بغداد ايام الزمن الجميل /١٦عگد النصارى ايام زمان
كانت بغداد كما هي معظم المدن التاريخيه تعج بالمناطق الشعبيه التى توارثت الحياة البغداديه العامه واضافة اليها نكهتها الخاصه و حسب طبيعة عيشها ودينها وقوميتها وجذورها ولذلك نجد هذه المناطق والتي تسمى بغداديا بالمحلات تمتاز بطعم خاص ولون فريد يميزها عن باقي المحلات والتي تمتاز هي الاخرى بمميزات خاص بها ولقد تنوعت حتى باتت تشتهر فيها وتسمى باسمائها منها الاكلات والحلويات والصناعه و الحرف العامه او باسماء شخصيات او طائفه .
اليوم نتناول محله عزيزه بذكرياتها ونكهتها وخصوصيتها وجمالها وعادات سكانها وهي ( عگد النصارى) الذي له طعم خاص ولون خاص اضافة الى كونه يقع في وسط بغداد الرصافه و بين الشورجه من الشمال الغربي وساحة حافظ القاضي في الجنوب الشرقي وشارع النهر في الجنوب الغربي وجامع الخلفاء فى الشمال الشرقي وكانت متصله فيما بينها حتى اخترقها شارع الرشيد ... وتتألف من عدد من البيوت التي تقع على الزقاق الرئيسي وهو الان ما يسمى (عگد النصارى) والازقة الفرعيه الصغيره الاخرى,, الذي تحول الى محلات لبيع التجهيزات الكهربائيه ومستلزماتها وتحولت بيوتاتها الى مخازن ومحلات وامتلاْت بها المعدات والتجهيزات بعد ان كانت تعج بالعوائل المسيحيه التي ارفدت الحياة البغداديه بالكثير من الادباء والعلماء والسياسين وكان لها دور كبير وواضح في الحياة العامه .
ايام زمان في النصف الاول للقرن العشرين وماقبله كانت هذه المحله تزخر بالحياة والفن والآنس والطرب والفرق والموسيقيين وارباب الصناعه ولكي ندخل هذا الباب لابد ان نتعرف على مآثر هذا الزقاق (العگد ) بهذه القصه التي ارتبطت بابيات شعريه اشتهرت وغناها اشهر المطربين مثل ناظم الغزالي وصباح فخري ورددها الكثير وتتلخص القصة كما رواها الكثير واكثرها شهره هي ..
خلال الحكم العثماني كانت منطقة الشورجه معسكرا للجيش العثماني والشورجه تقع بجوار ( عگد النصارى ) وصادف ان التحق الى هذا المعسكر ضابط عربي تخرج حديثا من الكليه العسكريه العثمانيه في الاستانه اسمه احمد وكان جميل الطلعه وفي عنفوان الشباب ومعتز في بدلته العسكريه الجميله متبخترا بمشيته..
وقد صادف في احد الايام وهو في طريقه الى جامع الخلفاء لاداء الصلاة ان وقعت عيناه على صبيه جميلة سقط عن وجهها خمارها الاسود وتبادلا النظرات فوقع في حبها وبادلته الحب دون ان يتحدثا لبعضهما وهذا ما يسمى بالحب من النظره الاولى وتابعها وهي تدخل عكد النصارى فصار مواضبا على زيارة العكد يوميا لعله يحظى برؤيتها حتى اصابه اليأس وانقطع عن الذهاب ولكنه ظل على هواه مولعا بها وفي ظهر احد الايام يفاجىء وهو في المسجد بعد ان انهى وضؤه متهيأ للصلاه واذا بها تقف مقابل المسجد وفي عيونها استفساروكأنها تسأله عن سيب انقطاعه عن زيارة العكد وصوت امها تناديها يا (مها) فشده الموقف فأنشد مستعيرا بابيات من قصيدة الشاعر ربيعه بن عامرالدارمي الملقب بالمسكين وهو يقول :
قل للمليحة بالخمار الاسود
ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه
لاتقتليه بحق عيسى واحمد
وعاد (احمد) يزور عگد النصارى وتبادله (مها) النظرات خلسة من خلف الشناشيل وهي تسكن في جوارالكنسية وغالبا ما يكلفها الراهب بضرب الناقوس يوم الاحد ايذانا للصلاة ,, ولكنه بالرغم من المحاولات لم يتمكن من لقائها حتى اشتد به الوجد واصابه الحب موضعا فانشد لها وهو يسمع الناس صوته هذه الابيات الجميله في صبية يوم الاحد والناس متجهين الى القداس علها تصل اليها او يعينه احد على بلوى عشقه :
سمراء من قوم عيسى من اباح لها
قتل امرىء مسلم قاسى بها ولها
اردت بيعتها اشكو القتيل لها
رايتها تضرب الناقوس قلت لها
يا( مها) الله يلهمك وصلي
فكفي النوى اني متيمك قالت بلى
ومضت الايام القليله مسرعة حتى تحرك الجيش في واجب وغادر الحبيب حبيبته وهو مرغم والدموع في عينيها وقد خرجت بخمارها لتودعه على امل الانتظار ان يعود اليها وهو يقول :
لما اناخوا قبيل الصبح عيسهم
وحملوها وسارت بالهوى الابل
وودعت ببنان زانه عنم
ناديت لاحملت رجلاك ياجمل
ياحادي العيس عرج كي اودعهم
ياحادي العيس في ترحالك الاجل
وكانت تشكي حبها ولوعتها وفراقها للحبيب الى الراهب الذي كان يواسيها ويؤملها خيرا ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن وشاءت الاقدار ان تصاب الفتاة بمرض من الامراض التي كانت تفتك بالناس في كل موسم وفي كل حين وهي تناديه سرا وعلانيه دون ان تحظى حتى بكلمة منه وفارقت الحياة وبعد حين عاد الحبيب وقبل حتى ان يدخل معسكر الجيش اتجه الى عگد النصارى يتلفت يمينا وشمالا لعله يراها تقف مع المستقبلين ولكن لااثر فأتى الراهب في الكنسيه يسأله منشدا :
اني على العهد لم انقض مودتهم
ياليت شعري بطول العهد مافعلوا
لما علمت بان القوم قد رحلوا
وراهب الدير بالناقوس منشغل
ياراهب الدير بالانجيل تخبرني
عن البدور اللواتي هاهنا نزلوا
فحن لي وبكى وأن لي وشكى
وقال لي يافتى ضاقت بك الحيل
ان البدور التي جئت تطلبها
بالامس كانوا هنا واليوم قد رحلوا
شبكت عشري على رأسي وقلت له
ياحادي العيس لاسارت بك الابل
ليت المطايا التي بهم ضلعت
يوم الرحيل فلم يبقى لهم جمل
ولم تمهله المنيه بعد ذاك الا اسابيع ظل فيها يعاني من علة العشق حتى توفي من شديد حبه وحسرته لفقدان الحبيب واصبح نبراسا للعاشقين يضرب به الامثال .
ظل عگد النصارى قبلة القوم في بغداد يزوره الادباء والشعراء والتجار حتى يقال ان الشاعر الشعبي المشهور الملا عبود الكرخي قد نظم شعرا في هذا العكد غناه المطرب الكبير محمد الكبنجي وهو بعنوان (ينصارى) وفيه يقول :
سودنوني هالنصارى شكوا يشماغي ملخوا عباتي
ينصارى اصار بيكم ماتضيفون الي يجيكم سائل عليكم نبيكم بلكت يسويلي جاره سودنوني هالنصارى
https://www.youtube.com/watch?v=WVpfF9JyaMs
وتجدون هذه الاغنيه بصوت المطرب المرحوم يوسف عمر ..وقد كانت هذه الاغنيه سببا لان يقيم احد الصحفيين المسيحيين المتشددين دعوى قضائيه في محمكة جزاء الرصافه على المطرب الكبنجي بدعوى انه يثير الطائفيه الدينيه (الظاهر من ذاك الوكت اكو طائفيه) ولكن محبي الگبنجي من المسيحيين جمعوا اربعين توقيعا مضادا للدعوى قالوا فيه ان الگبنجي غنى هذه الاغنيه من اعتزازه بالنصارى ومحبته لهم ولذلك ابطل القاضي الدعوى .
يشتهر عكد النصارى بوجود العوائل المسيحيه ويكاد ان يكون مغلق للمسيحيين وفيه الان كنيستان (ام الاحزان1843م وكنيسة الاقباط الارثدوكس 1866م ) ويذكر المؤرخون ان وجهاء بغداد من الارمن طالبوا البطريارك مار يوسف السادس ببناء كنسيه لهم اسوة باخوانهم السريان واللاتين فكان لهم ذالك وبنيت في عام 1876وسميت بكنيسة الارمن مما يدل على مقدار التواجد المسيحي في المنطقه ,
لقد تغنى العديد من الشعراء بعكد النصارى وهوت اليه قلوبهم لما فيه من حب عاشوه وذكرى يأنسون اليها او عزيز تركوه ومنهم المرحوم الشاعر الكبير حافظ جميل الذي انشد في حب احدى الطالبات المسيحيات واسمها ( ليلى ) فقال :
ياتين ياتوت يارمان ياعنب
ياخير من حوت الاغصان والكتب
حلفت بالكرم ياليلى وبالتوت
وما ضم صدرك من در وياقوت
بعد ان توسعت بغداد وكذلك عوائل العكد وتضاعف اعدادها مع ظهور مناطق جديده مثل (كمب الارمن ) وعرصات الهنديه والكراده وبغداد الجديده و(كمب ساره ) و الدوره الذي اصبح لهم فيه تواجد ملحوظ الامر الذي دعى العديد من سكان عكد النصارى الى تركه والتوجه الى هذه الاماكن طلبا للتجديد والاستقلال حتى فرغ العكد من اهله في نهاية الستينات من القرن الماضي وتحول الى منطقه تجاريه متخصصه بالتجهيزات الكهربائيه وتسمى اليوم (سوق الكهربائيات ) وضاعت الصوره التراثيه لهذا الاثر الجميل ولم يتبقى منه الااطلال وبقايا وقصص في الذاكره ..
ارج وان تكونوا قد استمتعتم بهذا الاثر الجميل من آثار بغداد ايام زمان
ملاحظه : الابيات الشعريه مقتبسه من شعر قديم مغنى ...
مع تحيات عبد الكريم الحسيني
ملاحظة: للراغبين الإطلاع على الحلقة/ ١٥ النقر على الرابط ادناه:
http://www.algardenia.com/tarfiya/menouats/3618-15.html
3392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع