العبخانة .. شخصيات تحدت الظروف و حوادث لا تنسى

   

     العبخانة.. شخصيات تحدّت الظروف وحوادث لاتنسى!

   

كأية منطقة بغدادية عريقة، تزخر العبخانة بتاريخ طويل يحكي جزءاً من تاريخ بغداد بتقاليد أهلها وتحدّيهم الظروف الصعبة والقاهرة التي مرّت بهم إبان العهود الماضية، لترفد العراق وتخرج من بين أزقتها الضيقة (الدرابين) علماء واساتذة واطباء وفنانين وتجاراً وحرفيين.. فالعبخانة التي انشئت في زمن الوالي العثماني نامق باشا عام 1864 عندما أمر بتأسيس أول معمل للنسيج، كان يدار بالبخار وينتج ما يحتاجه الجيش من ألبسة وخيام..

                 

وقد تطور هذا المعمل في عهد الوالي مدحت باشا.. وخلال الحرب العالمية الأولى، وعندما اعلنت الدولة العثمانية النفير العام، كان قسم السرّاجه في المعمل، يجهّز الجنود بجيوب توضع فيها اطلاقات الرصاص مصنوعة من الجلد.

  

العبخانة تشهد ثاني عرض سينمائي
ولأن العبخانة تمتد في المنطقة المحصورة بين الشورجة والباب الشرقي، فإنها لابد أن تضمّ إليها العديد من المحلات والشوارع المهمة والأزقة

      

وأبرزها شارع الرشيد الذي كان يسمّى (خليل باشا جادة سي) ودربونة العاجلين ومحلة صبابيغ الال التي تقول الروايات، إنها انشئت في زمن الخليفة العباسي المأمون، ومنطقة العمار ودربونة النصه والنملة والجلبه.. من الصعب لمن سكن مثل هذه المناطق البغدادية التي غادرتها الغالبية العظمى من ساكنيها، أن ينسونها، فتراهم دائمي الحديث عن ذكرياتهم، يرونها لأحفادهم الذين اعتادوا زيارتها بين مدة وأخرى..
لابد لمن يكتب عن العبخانة أو أية منطقة بغدادية، أن يزورها ويتجول في أزقتها الضيقة التي لم يبق منها الكثير، حيث تحول بعضها الى عمارات ضخمة، فكانت بداية جولتنا في راس القرية على أمل اللقاء بأحد اشخاصها الذي ما زال يسكنها وهو السيد مؤيد ابن المختار شاكر محمود العبيدي، ولم يتحقق اللقاء بسبب عدم وجوده،

   

ومنها انتقلنا الى شارع الرشيد المهمل حالياً، بعد أن كان من ابرز وأهم شوارع بغداد، كما يقول بحسرة أبو حارث تولد 1939 الذي ما زال يذكر موكب الملك فيصل الثاني وموكب الزعيم عبد الكريم قاسم..

  

في هذا الشارع، كانت تمر باصات نقل الركاب بطابق واحد، وعندما تم ادخال الباصات ذات الطابقين لتعمل في شارع الرشيد، واجهت الشركة مشكلة امتداد أعمدة الحديد من بيت لنج، فتم قطعها..
لقد اندثرت الكثير من معالم شارع الرشيد وما بقي من عمارات تراثية خاصة في المنطقة المقابلة لمرقد ابو شيبة وصولاً الى بداية بناية البنك المركزي آيلة للسقوط ومهجورة.. ومن المفارقات أن العبخانة، شهدث ثاني عرض سينمائي نظّمه التاجر اليهودي بلوكي عام 1911 وانشأ بعدها سينما (سنترال) الذي كانت تقام فيه عروض وحفلات خاصة للنساء.. بعدها انشئت عدد من دور السينما، كريكس الصيفي والشتوي والرافدين، التي شهدت مصارعة بين العراقي مجيد لولو والالماني الهر كريمر في 1925 وسينما الرشيد.. ومن معالم شارع الرشيد، ستوديو بابل وارشاك ومكتبة مكنزي وحافظ القاضي، معالم ضاعت لتجسد مشاهد حزن عما سببه الإهمال فيها.. ومشاهد الحزن تكبر عندما تدخل أي زقاق (دربونة) حيث لا أثر للخدمات البلدية وتجمع النفايات في بداياتها..

انتزعوا أظافره وسخّنوه بـ(طشت)
ياسين الذي ضيعه القمع! من مواليد دربونة العاجلين، حيث اكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في العبخانة، واعتنق العمل السياسي مبكراً، وانتمى الى الحزب الشيوعي العراقي التيار الوطني الذي كان يجذب الشباب.. عرفت ياسين، في منتصف الستينات، حيث ربطتني علاقة صداقة بأحد اشقائه، كنت اشاهده سكيراً عاقر الخمر، وهجر الحياة وترك أهله، ما اثار فضولي للسؤال عن السبب الذي أوصله لهذه الحالة، فكانت الاجابة، أنه القمع، حيث تم اعتقاله وهو في مقتبل العمر بعد مشاركته مع رفاقه الشيوعيين في انتفاضة الوثبة، ضد معاهدة بور تسموث عام 1948، ولم يتحمل مشاهد إعدام رفاق له، وكان نصيبه هو وآخرون، صنوفاً من التعذيب الذي وصل حد انتزاع اظافره وإجلاسه في (طشت) ماء حار وتسخينه.. المهم أنه خرج منهاراً، وأصيب بشوزفرينيا، ولم تنفع كل محاولات علاجه، فأدمن الخمر وعاش مشرداً ومات وحيداً!

      

حادث سير غامض لطبيب السرطان
أما بيت الحاج جاسم احمد وغيره، فهم من اوائل العوائل التي سكنت العاجلين، الحاج جاسم احمد المتوفى في 1936 الذي كان تاجر تبوغ، وبحكم مهنته وسفره المستمر الى السليمانية، تزوج من امرأة كردية، وجلبها معه الى بغداد، لتسكن مع زوجته الأولى، التي ولدت له طه رحمه الله مواليد 1919 والمتوفى في عام 1975، وكان في طليعة من اكمل دراسته في المحلة ليتخرج معلماً، ويتخرج على يديه اجيال خدمت العراق.. وولد لطه، أولاد، منهم من وصل الى رتبة عميد في الجيش، واربع بنات، تزوجت احداهن، بأول طبيب عراقي يتخصص بعلاج مرض السرطان من لندن، وصار مدير مستشفى الاشعاع الذري، وهو الدكتور عبد الوهاب محمد حسن الكروي، من مواليد باب الشيخ وتوفي مبكراً في السبعينات من القرن الماضي، بحادث سيارة غريب على طريق تكريت - بغداد اثناء عودته من معاينة احدى مريضاته، أما الأخرى، فتزوجت من المرحوم سامي صبري، من مواليد الكوت، وشغل وظيفة مدير خزينة البصرة، اضافة لوظائف أخرى، في حين أن البنت الكبرى، اقترنت بأشهر خياط نسائي آنذاك، هو المرحوم عبد الرزاق الجنابي.. ومعروف عن هذه العائلة الطيبة ومساعدة المحتاجين وبشهادة من بقي من سكان العبخانة..
لايتجاوز عدد بيوت (دربونة العاجلين) المئة كما يقول سيد عدنان، منهم بيت متعب عامل السكك الحديد، ومن أولاده علي ضابط، وحسن طبيب اسنان، وبيت علوان التكمجي، وكان له ابن طيار وآخر مهندس، وبيت نشعه وبيت صحيفة وبيت سيد علي، وكان بقّال المحلة، يبيع التمر والخضروات، وبيت محمد الحنف والحاج محيي الحدّاد وبيت السرسجي (نسبة الى عمل الأسرة من سعف النخيل) ومحمد السرحان (بيت العانه) وحسن الكردي.. ولابد أن نذكر وحيد المصري، وهو كما يقال، من الأعيان، وسيد مبارك وهو شيخ وقور كان يبيع سكائر التركي ويرقي المواطنين ويقرأ عليهم الأدعية. 

إضراب وتظاهرات عمال سكائر تركي
في بداية العاجلين، اعتاد فالح حسن سلطان (بيت السوامره) أن يزور المنطقة بين الحين والآخر، وهو يردّد بيت شعر شعبي، دارمي، سمعه من آبائه يقول (ريت ياعاجلين الهجم .. وتوكع حياطينج .. جيف سمره ام زلف .. تمر بدرابينج).. ويفتخر فالح هو وغيره، أن العاجلين كانت أنموذجاً في التعايش والمحبة والوطنية، وكانوا يسهمون مع عمال سكائر تركي في الإضرابات العمالية والتظاهرات، وكان أهل المحلة، يجهزون العمال بالغذاء والماء من سطوح البيوت.. كان ابناء العبخانة جميعاً ومن ضمنهم العبخانة، يجمعهم الهمّ الوطني، فكان البيت الواحد، يجمع الشيوعي والقومي، ولم نشهد الصراعات السياسية، إلا بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 مع الأسف، حيث بدأت صراعات راح ضحيتها شيوعيين وقوميين وغيرهم، وضاعت علينا فرص للبناء، وكانت أغلب، إن لم نقل جميع الدور، بدون سطوح، ما يعكس مستوى الإلفة بين سكانها.. وكانت العبخانة بمناطقها وأزقتها، يسكنها المسلم والمسيحي والكردي والعربي، ومنهم اول طبيب نسائية وتوليد جورج حقاري، لكن بسبب عادات وتقاليد العوائل، لم تراجعه النساء، فأخذ يعالج أمراض الباطنية والصدرية..

   

ناظم الغزالي وسليم البصري
برغم أن المرحوم الفنان ناظم الغزالي من مواليد الحيدرخانة، إلا أنه كان كثيراً ما يزور العبخانة وبالتحديد العاجلين، ليتناول فطور الصباح في بيت صديق عمره سعيد محمود حسن ابو ثامر، الذي أعرفه شخصياً، وكان يتحدث عن علاقته بالغزالي، وكيف كان يأتيهم من بناية الإذاعة والتلفزيون مشياً ليقضوا بقية الليل مع اصدقاء آخرين، منهم ابراهيم شندل أمين بغداد آنذاك.. ابو ثامر الذي توفي في 2113 كان ينتقد بعض ما ورد من أحداث في المسلسل التلفزيوني الذي تناول حياة هذا الفنان، ويقول انها غير حقيقية.. البعض من أهالي العبخانة يتحدث عن إلقاء القبض على الفنان عزيز علي، وتوقيفه في مركز شرطة العبخانة، بسبب انتقاداته اللاذعة للأوضاع السياسية، ولم اعرف سر توقيف هذا الفنان، في هذا المركز مع أنه من مواليد الكرخ، فربما سكن في إحدى مناطق العبخانة؟ وممن ولدوا في العبخانة، كما يروي الفنان التشكيلي، علي شاكر العبيدي والفنان سليم البصري (حجي راضي).

  

  أشهر حوادث مركز شرطة العبخانة
تشير كتابات عدد من المهتمين بمناطق بغداد القديمة، ومنها العبخانة، بأن من أبرز الحوادث في مركز الشرطة، هي حادثة سرقة شخصية سويسرية اسمه موزي، ضيفته الحكومة العراقية، إبان العهد الملكي، لتطوير مؤسسات الدولة، فاسكنته الحكومة فندق (ريجنت بالاس) في شارع الرشيد، وبينما كان يتمشى، تعرض لحادثة سرقة محفظته، وكانت تحتوي اضافة لنقوده، جواز سفره وصورة زوجته، ولما سمع الباشا نوري سعيد بالحادث، ثار وأمر بأن تكون محفظة الضيف على طاولته في الصباح، فاتصل مدير شرطة بغداد بمأمور مركز العبخانة وأبلغه أمر الباشا، فما كان عليه إلا أن جميع النشالين في المنطقة، وهدّدهم وتوعّدهم بالويل والثبور، فطلب أحدهم منه أن يأخذه الى الضيف السويسري ليعرف منه بعض التفاصيل، وفعلاً قام مأمور المركز باصطحابه الى الفندق واللقاء بموزي الذي شرح كيفية سرقته، وهنا قال اللص، إن المحفظة عند يوسف الأشرح، فهذه هي طريقته، وبعد الاستفسار والبحث، تم الذهاب الى بيت اللص الأشرح، حيث اخبروا مأمور المركز، بأنه في محطة القطار ليذهب الى البصرة، فأسرع الى هنالك، واستقل القطار وأخذ بالبحث، فألقى القبض عليه في محطة قطار السماوة، ومنها الى بغداد التي وصلوها في الصباح، فعلاً تمت اعادة المحفظة ووضعت على طاولة نوري سعيد.. وكان يجري توقيف أشهر الشقاوات في هذا المركز، منهم يوسف ابن مجدة من منطقة العمار وغيره، من شقاوات الأحياء والمحلات البغدادية، حتى ذاع صيت العبخانة في كل أرجاء البلاد..
صبابيغ الال لابد أن نمر ولو سريعاً على هذه المنطقة التاريخية، التي وثّق بعض احداثها الروائي غائب طعمة فرمان في (النخلة والجيران) والتي نشأت من تجمع بيوت حول قصر الخليفة المأمون كما تشير المصادر التاريخية وتعني تسميتها الصبغ بالأحمر، واشتهر سكانها بصناعة لباس خاص يشبه العباءة ترتديه النساء المسيحيات، ويسمّى البرز، ومن اشهر من امتهن هذه الصنعة رؤوف السعودي، أما أشهر ازقتها، فعكد النصارى وعكد الصندوقجي، وأبرز بيوتاتها بيت كازي (الشيخ كاظم وبيت التكمجي وبيت العلامة مصطفى جواد وبيت العلامة المجاهد طاهر الحيدري، اضافة للدكتور ارسطو من أشهر الأطباء في العهد العثماني)..

  

(مايخانة) أبو يعقوب
قبل أن ننتهي من الإشارة الى اننا نعترف هنا، بأننا لم نفِ الموضوع حقّه، حيث أن العبخانة فيها من المعالم ما يحتاج كل واحد منها الى موضوع، ومنها المدرسة الجعفرية التي تعد من أولى المدارس في بغداد، وكانت تسمّى في العهد العثماني، مدرسة الترقي العثماني الجعفري تحول اسمها بعد الاحتلال البريطاني الى الجعفرية، كما لم نتطرق الى أول محطة كهرباء انشئت بالعبخانة، وكانت تجهّز بغداد بالطاقة الكهربائية، اضافة لسيرة عدد من مختاري المناطق مثل الحاج لطيف في الثلاثينات، وبعده علي الأمين، ومكي الحاج محي مختار العمار في الخمسينات، والقابلات المشهورات، مثل جدة نعيمة وجوري وأمونة، فعذراً لكل من قصرنا بحقه..
وقبل الختام لابد ذكر أن بعض قدماء العبخانة، بما فيهم المصلون، يشيدون بأبي يعقوب صاحب البار المشهور باسمه آنذاك (ما يخانة ابو يعقوب) ويقولون عنه، إنه كان مثال الإنسان الطيب، فقد كان يساعد المحتاج من دون النظر الى دينه، ويقدم العون للجميع، ويسهم بمعالجة المرضى ممن لايجدون ثمناً للعلاج، حيث أن عدداً غير قليل من سكنة مناطق العبخانة، فقراء الحال..

المدى/ طارق الجبوري

   

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

692 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع