أشهر محاكمة صحفية وأدبية في تاريخ العراق واطرفها

    

 أشهر محاكمة صحفية وأدبية في تاريخ العراق واطرفها

   

         

الدكتورعبد الحسن زلزلة ، ولد في مدينة العمارة سنة 1928، وفي عام 1941 إنتقل مع  أسرته إلى بغداد 1948  تخرج من كلية الحقوق بدرجة الشرف الأولى ثم حصل على  الماجستير 1954  والدكتوراه في الاقتصاد سنة 1957.وضع أول خطة خمسية  للعراق 1965 ـ 1969  واختير أميناً عاماً مساعداً للجامعة العربية وساهم  بإخلاص لإقرار  ستراتيجية موحدة للعمل الاقتصادي العربي المشترك التي  أقرنها أو وآخر قمة  اقتصادية عربية سنة 1980.

تقلد وتنقل في عدة مناصب هامة منها: محافظ للبنك المركزي في العراق، سفير العراق في إيران والنمسا ومصر. وزير للصناعة، وزير للتخطيط. له ما يزيد على أربعين كتاباً ومئات البحوث والخطب والمداخلات والتعليقات التي يغلب عليها الطابع الاقتصادي وله ديوان شعر حافل بالمواضع الوطنية التي الهبت مشاعر الجماهير العراقية في الأربعينات والخمسينات قبل انصرافه لأعماله ودراساته الاقتصادية، ومن بين أهم أعماله الشعرية التي أحدثت ضجة سياسية كبيرة في العراق قصيدة (تمثال العبودية) التي نشرتها لواء الاستقلال في العدد 146 الصادر في 21 آذار1947 مذيلة باسم (صقر) وهو الاسم المستعار للدكتور زلزلة...

     

فألقي القبض بسببها على صاحب الجريد الأستاذ قاسم حمودي أواخر آذار 1947 متهمة نشر قصيدة ضد تمثال الملك فيصل الأول في حين أن المقصود بالقصيدة هو تمثال القائد الإنجليزي مود وحكمت المحكمة عليه بالحبس لمدة سنة أمضى منها ثلاثة أشهر وأصدر حزب الاستقلال كراساً تضمن سير المحاكمة وكانت صورة غلافة لقطة فوتوغرافية لقاسم حمودي بملابس السجن والسلاسل في يديه، وسرعان ما تحولت المحاكمة من سياسية إلى سياسية أدبية حيث اختارت المحكمة بعض المحكمين من الشعراء والأدباء بعد طلب قدمه المحامون الأساتذة فائق السامرائي وعبد الرزاق شبيب وحسن علي التكريتي وعبد الرزاق الظاهر، وعند ذلك استمعت المحكمة لإفادات مهمة قدمها الأساتذة:
أحمد المناصفي، محمد رضا الشبيبي، عبد الحسين الزري، محمد مهدي الجواهري، محمود الملاح، مهدي مقلد، محمد بهجة الأثري، الدكتور سليم النعيمي، هاشم عطية، وفي جلسات أخرى قدمت إفادات عدد آخر من علماء العراق وأعلامه أمثال:
الشيخ بشري الصقال، الشيخ محمد جواد الجزائري، الدكتور داود الجلبي، الدكتور مصطفى جواد، أكرم أحمد، الشيخ علي الشرقي، السيد منير القاضي، حسين علي الأعظمي، الحاج حمدي الأعظمي، السيد محمد صادق الصدر، السيد صادق الأعرجي، السيد صادق الملائكة، السيد حامد مصطفى.

                    

وانتهت محكمة جزاء بغداد في 4 /8/1947 برئاسة السيد عبد العزيز الخياط الحاكم من الدرجة الأولى المأذون بالقضاء من قبل صاحب الجلالة ملك العراق إلى أن القصيدة موضوعة بحث المحاكمة هو تمثال (الجنرال مود) وليس لها أي مساس بتمثال جلالة الملك فيصل الأول وأفرج بعدها عن المتهم قاسم حمودي ورفع الحجز عن جريدته لواء الاستقلال.
وطويت بذلك صفحة رائعة من أشهر المحاكمات الصحفية في العراق، دون استجواب صاحب العقيدة، ودون المساس بحريته، ومن هناك تأتي أهمية هذا المقال الهام على صعيد تلك المحاكمة ذلك أن هذه الشهادة تأتي بعد نصف قرن ونيّف من السنين لتستكمل حلقات تلك الحادثة المثيرة والتي لا زال يتذكرها الكثير من نابهي الجيل الماضي والحاضر، فشكراً للأستاذ الدكتور عبد الحسين زلزلة الذي تفضل وخصَّ أكاديمية الكوفة بهذه الشهادة التاريخية مقدرين له حسن ظنه وثقته بهذه المؤسسة الرائدة سائلين الله تعالى أن يمتعه بوافر الصحة والعافية.

                  
إفادة الدفاع الأستاذ محمد مهدي الجواهري
 الحاكم: عمرك؟
الشاهد: 43 سنة.
الحاكم: صنعتك؟
الشاهد: صحافي.
الحاكم: أين تقيم؟
الشاهد: في الكرخ.
محلفاً أفاد:
س – إذا كنتم قد اطلعتم على القصيدة المنشورة في جريدة لواء الاستقلال تحت عنوان " تمثال العبودية "، وهي موضوعة بحث هذه الدعوى فنرجو أن تبينوا لنا القصد الذي ترمي إليه هذه القصيدة؟
ج – أن أطلعت على هذه الأبيات وقرأتها أكثر من مرة وكما أعرف عن قواعد الشعر أن الكناية أبلغ من التصريح، وبموجب هذه القاعدة وجدت هذه الأبيات تكاد تكون صريحة أن المقصود منها هو تمثال الجنرال مود، بحيث لو أن الصراحة فيها تجاوزت هذا الحد لكان الشعر فيها يكاد أن يكون مبتذلاً، فهي بكناياتها وإشاراتها وصفاتها المحددة الواضحة أبلغ مما لو أضيف إليها اسم الجنرال مود، والذي استند إليه في هذا التركيز هو التباهي والتبختر في البيت الأول والذي لا ينطبق أبداً على غير تمثال الجنرال مود، فهو بالبزة العسكرية بزة الفاتحين الذي ينطبق عليه التباهي والتبختر، وفي البيت الثاني الازدراء بالشعب، ولا أعلم كيف يمكن صرف هذا البيت إلى غير تمثال مود، فلا يخطر على بال أحد أن ملكاً للبلاد يمكن أن يزدري بالشعب، والبيت الثالث قيادة جيوش العرب للنصر، وكل التواريخ الحديثة تؤيد أن العرب وجيوشها كانت منضمة إلى الحلفاء وبقيادة موحدة مع القيادة العامة للحلفاء. وإن النصر المقدر لا يفهم منه إلا انتصار الحلفاء على أعدائهم ويوضحها البيت الذي بعده وهو دحر الأعداء. وأما البيت الخامس فهو التاريخ المسطّر مقيداً بأنه تأريخ للأمة، ويراد بها الأمة العربية طبعاً، مما لا يتحدد مع العراق وحده يمكن صرف الشعر إلى جلالة ملك العراق. وأبلغ ما فيها دلالة على أن المقصود هو مود البيت السادس وهو الذي يقول عن التمثال أنه رمز للعبوديات ورمز للحق المعفّر. وأنا بوصفي شاعراً ومواطناً لا أعلم أن هناك تمثال يمكن أن ينطبق عليه هذا غير تمثال مود، وهو أي التمثال الشامخ في الجو متجبراً مما يفهم منه في البيت السابع، وكذلك البيت الثامن وهو آخر الأبيات الذي يقول للتمثال ((أن تكبرت على مجد هوى فالله أكبر)) فهل يجوز من كل الاعتبارات والمقاييس الأدبية وغيرها أن يتكبر ملك البلاد ساهم في إحياء مجدها على هذا المجد، وهل يتكبر على مجد بلاد هوى إلا من يهون عليه ذلك. وهذا مما لا يفهم منه ولا يجوز أن يفهم شيء يدل على غير تمثال الجنرال مود. هذا ما عندي مما فهمته بوضوح وصراحة من هذه الأبيات - وهذه شهادتي.
إفادة شاهد الدفاع الحاج عبد الحسين الأزري
الحاكم: عمرك؟
الشاهد: 66 سنة.
الحاكم: صنعتك؟
الشاهد: ملاك.
الحاكم: محل إقامتك؟
الشاهد: في محلة بستان كبة.
وبعد أن أدى القسم على المصحف الشريف، محلفاً أفاد:

س – لقد طلب وكلاء المتهم محاموا الدفاع عند استماع شهاداتكم لصالح موكلهم باعتباركم شاهد دفاع له، لذا أبرز إليكم نسخة جريدة لواء الاستقلال الصادرة بتاريخ 21/3/47 الحاوية على ثمانية أبيات من الشعر تحت عنوان "تمثال العبودية" راجين بيان رأيكم عن الجهة التي تصرف إليها معاني الشعر المذكور. هذا مع العلم بأن في الكرخ تمثالان الأول لصاحب الجلالة المغفور له الملك فيصل الأول، والثاني للجنرال مود؟
ج – أنا طالعت الأبيات، وأمعنت النظر فيها، ففهمت من مجموعها أن الشاعر لما أراد أن ينظم لم تذهب عن ذهنه الغاية التي تقام التماثيل من أجلها في كل عاصمة من عواصم الأمم، وهذه الغاية هي لتكون هذه التماثيل رمزاً لمجد تلك الأمة وشعاراً لتأريخها الحافل بالنصر وتنويهاً لإبطالها الظافرين، ولذلك أخذ يسأل هذا الشاعر في الأبيات الخمسة الأولى، هل أن هذا التمثال تنطبق عليه هذه المعاني فاسترجع وقال أن هذا التمثال هو رمز العبودية، ثم قال في الأبيات الثلاث الأخيرة ((أيها التمثال المتكبر على مجدنا الذي هوى، إذا تكبرت فإن الله أكبر منك))، وهذا ما يشبه قول القائل الضعيف الذي ظلمه القوي ((الله أقوى منك))، فحصل عندي من مجموع هذه الأبيات أن المقصود هو تمثال الجنرال مود. وهناك إشارات تؤكد ذلك، وهي قوله ((أيها المزدري بالشعب)) ولا شك أنه يقصد الشعب العراقي والازدراء لا يكون إلا من جانب القوي المسيطر، وهذا ما يؤيد أن المقصود هو تمثال الجنرال مود – وهذه شهادتي.

          

إجابة معالي الشيخ محمد رضا الشبيبي
عزيزي الأستاذ السيد داود السعدي
أمين سر العام لحزب الاستقلال المحترم

بعد التحية
رغبتم إليّ في كتابكم المؤرخ 26/3/1947 أن أوافيكم برأيي في معنى المقطوعة المشار إليها في الكتاب المذكور، ومن رأيي وقد قرأت المقطوعة أن الشاعر قصد تمثالاً يرمزون بإقامته إلى قهر الأعداء وانتزاع العراق من أيديهم وفرض السيطرة عليهم، وهذا ينطبق كل الانطباق على تمثال الجنرال مود. ولا محل مطلقاً لزعم من يزعم أن الشاعر قصد تمثال المرحوم الملك فيصل بدليل الاستفهام الإنكاري الوارد في أول البيت الثالث فما يليه. ولنا أن نقول مضافاً إلى ما تقدم أن المقطوعة من حيث مجموعها ثناء بالغ على بطولة ذلك الملك الهاشمي ومآثره الخطيرة. وهذا هو رأيي أبعث به إليكم مع مزيد الاحترام.
بغداد في 29/3/1947

محمد رضا الشبيبي
إجابة الشيخ بشير الصقال
 باسم الله الرحمن الرحيم
سعادة أمين السر العام لحزب الاستقلال المحترم

تحية طيبة
كتابكم المرقم 754 والمؤرخ 26/3/1947 الذي تستطلعون فيه رأي هذا العاجز في المقطوعة التي ترجمتها " تمثال العبودية " في جريدة الاستقلال العدد المؤرخ 21/3/1947: (عما إذا كانت هذه المقطوعة تشير إلى تمثال باني كيان البلاد جلالة الملك فيصل المعظم أم إلى تمثال مود القائم في جانب الكرخ).
فأقول بالله أتأيّد:
- لقد أعدت النظر مرات في هذه المقطوعة أفتش عن أن لما ذهب إليه ذاهب من أن (هذه المقطوعة تشير – وأنا أقول: أو فيها ما يشير – إلى تمثال جلالة الملك فيصل المعظّم) فلم أوفق.
على أن الذي يسلك ما ذهب إليه الذاهب من معنى في سلك التعذر بل الاستحالة قول الشاعر: (وازدرى بالشعب لما أن تعالى وتكبر).
فمتى وأين كان قد ازدرى فيصلنا الحبيب بشعبه؟!
وأصرح من كل ما في المقطوعة على استحالة إرادة الشاعر تمثال الملك فيصل رحمه الله هو هذا (إن تكبرت على مجد هوى فالله أكبر).
هناك أدلة وقرائن عديدة تصدم المعنى القائل بإشارة المقطوعة إلى تمثال جلالة الملك فيصل المعظم.
والله أسأل أن لا يحملنا التعصب للرأي على أن نزج بأمجاد لنا وأجداد، وقادة في ميادين لا تنسجم ما لهن خطر في هذا الوجود وأثر.
كتبه العاجز جواباً على سؤال وصلني من
حزب الاستقلال في 28/3/1947 – بشير الصقال.
إجابة الشيخ محمد جواد الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأستاذ الفاضل أمين السر العام لحزب الاستقلال المبجل
أما بعد السلام والإكبار، فقد وردني كتابكم المؤرخ بـ 26/3/1947 يتضمن السؤال عما أرتأيه فيما تشير إليه المقطوعة التي نشرتها جريدة " لواء الإستقلال " في عددها الصادر بتاريخ 21/3/1947، وأغربني هذا السؤال. لظهور دلالة المقطوعة. ووضوح اتجاهها إلى غير تمثال جلالة الملك المعظم ويكفي طالب الحقيقة شاهداً على ذلك ما يأتي:
1 – العنوان المشهود للمقطوعة " تمثال العبودية " وهو يأتي الاتجاه إلى جلالة الملك فيصل المعظم، تمثال الحرية وبأني كيان البلاد، ومنقذها من هوة العبودية، وهذا أمر لا يسع عربياً أن يمارى فيه.
2 – تكرر الاستفهام الإنكاري في المقطوعة بعد قول الناظم ((وازدرى بالشعب)) الذي لا تخفى دلالته على ذلك لدى العارف بالصناعة.
3 – المقطوعة النونية التي نشرها هذا الناظم في هذه الجريدة قبل هذا العدد وقد عظم فيها البيت الهاشمي وخص جلالة الملك الذي عرف بالوطنية الصادقة والمفادات في سبيل استقلال البلاد، الأمر الذي خطه جلالة الملك المرحوم لكافة البلاد العربية.
وعلى الجملة فاحتمال اتجاه المقطوعة إلى جلالة الملك المرحوم شذوذ عن الصناعة وفن الأدب العربي. وقرائن الأحوال، والمقال، ودم موفقاً للصلاح والإصلاح.
6/ج1/1366 

محمد جواد آل الشيخ أحمد الجزائري

إجابة الأستاذ أحمد المناصفي المحامي
لجانب أمانة السر العامة لحزب الاستقلال المحترمة

تحية طيبة:
تسلمت كتابكم المرقم 754 والمؤرخ في 26/3/1947 الذي تستطلعون فيه رأيي في المقطوعة الشعرية المعنونة بـ(تمثال العبودية) المنشورة في عدد جريدة لواء الاستقلال الصادر بتاريخ 21/3/1947.
إن البيت الأول من المقطوعة يدل على أنها مقولة في تمثال في (الكرخ).
ولدى تدقيق أبيات المقطوعة – منفردة ومجتمعة – إتضح لي أنها مقولة في (تمثال الجنرال مود) على صورة قاطعة، وأنه ليس ثمة وجه للظن بأنها مقولة في (تمثال الملك فيصل).
والدليل على ذلك أن جميع الأعمال التي ينكرها الشاعر على صاحب التمثال (كقيادة جيوش العرب للنصر، ودحر الأعداء، وخط تاريخ مسطر للأمة.. ألخ) تتوفر جميعاً في الملك فيصل، وتنتفي في الجنرال مود. بينما جميع الصفات التي ألصقها الشاعر بالتمثال (كالتبختر والازدراء بالشعب والتكبر والرمز إلى العبوديات وإلى الحق المعفّر) لا تنطبق على تمثال الملك فيصل.
والبيت الأخير في المقطوعة هو دليل قاطع على أنها مقولة في تمثال غير تمثال الملك فيصل، إذ أنه ليس في الأمة العربية من يبلغ به الجهل أو الكذب أو الغرض أو أي شيء آخر، إلى أن ينسب إلى سيدنا المغفور له الملك فيصل الأول التكبر على مجد العرب الهاوي، وهو الذي اجتمع العرب على أنه الملك العربي الصالح الذي شب وشاب وقضى، مجاهداً في سبيل بعث ذلك المجد، وإحياء معالمه، وتوطيد أركانه، وتفضلوا بقبلو فائق احترامي.

(عن كتاب اشهر المحاكمات الصحفية)
 للراحل احمد فوزي بتصرف
المصدر: المدى - الكاتب:أحمد فوزي عبدالجبار

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1450 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع