شكري سرحان
"إيلاف" من القاهرة: ضمن سلسلة النوستالجيا بالأبيض والأسود التي تُسلِّط من خلالها الضوء على سيرة حياة وقصص مشاهير نجوم الفن والغناء، تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة حياة الفنان شكري سرحان الذي أثرى الحياة السينمائية بعشرات الأفلام المتميزة.
حيث ستطرق لذكرياته منذ نعومة أظافره مروراً بأهم أفلامه في السينما المصرية التي نالت إشادات جماهيرية ونقدية، وذلك عبر مقطفات مأخوذة من تصريحاته في لقاءات نشرها الراحل وتناولت سيرته الذاتية خلال محطات تكريمه داخل مصر التي نال فيها عشرات الجوائز الفنية.
في رحاب الست طاهرة
كانت البداية في حي السيدة زينب في رحاب الست الطاهرة، وإن كان شكري سرحان قد ولد في قرية الغار بمحافظة الشرقية وعاش طفولته وجزءاً من شبابه هناك، إلا أن إقامتة في ذلك الحي الشعبي المعروف بـ"السيدة زينب"، قد صبغت حياته بصبغة دينية جعلته يؤمن إيماناً صادقاً مخلصاً بأن كل شيء في الحياة بإذن الله، كما أن السنوات الطويلة التي عاشها بين أهل البلد بكل نقائهم وبساطتهم جعلته بعد ذلك يعبِّر عن الحياة المصرية الأصلية بصدقٍ وعمق وواقعية، وأن يجسد الشخصيات المصرية في أعماله كما هي في الواقع. حيث أننا نسمع على لسان شكري سرحان كلمات المسلم قوي الإيمان المتوكل على ربه دوما، وهو كان يردد عبارة "وكان هذا من فضل ربي على" باستمرار.
وفي حي السيدة زينب يتذكر شكري سرحان أول بيت أقام فيه مع عائلته الصغيرة، ميدان صغير هو ميدان السادات يتوسطه قصر أثري يطلقون عليه بيت السادات، وفي هذا الجو التاريخي، التقى بعشرات الأطفال والشباب ومعهم كانت بدايته الرياضية فلعب كرة القدم، واشتبك معهم في معارك مشروعة، كانت بداية تعلمه فنون الملاكمة والمصارعة. فكانت متعة هؤلاء الصغار عندما يلتفون حول من يتشاجر منهم ليستكمل هو وزميلة الخناقة في جوٍ رياضي، أما الفائز فإنهم يسارعون بحمله على الأعناق ثم يحملون الإثنين على عقد معاهدة الصلح وحسن الحوار، فكانت هذه الخطوات الأولى التي تعلّم منها الرياضة ومارسها.
في ميدان السادات
وفي ميدان السادت وهو ميدان له قصة تاريخية تضرب في أعماق الحياة المصرية وفيه قصص الكفاح والبطولة والنضال. علماً أن صاحب هذا الإسم التاريخي يبعد عن تاريخ الرئيس الراحل أنور السادات حوالي 150 سنة. ولقد تعلم أيضا خطواته الأولى في الفن الذي جعل له بعد ذلك اسمه وشخصيته وشهرته في التمثيل والإلقاء. حيث أنهم كانوا يعدون بعض المشاهد التمثيلية السريعة الساذجة، وكان معظمها مرتجلاً، وإن كان به رائحة مما كان يقدمه عمالقة التمثيل في ذلك الوقت من أمثال يوسف وهبي، زكي رستم، حسين رياض، نجيب الريحاني، وغيرهم من الرواد العظام للفن المصري.
ولقد كانت كل خطوة يخطوها وكل كلمة ينطق بها في ذلك الفن الجميل تدفعه دون أن يدري خطوة على طريق حب فن التمثيل. حيث أنه كان يشعر بنشوةٍ عجيبة، وعشقٍ عميق، لهذه الفنون وهؤلاء الفنانين، مع أنه لم يكن قد شاهدهم لا من قريب ولا من بعيد.
بين الوالد والشقيق
أما والده، فكان نموذجاً للاباء الذين تمتلئ بهم الحياة المصرية، لا يقرّ بالتمثيل ولا يعترف به كمهنة أو حتى هواية ولا بالممثلين كشخصيات اعتبارية. ولم يكن يتكلم عن التمثيل، فقد جاء من قرية لا تعرف هذا الفن، ومع هذا تكونت عند شكري سرحان البذرة الأولى أو الحاسة الفنية التي نبتت في أعماقه. علماً أنه يقول بأنها نمت بداخله بعد أن وجدها تنمو أيضاً في وجدان شقيقه الذي يكبره بعامين والذي كان يحبه بعمق، وهو الفنان الراحل صلاح سرحان.
وهو يقرّ ويعترف بهذا ويقولها بصراحةٍ تامة في أحد لقاءاته الصحافية: "وللحق أقول وأحب أن أسجل لشقيقي رحمة الله عليه أنه كان قد سبقني في التعبير عن هذه الحاسة الفنية، وأول الأشكال الفنية التي شاهدتها في حياتي كانت على يدي شقيقي صلاح سرحان أو بالتحديد كانت على أطراف اصابعه عندما كان ياتي بالورق المقوي الكرتون ويجعل منه اشكالا مختلفة في صورة إنسان اوميدان ثم يضع في منتصف هذه الأوراق أعداداَ من الجريد أو قطع صغيرة من الخشب على طريقة مسرح العرائس الماريونيت ثم ياتي بمصباح الغاز ويقوم بتحريك هذه الاشكال امامه ويستغل ظلالها في التعبير عن مشاهد مختلفة على طريقة خيال الظل. ولقد كان بارعاً في هذا الفن، وكنا نضحك منها كثيراً ونمرح كثيراً، وانتقلت حركات "الماريونيت" التي كان يحركها صلاح إلي أجسامنا وعشنا لحظات من عمر الطفولة نمرح ونلعب ولكننا في ذلك الوقت لم نكن نعلم أنها بذرة الفن وأنها الخطوات الأولى على طريق طويل ومستقبل واسع".
السينما والعمارة
وكانت أول انفعالاته بالأداء التمثيلي وهو في سن الثانية عشرة، فقد أقيمت في حي السيدة زينب داراً للسينما صيفية اسمها سينما الهلال، وفي نفس الوقت أقيمت عمارة سكنية خلف السينما تُطل على شاشتها الفضية الكبيرة وكانت فرصة لكل أولاد المنطقة لمشاهدة الأفلام السينمائية المعروضة بالمكان وفي بلكون العمارة التي لم تكن قد تمت بالفعل، وإن كان مالكها قد قام بتأجير بعض الطوابق الأولى. وكان الأولاد يتسللون الى الأدوار العليا على السلالم الخرسانية وفي الشرفات التي لم تكن حواجزها قد بنيت. فيجلسون في سعادة غامرة ليشاهدوا الأفلام واستمرت هذه المغامرات الصبيانية عدة ليال وامتدت لعدة أسابيع حتي انكشفت. وربما أبلغ سكان الطوابق في المبنى وبعض أصحاب المحلات التجارية الشرطة عما يفعله الأولاد خوفاً عليهم من السقوط من أعلى العمارة. فأعد رجال نقطة السيدة زينب الكمين المناسب وفي سرية تامة أطبقوا على الأولاد وهم في قمة النشوة وروعة الإندماج وفي غلظة وفي عنف أمسكوا بهم وكان الصراخ ومحاولات الهرب والتوسل بالكلمات والحركات والبكاء والعويل.
ولقد شاهد سكان العمارة هذا الموقف التراجيدي أو المأساوي التي يحيط بأولاد منطقتهم، فتحركت قلوب النساء ورقت ألسنة الرجال، ودارت المفاوضات بين السكان ورجال الشرطة وطال الكلام وزاد الجدل واستمر الحوار لبعض الوقت. وعن هذا المشهد يقول أنه شعر آنذاك أن هناك شيئاً ما كان يدور بداخله ويحرّكه.
أول دور تمثيلي
ويحكي الفنان الراحل هذه الواقعة قائلاً "وجدتني أقوم بأول دور تمثيلي في حياتي متأثراً بالمشاهد التي رأيتها في السينما، فقد ارتميت على الأرض كالمغشي عليه تماماً ويبدو أنني أجدت حركة الإغماء وحركات التشنج والعصبية، فصرخت الأمهات في وجه رجال الشرطة حرام عليكم اتقوا الله أليس لكم أولاد صغاراً وأسرعت بعضهن بإحضار المياه البادرة والقوها على وجهي وجسمي وتأزم الموقف تماماً.
ويتذكر "سرحان" هذا الموقف وكأنه حدث بالأمس وهو يقول: "كان بإمكاني أن أنهي الموقف على هذا الوضع وأفوز بعطف الناس وسماحة رجال الشرطة وينتهي كل شيء. ولكنني صممت بيني وبين نفسي أن أثبت للجميع أنني ممثل وأنني أتقنت الأداء التمثيلي، فأسرعت بالجري قفزاً على السلالم وهربت بسرعة البرق ولا بد أن هذا الموقف أذهل كل من شاهده وكانت مفاجأة لهم جميعاً. وعندما أفاقوا من الصدمة كنت قد اقتربت من باب بيتي القريب من السينما وأنا في قمة سعادتي لنجاحي بتمثيل أول دور في حياتي.
857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع