية في بعض جوانبها وانما سلوكيات فردية وفي كثير من الأحيان كانوا يتصرفون وفق منطق ردود الأفعال والانتقام ,
ومن الأخطاء الفادحة التي قام بها عبد الكريم قاسم قيامه بوضع شريكه في انقلاب 14 تموز العقيد عبد السلام عارف في السجن والحكم عليه بالإعدام ثم اطلق سراحه..
بعد فترة مما أدى الى قيام عبد السلام بالتعاون مع القوميين والبعثيين وجمال عبد الناصر بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم 8 شباط سنة 1963 وكان يوم خميس المصادف 14 رمضان وكانت بداية صفحة جديدة من تاريخ العراق الا وهي صفحة الانتقام حيث تم تصفية بعض الشيوعيين واعتقال البعض الاخر وطرد الكثيرين منهم من الوظائف , وقد كان رجال الدين المسلمين من كافة المذاهب ومنذ الخمسينات قد اصدروا فتاوى تحرم الانتماء الى الحزب الشيوعي باعتباره تحريضا على الكفر والخروج على الملة وتم تجديد تلك الفتاوى وتفعيلها وإعادة نشرها بعد انتهاء حكم الشيوعيين سنة 1963 مما أدى الى قتل الكثيرين منهم لمجرد انتمائهم للحزب الشيوعي ,
وتم اعدام عبد الكريم قاسم وابن خالته المهداوي رميا بالرصاص بعد محاكمة سريعة في دار الإذاعة والتلفزيون واستمر مسلسل الانتقام لسنوات طويلة ..
وقد تم تأسيس الحرس القومي من قبل البعثيين ولم يكن الحرس القومي اقل شراسة من كتائب المقاومة الشعبية الشيوعية حيث مارس الانتقام من الشيوعيين ومؤيدي عبد الكريم قاسم وعلى من كان يفكر في الاعتراض عليهم , وقبل مرور سنة على الانقلاب على بعد الكريم قاسم وفي 18 تشرين 1963 انقلب عبد السلام عارف على البعثيين بعد ان حكموا تسعة اشهر حيث اتفق مع احد اجنحة حزب البعث ضد جناح اخر وتم الغاء الحرس القومي الرديف البعثي لكتائب المقاومة الشيوعية, وبعد فترة قصيرة انقلب عبد السلام عارف كذلك على ذلك الجناح البعثي المساند له في انقلاب 18 تشرين 1963 ووضع حلفائه في السجون بعد ان تبين له ان كلا الجناحين وجهان لعملة واحدة وقد كان ذلك ثالث انقلاب عسكري في العراق خلال خمس سنوات , ومن مفارقات القدر في يوم انقلاب 18 تشرين 1963 قد صادف عرس لاحد جيران بيت الشيخ احمد كمال وما ان صار الانقلاب ودخلت الدبابات الى منطقة العيواضية لقصف وزارة الدفاع مثلما دخلت في 8 شباط 1963 عند الانقلاب على عبد الكريم قاسم حتى أصاب بيت العرس بنكسه كبيرة فماذا يفعلون بالعرس وبكميات الاكل الكثيرة التي تم اعدادها ؟ وحلا ً لتلك المشكلة فقد اتصلوا بالمدعوين والغوا العرس وقام بيت العرس بتوزيع ما تم تحضيره من أنواع المأكولات على بقية الجيران لعدم وجود مجمدات في ذلك الزمن لحفظ الأطعمة التي اعدت لحفلة العرس وقد تم ارسال كمية كبيرة من الكبة والبورك والمعجنات والحلويات وغيرها الى بيت الشيخ احمد كمال وفي عصر ذلك اليوم تم توزيع تلك المأكولات على طواقم الدبابات والمدرعات التي احتلت المنطقة مع كميات كبيرة من الشاي.
خلال فترة حكم عبد السلام عارف الأولى والثانية اخذ الشيوعيين بتوزيع المنشورات الورقية وكتابة الشعارات على الجدران بعد ان كان القوميين والبعثيين قبلهم يقومون بذلك خلال فترة حكم الشيوعيين وفي احدى الصباحات استيقظ بيت الشيح احمد كمال وقد تم كتابة شعارات شيوعية على جدار البيت المجاور لهم وعمت الفوضى في البيت ماذا يفعلون بتلك المصيبة؟ فاذا جاء الحرس القومي سيتم اقتحام بيتهم والبيوت المجاورة لمكان تلك الكتابات وتدميره وممكن قتلهم او اعتقالهم وهم لا يعرفون من كتب تلك الشعارات وتباحث الجميع دون ان يخرجوا بنتيجة وقالت زوجة احد أبناء الشيخ احمد كمال ان الصغير عمر يمكنه ان يقوم بتلطيخ الكتابة بالطين قبل ان يستيقظ الناس ويقرئونها وتم استدعاء عمر من بيت اهله المجاور على عجل واعطيت له التعليمات مع سطل فيه كمية ماء وطين وعند خروجه من الباب الداخلي باتجاه الحديقة الخارجية عادت جميلة من السوق وسالته اين ذاهب بهذا السطل فاخبرها القصة فثارت ثائرتها وصرخت بالجميع ... عمر لا يقوم بهذا العمل واخذت عمر من يده ووضعته خلفها وقالت لهم ان شاهد احد عمر يقوم بمسح الكتابة سيدخلنا نحن في اتهام من احد الطرفين فأما سيقوم الشيوعيين بالانتقام منا لأننا مسحنا شعارهم او ان البعثيين او الشرطة التي سوف تشك فينا باننا من قام بالكتابة ونحن الوحيدين باب بيتنا قرب الشعار المكتوب , الجميع غضب من جميلة التي قامت بتهريب الصغير عمر الى الخارج وقالت لهم بحزم : اتصلوا بالشرطة وابلغوهم انه خلال الليل قام البعض بكتابة شعار شيوعي على جدار البيت المجاور لنا عندها سنعتبر انفسنا من قام بالتبليغ ونخرج من دائرة الشك ومن المشاكل وينتهي الموضوع بسلام , لقد كانت فكرة جميلة جهنمية ومنطقية وقد تم تنفيذها على الفور وجاءت الشرطة ومسحت الشعار وقالت الى بيت الشيخ احمد كمال في المرة القادمة اذا تم كتابة شعار مشابه ورغبتم بمسح الكتابة يمكنكم ذلك او اتصلوا بنا , تكررت الكتابة مرتين على نفس الجدار وتم الاتصال بالشرطة وانتهى الموضوع بسلام , لقد دخل العراقيين في دوامة الخوف منذ انقلاب عبد الكريم قاسم على الملكية وشاع الخوف واستمر لأجيال عديدة فشعار مكتوب على حائط يثير رعب كل سكان البيوت المجاورة ويقلب حياتهم راسا على عقب وكان منظرا طبيعيا ان يستيقظ الناس ويشاهدون جثة ملقية في الشارع والفاعل مجهول وقد يكون الفاعل الأجهزة الأمنية او حزب معارض او جناح في حزب لاغتيال عضو في جناح اخر وقد يكون موضوع شخصي قد استغله البعض في ظل الفوضى السائدة في العراق , وفي سنة 1966 قتل عبد السلام عارف كذلك في حادث تحكم طائرة هليكوبتر في جنوب العراق وبذلك قتُل الشخصين الرئيسيين الذين قاما بانقلاب 14 تموز على الملكية وتسلم الحكم شقيقه عبد الرحمن عارف وهو رجل متزن ومتواضع , مسالم وضعيف الشخصية.
في سنة 1965 نوى الشيخ احمد كمال والسيدة أسماء أداء فريضة الحج وكانت مناسبة سعيدة واحتفال كبير عند عودتهم بعد سنوات طويلة من الاحداث المأساوية التي مرت على العراق , وعند عودتهم قدم الاقرباء والأصدقاء الهدايا التي كانت اغلبها خراف حيث اكتظت الحديقة الخلفية بالخراف فقام الشيخ احمد كمال بتوزيع تلك الخراف على أبنائه وأبناء أخيه والجيران واكتفى ببعض الخراف تم طبخها على مدى أسبوعين حيث كان يقدم الطعام يوميا لكل من جاء للتهنئة بسلامة العودة وبأداء فريضة الحج , في اليوم التالي لعودة الشيخ احمد كمال والسيدة أسماء من الحج تجمعت العائلة في الطارمة الخلفية الواسعة المطلة على الحديقة الخلفية واخذت النساء بقص اظافر الحاج والحاجة في احتفال جميل حيث جلسا على كراسي مرتفعة وافردوا اطرافهم الأربعة وبدأ العمل , وكان الشيخ احمد كمال كعادته صامتا يبتسم للجميع فيما راحت السيدة أسماء تحكي تفاصيل رحلة الحج والمناسك والأماكن التي زاروها في مكة المكرمة وكيف اضاعت الشيخ احمد كمال في الحرم المكي خلال الطواف واخبرت الشرطة عن اسمه وشكله وكيف تم العثور عليه وهو يجلس متمسكا بستار الكعبة الشريف حيث سألته الشرطة عن اسمه فاخبرهم ولماذا لا يقوم بالطواف وقد جلس فترة طويلة متمسكا بأستار الكعبة فاخبرهم بانه أضاع زوجته والتجأ الى الله يطلب منه ان تعود اليه وكرامات الشيخ احمد كمال كثيرة فالله كان يهديه ويرزقه على نيته الطيبة الصافية.
انقضت سنوات حكم عبد الرحمن عارف بهدوء وجاءت حرب 1967 التي حدثت في اثرها انقلابات عسكرية عديدة في الدول العربية ومنها العراق وجاء حزب البعث مرة ثانية الى الحكم سنة 1968..
وشهدت بداية فترة حكم احمد حسن البكر حملات اعمار كبيرة بسب توفر الموارد المالية نتيجة لتأميم شركات النفط الأجنبية في سنة 1972 وقد أدى نجاح قرار التأميم العراقي الى الغاء مفهوم احتكار البترول من قبل الشركات الأجنبية في كافة انحاء العالم ومن تلك اللحظة بدأت الدول البترولية بالسيطرة على مواردها البترولية بشكل مباشر او بتقاسم البترول مع الشركات وانتقلت شركات البترول الأجنبية التي كانت تعمل في العراق الى دول الخليج وليبيا واحدثت بذلك قفزة في تطور الإنتاج البترولي لتلك الدول مما أدى الى ما سمي لاحقا بالقفزة الاقتصادية لدول الخليج العربي .
كانت جميلة تحب النبق (ثمرة شجرة السدر) وكانت تأكل كميات كبيرة منها من شجرة السدر العملاقة الموجودة في الحديقة الخلفية وعند حلول موسم الرياح في الخريف تتساقط ثمار السدر بكميات على الأرض حيث تجمعها جميلة وتلتهم نصفها قبل ان تصل الى غرفة الطعام وتضعها في الثلاجة وكانت شجرة السدر كبيرة جدا وتصل الى الطابق الثالث من البيت وكانت تصدر أصوات عالية عندما تهب الرياح وتزعج العائلة والجيران وتنثر الأوراق والثمار على الحديقة وبقية حدائق الجيران مما تسبب في ازعاج كبير وفي يوم من الأيام في نهاية سنة 1973 قررت السيدة أسماء قطع شجرة السدر فاعترضت جميلة لاعتقادها بان هناك جن يسكن السدرة حسب المعتقد الشعبي وحصلت مشاجرة كبيرة بينها وبين السيدة أسماء وقرروا الاستشارة برجل دين فذهبت جميلة الى السيد يحيى امام جامع الأمير عبد الاله المجاور لبيتهم وسالته فاخبرها ان تلك معتقدات لا اساس لها في الإسلام ورجعت جميلة حزينة للبيت واخبرتهم برأي امام الجامع وقالت لهم انه لا يعرف معتقداتنا فهو حجازي من مكة وعندهم بيت الله الذي يحميهم من الجن فضحوا عليها وطلبت جميلة حلا ً وسطا ً للموضوع يرضي الطرفين وحسب المعتقد الشعبي البغدادي ان يذبحون تحت السدرة بعد قطعها خروفا اتقاء لشر الجن لكنهم لم يسمعوا رايها وفي صباح اليوم التالي جاء البغوان تركي بشخصين اخرين لمساعدته في قطع السدرة واستمر بقطع السدرة وقد استغرق يوما كاملا وقام بتنظيف الحديقة واختفت أصوات الرياح وارتاح الجميع من الاوساخ التي كانت تسببها شجرة السدر , ولم يمضي شهر على قطع السدرة وفي يوم من الأيام رن جرس باب البيت مجموعة من الأشخاص يطلبون مقابلة صاحب البيت وعند ادخالهم الى غرفة الاستقبال اخبروا الشيخ احمد كمال واحد أبنائه بان هناك قرار من الحكومة باستملاك بيته ومعظم بيوت منطقة العيواضية وتحويل المنطقة الى مجمع طبي تابع لمدينة الطب وتعويضهم بمبالغ مالية وسوف تزورهم لجنة أخرى لتحديد مبلغ التعويض خلال أسبوع وقد أصابت الجميع صدمة ماعدا جميلة التي قالت لهم كما حذرتكم ان قطع شجرة السدر بتلك الطريقة سيؤدي الى اقتلاعنا جميعا من بيوتنا ولم يهتم احد بكلامها فقد كان قرار إزالة المنطقة بكاملها صدمة على جميع السكان , ومنطقيا فقد كان قرار ازالة مئات البيوت قرارا قد تم اتخاذه قبل إزالة شجرة السدر بقترة طويلة.
خلال فترة وجيزة جدا تم تعويض سكان البيوت التي تم ازالتها في العيواضية وانتقل السكان الى مناطق جديدة متفرقة من بغداد فقد تم شراء بيت في منطقة المنصور الى الشيخ احمد كمال لقربه من بيت ابنه الدكتور حتى يتمكن من رعايتهم وانتقلت ابنه الشيخ احمد كمال الكبرى فرح الى شارع فلسطين وبدا عمر الذي اصبح شابا يافعا حياة جديدة هناك , جميلة كذلك بدأت حياة جديدة في المنصور وكانت صعبة جدا بالنسبة لها فلم تتمكن من الخروج من البيت للتسوق والاختلاط بالناس لان السوق بعيد جدا وكان أبناء واحفاد الشيخ احمد كمال من يقوم بالتسوق وبذلك لم تختلط جميلة بالجيران وعلاقتها بالعالم الخارجي كانت فقط عن طريق التلفون وبعد سنة من انتقالهم الى المنصور توفيت شقيقتها فريدة وبقيت لوحدها ترعى الشيخ احمد كمال والسيدة أسماء وتطبخ وتنظف البيت وكانت ترفض ان يتم تعيين خدامة في البيت , لقد كان البيت الجديد في المنصور صغيرا جدا مقارنة بالبيت القديم في العيواضية وقد ضاق الشيخ احمد كمال بمساحة البيت والحديقة الصغيرة في مدخل البيت وتوقف عن المسير والتنقل كنا كان يفعل في البيت القديم بين الحديقتين الامامية والخلفية ومع مرور الأيام مرض مرضا شديدا نقل على اثره الى المستشفى وبقي في العناية المركز أربعين يوما توفى في اثرها في خريف 1978 وتم اخراج جثمانه الطاهر من البيت الى المقبرة بمصاحبة الموسيقى العسكرية في موكب مهيب شارك فيه الاف الأشخاص وهم يدعون بالرحمة والمغفرة لذلك الشيخ الجليل والعسكري المخضرم الذي خدم السلطنة العثمانية وخدم اثنين من ملوك العراق وكان من مؤسسي الجيش العراقي , وبقيت جميلة مع السيدة أسماء فقط في البيت .
في سنة 1980 دخل العراق في حرب مع ايران وبدأت حقبة جديدة من تاريخ العراق وتقطعت الطرق واختل توازن المجتمع العراقي بشكل كبير حيث الطائرات الإيرانية تقصف المدن العراقية فتقطع الكهرباء في بعض الأحيان وتشح المواد الغذائية من الأسواق في أحيان اخرى , عمر الذي دخل الخدمة العسكرية بعد اكمال دراسته الجامعية نهاية سنة 1979 في السنة الثانية للحرب تم نقله الى الجبهة في الخطوط الامامية وكان ينزل الى البيت أسبوع واحد كل شهر واخر مرة شاهد فيها جميلة عندما كان في إجازة في البيت وقد كانت في زيارتهم مع جدته السيدة أسماء وكان الوقت صيفا وكانوا يجلسون في الحديقة وكانت جميلة عندما تمشي منحنية الظهر وجهها الى الأرض وترتكز بيديها على فخذيها عندما تمشي وتسحب ارجلها سحبا وأول ما شاهدها عمر لم يتمالك نفسه بعد ان سلم عليها وقبلها فركض الى الداخل بحجة الذهاب الى الحمام فصعد الى غرفته في الطابق الأعلى وانفجر بالبكاء ... كيف أصبحت جميلة بعد سنتين لم يرها فيها؟ ثم عاد الى الحديقة حيث يجلس الجميع وكان يتحاشى النظر الى جميلة لكي لا يظهر حزنه امام الجميع وكانت جميلة كما هي دائما تبتسم وتضحك متفائلة لكن الشيخوخة وتعب السنوات والهرم قد أصابها بسرعة كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية بسبب وفاة شقشقتها فريدة والشيخ احمد كمال وظروف الحرب وانعزالها عن العالم في بيتهم في منطقة المنصور وانشغال الجميع وعدم زيارتهم لها بسبب ظروف الحرب , انقضت الزيارة ونهضت جميلة وهي ترتدي عباءتها وقد انحنى ظهرها واخذت تمشي ببطء عندها لم يتمالك عمر نفسه فانفجر بالبكاء امام الجميع واحست جميلة بمشاعره فقالت له ليش تبكي حبيبي انا بخير ؟ فقبلها عمر بصمت وكتم حزنه فغادروا الى بيتهم وبقيت غصة في قلبه وفي الاجازة القادمة بعد شهر عندما عاد عمر من الجبهة علم ان جميلة توفيت وان جدته السيدة أسماء انتقلت الى بيتهم لعدم وجود أي شخص يتمكن من رعايتها وعاشت جدته السيد أسماء شهرين في بيتهم و في احدى اجازاته علم بانها توفيت خلال وجوده في الجبهة، لقد رحلت العائلة جميعا وغاص عمر في حزن عميق لسنوات طويلة وكان في البداية يتساءل مع نفسه كيف فقد جميلة، هل الزمن هو السبب؟ ام هي الحرب الملعونة هي السبب؟
عمر لم يبكي على جميلة حين سمع خبر وفاتها ولم يذرف دمعة واحدة عليها لأنه لم يصدق انها ماتت وكانت الحرب قد سرقت منه الوقت والمشاعر ومعظم أصدقائه وزملاء الدراسة وبعد عشر سنوات وقد انتهت الحرب وتسرح عمر من الجيش واحتل العراق الكويت وتم فرض حصار دولي كلي على الشعب العراقي وفي احد الأيام بينما كان عمر يبحث بين اغراضه القديمة وجد خاتم فضة عليه حجر عقيق يماني بلون العسل الأصفر مربع الشكل كان هدية من جميلة قد اهدته له وقالت له انه ختم ملكي والحجر مكتوب عليه بالمقلوب كلمة ( يا احمد ) ما ان رأى الخاتم حتى تذكر جميلة وانفجر بالبكاء بهستيريا دامت أيام لم يذق فيها طعم النوم فقد تذكر كيف ضاعت منه جميلة في خلال سنوات الحرب كما ضاعت احلى سنوات عمره في الجيش واخذت الحسرة تأكل قلبه لأنه اعتبر نفسه مقصرا في حق جميلة.
يا عمر .... لقد راحت باجي جميلة ولن تعود لقد ماتت جميلة بعد ان قامت بتربية ثلاث أجيال، كانت ترعى الجميع وترعى حتى قبور الموتى فمن سيرعى قبرها؟ واليوم لا أحد يتذكرها ولا أحد يعرف اين قبرها.
كانت جميلة وستبقى خالدة في ذاكرة كل من تعامل معها وستبقى روح جميلة ترعى عمر مهما طال الزمن وتمده بروحانية تضيئه نورا ً وايمانا ً ومحبة.
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/60501-2023-10-02-09-12-33.html
1765 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع