عبدالمنعم إبراهيم من أكثر المضحكين احتراما وأعظمهم مكانة لدى المثقفين
العرب/ محمد شعير:ترك الكوميديان المصري عبدالمنعم إبراهيم أثره في المسرح والسينما والتلفزيون وحُفرت أعماله في ذاكرة الكثير من المصريين، واستطاع أن ينتزع من الجمهور الابتسامة والضحكة في الوقت نفسه الذي يمكنه فيه أن يبكيه، لاسيما ضمن أدواره الأخيرة.
في حياة الإنسان لحظة فاصلة، يتغير وجه الحياة بعدها، والمهم عندئذ هو الاختيار والقرار، وما قد يلقاه من نصائح مخلصة. حدث هذا مع الفنان المصري الراحل عبدالمنعم إبراهيم، الكوميديان الذي ملأ الدنيا سرورا وبهجة، بالرغم من أن حياته لم تكن عامرة بالضحكات، إنما مراحل ممتدة من الدموع والألم والتضحيات.
وصدر للناقد المصري أحمد سعدالدين كتاب “عبدالمنعم إبراهيم.. عصفور الفن” بمناسبة مرور مئة عام على ميلاد الفنان الكبير الذي شهد منتصف القرن الماضي سنوات تألقه، قدم خلالها أجمل أعماله المحفورة في ذاكرة الكثير من المصريين. وعندما شرع المؤلف في إعداد كتابه كان يتصور أنه سيكتب عن كوميديان يعيش حياته ضاحكا ليل نهار مثلما يعتقد الجمهور، لكنه ما إن قرأ عنه واقترب من أبنائه ومعاصريه حتى وجد نفسه يقف أمام عملاق وقفت الدنيا ضده كثيرا لكنه واجهها بقوة ورضا معا.
أحب الطفل عبدالمنعم إبراهيم محمد حسن الدغبشي المولود في الرابع والعشرين من أكتوبر عام 1924 بمحافظة بني سويف (جنوب القاهرة) الفن منذ الصغر، فشارك مع فريق المدرسة في العزف على آلة البيانو، وكان يذهب مع والده وهو في التاسعة من عمره إلى المسرح لمشاهدة أعمال الفنان علي الكسار، فيتعجب من هذا الرجل الذي ينجح في انتزاع ضحكات الجمهور بمجرد ظهوره على المسرح.
الصديق مدبولي
في المرحلة الثانوية تعرف على شاب يحب الفن مثله، سيكون فيما بعد الفنان الكبير عبدالمنعم مدبولي، وقدما معا عددا من المسرحيات في ساحات عابدين والأزبكية (وسط القاهرة)، ووافق الفنان الكبير جورج أبيض على أن يقوم بإخراج إحداها لهما.
ورغم حب إبراهيم للفن، إلا أنه لم ينسَ دراسته فحصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية، وتم تعيينه فى وزارة المالية كموظف مبتدئ.
في هذه الأثناء افتتح زكي طليمات معهد التمثيل الذي عُرف بعد ذلك بالمعهد العالي للفنون المسرحية، فسأله صديقه مدبولي “ما رأيك في أن نلتحق بالمعهد،” لكن عبدالمنعم إبراهيم رد قائلا “انتظر فلربما يتم غلقه بعد شهرين كما حدث من قبل.”
كان المعهد قد افتُتح بالفعل للمرة الأولى عام 1933 وتم غلقه بعد فترة قصيرة بسبب فتوى أن التمثيل حرام، لكن زكي طليمات لم ييأس وحاول حتى نجح في افتتاح المعهد عام 1944، فالتحقت به دفعتان ضمتا فاتن حمامة وشكري سرحان وفريد شوقي وحمدي غيث وزهرة العلا، وكان بصدد قبول الدفعة الثالثة.
كان عبدالمنعم إبراهيم أول المتقدمين إلى الدفعة الجديدة مع صديقه عبدالمنعم مدبولي، ووقف أمام لجنة اختبار مكونة من عظماء وأساطين المسرح في ذلك الوقت: جورج أبيض ومحمد حسن وحسين رياض ونجيب الريحاني ويوسف وهبي وزكي طليمات وأنور أحمد. وبينما تقدم أكثر من ألف وخمسمئة طالب للاختبار تم قبول عشرين منهم فقط، بينهم إبراهيم ومدبولي، تمهيدا لدخول مرحلة التصفية الثانية.
حان موعد اللحظة الفاصلة، وتبقّى يومان فقط على موعد الاختبار النهائي، على أمل بدء طريق الحلم في الفن ودراسته، لكن شاء القدر أن تتوفى والدة عبدالمنعم إبراهيم. في لحظات انهار عالمه. تملكه الحزن. سيطرت عليه الحيرة فيما إذا كان سيكمل طريق حلمه أم ينهيه بيده فلا يتقدم إلى الاختبار من الأصل. ماذا يفعل؟ ذلك هو السؤال.
هنا يأتي دور الصديق المخلص عبدالمنعم مدبولي الذي كان يمكن أن يسعد في داخله بإزاحة ممثل واعد من ساحة المنافسة الطاحنة لاختيار المقبولين بالمعهد من بين المتقدمين العشرين، لكنه راح يقنع إبراهيم بضرورة دخول الاختبار النهائي، وأن يعتبر ذلك تحديا حتى يثبت ذاته ويتغلب على أحزانه ويُسعد روح أمه الراحلة.
بالفعل، يقف عبدالمنعم إبراهيم أمام لجنة الاختبار، ليؤدي مشهدين، أحدهما جاد باللغة العربية الفصحى من مسرحية “قيس وليلى” لأمير الشعراء أحمد شوقى، أما المشهد الآخر فكان من رواية “عبدالستار أفندي” للكاتب الكبير محمد تيمور، وفيه جسد شخصية الأستاذ خليفة بأداء كوميدي، قدمه بإجادة بينما الدموع تملأ عينيه.
طاقية إخفاء البطولة
قدم إبراهيم حوالي مئتي فيلم على مدى ستة وثلاثين عاما، بدأها بفيلم “ظهور الإسلام” عام 1951، لكن العام 1957 كان يعتبر “وش السعد” إذ شارك خلاله في عشرة أفلام متميزة، منها اثنان مع عبدالحليم حافظ وفيلم مع فريد الأطرش، بالإضافة إلى دوره المميز في فيلم “إسماعيل ياسين في الأسطول”، ليبدأ بعد ذلك تقديم أول بطولة مطلقة له في فيلم “سر طاقية الإخفاء” الذي حقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية آنذاك، ليتوقع الجميع أن تكون هذه بداية انطلاقته الكبرى التي ستلحقها بطولات أخرى، لكن الغريب أن إبراهيم عاد بعد ذلك إلى أداء الأدوار الثانية، كأنه ارتدى بالفعل طاقية إخفاء البطولة، فما السر؟
يجيب الصحافي والناقد المصري أحمد سعدالدين مؤلف كتاب “عصفور الفن” عن سؤال “العرب” قائلا “إن العنوان الكبير لشخصية إبراهيم هو الرضا الشديد والتصالح مع الذات، وقد سئل في حوار مع التلفزيون الأردني في عام 1982 حول كونه لم يصبح نجما بالرغم من أنه كان كذلك بالفعل، ففهم السؤال ورد بأنه لو كان استغل الفترة التي أعقبت فيلم ‘سر طاقية الإخفاء’ لأصبح في مكانة مختلفة، لكن كانت هناك ظروف أخرى لا يعرفها الناس.”
بحث سعدالدين لمعرفة هذه الظروف، فوجد أن الفنان الكبير كان لديه في تلك الفترة أربعة أبناء وأربعة أشقاء وزوجته، أي أنه كان مسؤولا عن الإنفاق على عشرة أفراد، فتساءل آنذاك “هل أقوم بأدوار البطولة فقط وأنتظر حتى يأتيني دور واحد كل عام أم أقبل بما يعرض عليَّ كي أعمل باستمرار.”
اختار عبدالمنعم إبراهيم الحل الثاني برضا وقناعة، ولأنه كان مثقفا محبا للقراءة فقد انعكست ثقافته على قراره، واختياره أن يقوم بأداء أدوار يكون كل منها في حد ذاته بطولة، ففي فيلم “سكر هانم” على سبيل المثال كان هناك نجوم مثل كمال الشناوي وعمر الحريري وسامية جمال وعبدالفتاح القصري وحسن فايق، لكن الثقل الرئيسي في الفيلم كان لإبراهيم الذي قدم الشخصية المحورية داخل العمل وسُمي الفيلم باسمها، فقد أحب تقديم الكوميديا لكن من خلال أدوار محترمة، أو الكوميديا الأخلاقية كما كان يسميها، وفق ما يكشفه أحمد سعد الدين لـ”العرب”.
ويضيف أن إبراهيم كان أفضل من جسد شخصية الأزهري أو الدرعمي (خريج كلية دار العلوم) في السينما، من خلال شخصية عبدالبر في فيلم “إسماعيل ياسين في الأسطول”، والخطيب في فيلم “المرايا” مع نجلاء فتحي وعادل إمام، كما برع في أداء شخصية المجنون من خلال فيلمي “إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين” و”بين السماء والأرض”.
ومع اختلاف الشخصيات احتفظ لنفسه بأدائه السلس في الكوميديا، مبتعدا تماما عن كوميديا “الفارص” التي تعتمد على المباشرة والمبالغة، واختار أن تكون تعبيرات وجهه هي البطل في الأداء مع كلمات حوارية قليلة، ما يقترب من الأداء التعبيري “البانتومايم”، لذلك حفظ الجمهور عن ظهر قلب إفيهاته وحركاته بل وتعبيرات وجهه في أفلامه.
ابتسمت السينما لعصفور الفن، وأحب المشاهدون تغريده عبر شخصياته الكوميدية العديدة التي يؤديها، وبالتوازي مع ذلك كانت له في المسرح قصة أخرى ربما اعتبَرها الأهم، لكن ابتسامة الدنيا كثيرا ما يعقبها الدمع، ففي تلك الفترة أصيبت زوجته بمرض السرطان وأخبره الطبيب بأن ما تبقى لها في الدنيا هو شهور معدودة.
عندئذ كان الموعد مع تضحية جديدة في حياته، إذ طلب إبراهيم من الطبيب ألا يخبر زوجته بالأمر، وتولى رعايتها حتى توفيت دون أن تعرف بمرضها، فكانت تلك الفترة من أصعب الفترات التي مرت به، إذ كان مضطرا إلى العمل وهو شارد الذهن، محكوما بوطأة الألم والعجز.
وهنا يضع أحمد سعد الدين يده، كما يقول لـ”العرب”، على جانب آخر مهم من جوانب عظمة عصفور الفن، إذ كان بالرغم من صعوبة ظروفه يخلع عباءة حياته الشخصية على باب المسرح القومي الذي كانت له قدسية خاصة عنده، فكان يذهب إلى أداء الشخصيات التي يلعب دورها معتبرا أن الجمهور الذي يتوجه لمشاهدة مسرحية لا دخل له في الظروف الشخصية للفنان، وعن ذلك يقول “مهمتي أن أسعده كما يريد.”
ويكشف مؤلف الكتاب أن عبدالمنعم إبراهيم انصب تركيزه على العمل في المسرح القومي بمصر، حتى أنه شارك في حوالي مئة وثلاثين مسرحية، وللأسف لم يتم تصوير سوى خمس أو ست مسرحيات منها فقط، هي ما تبقى من إنتاجه المسرحي الضخم.
تغريدة آدم الأخيرة
إبراهيم نجح في انتزاع ضحكات الجمهور بمجرد ظهوره على المسرح
طوال فترة عمله في المسرح أجمع كل زملائه على محبته، فلم يحدث يوما أن دخل في صراع على دور أو تأخر عن موعد بروفة أو رفع الستار، وحافظ على التقاليد المسرحية التي تعلمها من جيل الأساتذة؛ زكي طليمات ويوسف وهبي وجورج أبيض، حتى اليوم الأخير في حياته. وأوصى بأن يخرج جثمانه بعد وفاته من المكان الذي أحبه وشهد خطواته الأولى، وهو المسرح القومي بوسط القاهرة، وتحقق له ما أراد.
في التلفزيون لم يحط عبدالمنعم إبراهيم على شجرة الكوميديا فقط، إنما تنقل بين الكثير من الأعمال التراجيدية التي قدمها ببراعة شديدة، جددت إثبات قدراته الفنية المتفردة، عبر الشخصيات التي أداها في مسلسلات “هي والمستحيل” و”زينب والعرش” و”الشهد والدموع”، بينما جاءت شخصية عم آدم في آخر أعماله التلفزيونية “أولاد آدم” ليبدو معها العصفور كمن يطلق تغريدته الأخيرة، مودعا جمهوره بأداء مبهر في عمل فني كبير.
وصف الكاتب الكبير الساخر محمود السعدني موهبة عبدالمنعم إبراهيم، في كتابه “المضحكون”، بأنها عريضة مثل السمك البلطي، وناعمة ورقيقة مثل حرير اليابان، ومتعددة الألوان مثل لافتات الإعلانات، ورغم ذلك فهو أقل المضحكين الكبار حظا وفرصة وشهرة. ويرى أنه لو ظهر في إنجلترا مثلا لشق طريقه إلى القمة بسهولة، فهو بملامحه الهادئة وحركاته البسيطة يسهل أن تشم فيه رائحة المضحك الأميركي لوريل زميل هاردي.
وفي نظر السعدني سيظل أكثر المضحكين احتراما وأعظمهم مكانة لدى المثقفين، أولئك الذين تثقفوا في الغرب خصوصا، وسيضحك من الأعماق لفنه هؤلاء الذين يضحكون لأوسكار وايلد ومارك توين.
ويشير المؤرخ المسرحي المصري عمرو دوارة إلى أربع مسرحيات يعتبرها درة الأعمال المسرحية لعبدالمنعم إبراهيم، هي: “حلاق بغداد” و”علي جناح التبريزي وتابعه قفة” و”عسكر وحرامية” و”معروف الإسكافي”، ثلاث منها من تأليف الكاتب الكبير ألفريد فرج الذي ربطته به كيمياء خاصة إيمانا بموهبته، إلى درجة أنه أعلن اعتزاله الكتابة الكوميدية بعد وفاة إبراهيم لرحيل ملهمه الأول.
وضمن الشهادات التي يقدمها كتاب “عبدالمنعم إبراهيم عصفور الفن” يصف الناقد والمؤرخ العراقي مهدي عباس أداء الفنان “خفيف الدم” بأنه يعتمد على البساطة والعفوية إلى درجة أنك كلما شاهدته شعرت بأنه لا يُمثل بل يقدم شخصيته هو، وهذا هو الإبداع بأم عينه، كما يقول، معتبرا أنه ينتمي إلى مدرسة “الضاحك الباكي” وهو اللقب الذي أطلقه النقاد على الفنان الكبير الراحل نجيب الريحاني، إذ أن إبراهيم كان قادرا على أن ينتزع منك الابتسامة والضحكة والقهقهة في الوقت نفسه الذي يستطيع فيه أن يبكيك، لاسيما في أدواره الأخيرة.
رحلة شاقة قطعها الناقد أحمد سعدالدين خلال تأليف كتابه، كما يقول لـ”العرب”، إذ وجد أن المعلومات المتوفرة عنه على شبكة الإنترنت شحيحة، وعندما التقى ابنته عرف أن نسبة ستين في المئة منها خاطئة. لكنه خلال الرحلة كان ينظر أحيانا إلى السماء فيشعر به كأنما يجلس معه ويكلمه. وعندما أنهى الكتابة أحس برغبة في الطيران كتلميذ صغير أنهى للتو الامتحان، فقرر الخروج للسير في الطريق مع زوجته، رغم أن الوقت كان بعد منتصف الليل في القاهرة، وعندئذ شعر بعصفور الفن يضحك له، وينظر بعمق لعينه بنظرته الطيبة التي عرفها الناس عنه، فأحبوه وأحبوها.
https://www.youtube.com/watch?v=Nvg183EbrAQ
565 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع