باكية على ترف الماضي الجميل..مـحلة الـشواكة تغازل دجلة بسحـر شناشيلها...
المدى/ تحقيق/ عامر صلال
محلة حالمة على ضفاف دجلة، يفوح منها عبق الماضي التليد، وتطوف حولها النوارس، تتوسد الضفاف، معانقة أمواج النهر منذ قرون عدة، ومازالت منازلها العتيقة ذات الشناشيل عامرة بأهلها.
حدثنا شكيب كاظم سعودي الكاتب والناقد العراقي وهو من سكان المحلة القدامى ومازال دار جده شاخصا حتى الآن والذي جدد سنة 1948م.
من محلات كرخ بغداد العريقة والقديمة، وتقع في الجانب الغربي من بغداد، مطلة على نهر دجلة الخالد، وتحدها شمالا (محلة باب السيف)، وتقع على جنوبها محلة (الكريمات)، أي إن هذه المحلات البغدادية القديمة الثلاث، تقع في المنطقة الواقعة بين جسري المأمون القديم الذي سمي في العصر الجمهوري( جسر الشهداء)، وجسر الملك فيصل الثاني الذي سمي لاحقا باسم (جسر الأحرار)في العهد الجمهوري أيضا.
اشتهرت ببيع الشوك
اختلفت الروايات في سبب تسمية محلة الشواكة بهذا الاسم، لكن أكثر الآراء رجاحة وقبولا،تسميتها جاءت من كون ساكنيها يمتهنون مهنة بيع الشوك الذي كان يأتيهم من منطقة كرادة مريم، ولا يخفى على الدارسين ان استخدام الشوك كان الوسيلة الأساسية في التدفئة والطبخ، إلى جانب الخشب والفحم، قبل اكتشاف النفط .
لقد سكنت هذه المنطقة اسر تمتهن مهنا عدة، وكان يغلب عليهم العمل النهري، سواء في صيد السمك أو نقل الناس بين جانبي النهر، يوم لم توجد جسور في بغداد، إذ لا يخفى على الدارسين ان أول جسر عائم أنشئ على دجلة، قريبا من موضع جسر الشهداء الحالي أنشئ أواخر العهد العثماني، ولعلها سنة 1910، وكان عمي المرحوم صبري سعودي خليل إبراهيم (قنطرجي) بحسب قول سعودي، أي متعهد عليه من قبل الحكومة العثمانية إلى جانب المرحوم الياس شعوبي حيث يجبيان ضريبة عبور الجسر، وحتى بعد إنشاء الجسور ظل الناس ينتقلون من جانب إلى آخر، بواسطتها .
أسر المحلة
سكنها عدد من العوائل الموسرة مثل أسرة الشاهين، وكان من أعيانها المرحوم أبو مضر الحاج علي الشاهين، فضلا على أسرة المولى، وقد أنجبت هذه الأسرة ثلاثة أشقاء هم : الوجيه صاحب الخان في منطقة الجعيفر المرحوم أبو صاحب أحمد المولى، فضلا عن شقيقه العميد حميد المولى وهو أحد ثوار تموز من عام 1958 وأعتقل في شهر شباط من عام 1963 ، ومات في تسعينات القرن المنصرم في مغتربه بالسويد، فضلا عن محمود المولى الذي كان أستاذا للتربية الرياضية في كلية الحقوق، وتولى رئاسة اتحاد الملاكمة في حينها وثلاثتهم رحلوا إلى رحمة الله، كذلك سكنتها أسرة الوتار ومنهم الوجيهان داود وسلمان الوتار اللذان كانا يمتهنان تجارة الجلود، وقد دأب أبو فؤاد داود الوتار على إقامة مجلس العزاء الحسيني، في داره العامرة المطلة على نهر دجلة، طوال أيام شهر الصيام الفضيل، وكان من أشهر قراء المجلس أيامذاك، الشيخ كاظم والذي كان معروفا بحرصه على ان يسود الهدوء مجلسه وكان يغادر المجلس اذا سمع صوت حديث لحضّار مجلسه، وكان يتولى المرحوم (دعبول البلام) سقاية الحضار الماء، وكان (دعبول) الشخصية الكرخية الفكهة صديق الباشا رئيس وزراء العراق الأسبق نوري السعيد، يمتنع عن شرب الخمر طوال أيام الشهر الفضيل فضلا عن أيام عاشوراء.
شخصية دعبول البلام
و(دعبول البلام)، أصبح شخصية معروفة في بغداد والعالم العربي حيث جسد الفنان الرائد يوسف العاني حياته بمسرحية (الشريعة)، التي كان لها صدى واسع حين عرضت على المسرح بدايات السبعينات من القرن المنصرم، كما تناولته روائيا الكاتبة عراقية المولد بريطانية الأصل (أمل بورتر) ابنة الضابط البريطاني (بورتر) أيام الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917 والذي أحب العراق وتزوج من عراقية، وعاش فيه حتى مات.
ولقد توفي (دعبول البلام) في خريف عام 1971 .
وجهاء المنطقة
وكان من وجهاء محلة الشواكة كذلك أسرة الدرة وقد برز منها العقيد عبد الباقي كاظم الذي كان أول مدير لشرطة بغداد في العهد الجمهوري، وكان من أبنائها الأفذاذ أنجال الوجيه جعفر الأوقاتي، كل من الزعيم (العميد) الطيار الركن المرحوم جلال الأوقاتي، الذي تولى قيادة القوة الجوية في العهد الجمهوري، وأغتيل في صبيحة الثامن من شباط من عام 1963، وهو يهم بمغادرة داره متوجها إلى مقر عمله إلى وزارة الدفاع، فضلا على أحمد الاوقاتي المحامي وشقيقه الطبيب أنور الاوقاتي الذي تولى أدارة المستشفى الجمهوري ببغداد، والصيدلي الاوقاتي وكانت صيدليته شاخصة في ساحة الرصافي إلى وقت قريب والتي أمضى فيها عقودا من الزمن .
أبطال رياضة السباحة
من الأسر المعروفة ايضا في محلة الشواكة أسرة مختارها الحاج محمد علي بن الحاج كاظم، وكان من أحفاده أبطال رياضة سباحة المسافات الطويلة الفقيدان جعفر محمد صالح الرياضي الشامل اذ كان لاعبا ماهرا في الكرة الطائرة وكرة السلة والساحة والميدان وشقيقه صادق البطل العراقي في سباحة المسافات الطويلة التي كانت تبدأ من ناحية الراشدية شمالي بغداد وصولا إلى جسر الملكة عالية(الجمهورية) في الباب الشرقي.
ما دمنا نتحدث عن الرياضة، فلابد من الوقوف عند رئيس اتحاد كرة السلة الأسبق الفقيد على الصفار، مدرس الرياضة في العديد من مدارس (إعداديات وثانويات) بغداد، الذي غادر الحياة صيف عام 2012، فضلا على رسمي عبد الحسين بطل العراق في سباق سباحة المسافات الطويلة عام 1958 والحائز على المرتبة الثانية في سباق( كابري – نابولي) بإيطاليا سنة 1959، ويعد هذا السباق من أشهر السباقات في رياضة سباحة المسافات الطويلة.
الطب والسياسة
إلى جانب سباق (صيدا- بيروت) الذي فاز به السباح العراقي المعروف القاضي علاء الدين النواب، ومن الأسر المعروفة في المنطقة أسرة آل سعودي وأولاده صبري ورزوقي القبطان وكاظم ومن أبنائه الدكتور ناظم كاظم سعودي اختصاصي طب وجراحة الأنف والأذن والحنجرة والحائز على شهادة ( الأف ار سي أس) من جامعة لندن فضلا عن الأستاذ شكيب كاظم سعودي الكاتب والناقد العراقي الكبير، وأخيرا لابد من الحديث عن أسرة الدفتري، التي انتقلت إلى السكن في هذه المحلة في ثلاثينات القرن العشرين، قادمة من محلة الحيدر الخانة، أسرة الوجيه محمود صبحي الدفتري الذي اقترن بالسيدة(صبيحة) شقيقة المرحوم الأستاذ كامل رفعة الجادرجي مؤسس الحزب الوطني الديمقراطي وزعيمه حتى وفاته يوم الخميس الأول من شباط 1968، واقول انتقلت للسكن في محلة الشواكة وابتنت لها دارا فارهة مطلة على نهر دجلة الخالد ورحم الله تلك الأيام الخوالد.
سوقها المترف
وقد امتازت محلة الشواكة بسوقها الخاص بالخضار واللحوم، والذي كان يعد من اكبر الأسواق في الجانب الغربي من بغداد وقد عرف فيه عدد من القصابين مثل: القصاب (سلوم) الذي اغتيل في خريف 1961 فضلا عن القصاب (عصفور) الذي كان يذبح المواشي و الجاموس .
فضلا عن أنجال الشخصية السياسية المرحوم عباس الترف، وكبيرهم السيد فياض(صديق المرحوم أبي وصديقي) وكلف وروسي ورشودي (رشيد) وقد عرف السوق بالشخصيتين الفكهتين، الحاج عبد الأمير شقيق مختار محلة الشواكة محمد علي و عبود المعروف بـ(عبوكي) الذي كان يبيع جبن العرب وكان متوترا دائما، ولعل ذلك ناتج عن كونه عاش أعزب ولم يتزوج، فضلا عن الحاج مهدي السمين الذي لم يعقب خلفا بعده.
والسوق يمتد من رأس محلة الشواكة مرورا بمحلة باب السيف وانتهاء بمحلة الباغي، وعرفت المحلة بأشهر مطعمين للكباب بالكرخ هما (مطعم كباب الحاج مهدي ومطعم كباب الحاج قاسم) واللذين اندثرا عام 1981 بسبب شق شارع حيفا وبناء العمارات السكنية فيه.
القيادة الدينية في المنطقة
تولت التوجيه الديني في محلة الشواكة أسرة السيد جواد الغريفي، المتوفى شتاء 1974 رحمه الله ومنذ نحو قرن من الزمان، وبعد وفاة السيد جواد -غفر الله له- تولى التوجيه الديني نجله السيد عبد العزيز الذي توفي صيف عام 1991-رحمه الله- ومر بأزمة خانقة في العهد السابق كادت تودي بحياته بسبب توجهاته الدينية، وتولى الإمامة بعده فيها شقيقه السيد كمال الدين الغريفي الذي انتقل أواخر التسعينات الماضيات للتوجيه الديني في حسينية محلة الدوريين بالكرخ، الا ان الإرهاب تمكن من قطف روحه الطاهرة سنة 2006 أثناء اشتداد العصف الطائفي وقتذاك، لتؤول القيادة الدينية في محلة الشواكة إلى نجله السيد احمد بن السيد كمال الدين بن السيد جواد الغريفي.
شقاوات أيام زمان
كان من ابرز شقاوات المنطقة المرحوم عباس بن شكر الذي كان شخصا مهذبا طيبا مدافعا عن أبناء المنطقة وقتله غيلة المدعو عبد الرحمن ابو عوف في الثامن من شباط 1968 لتصفية حساب معه بداعي الانتقام إذ كان عباس رحمه الله قد امسك بـ( أبو عوف ) يوما من أيام عام 1961 الذي كان مترصدا لقتل عباس في سوق الشواكة إلا أن عباسا لجسارته وجرأته المعهودة تمكن منه وانتزع مسدس ابو عوف من يديه وسلمه إلى مركز الشرطة ومن شقاوات المنطقة أيضا المرحوم سيد كاظم الذي رد اعتداء عدد من شقاوات المناطق الأخرى الذين هاجموه بينما كان جالسا في مقهى سيد محمد في الشارع العام وتمكن من قتل احدهم وجرح الباقين وسجن اثر ذلك بـ15 سنة.
العبرة والسياحة النهرية
ويحدثنا محمد أبو مصطفى الذي يعمل (بلام – معبرجي) منذ عشر سنوات، والذي كان والده وكيل بيت الدفتري، إن سبب توجه الناس إلى (العبرة) لعبور الشط هو اختصار الوقت والطريق، كما أنها توفر للأسر الجهد والوقت، حيث أن (الكراجات) المرائب في جانب الرصافة قليلة وتكون ممتلئة بالسيارات، مما يضطر أصحاب المحلات في شارع النهر إلى أن يرصفوا سياراتهم في جانب الكرخ، ويعبرون من خلالنا إلى جانب الرصافة علما إن أجرة الشخص الواحد لعبور الشط هي (500) دينار فقط وكانت (250) دينارا قبل غلاء البانزين.
كما ان بعض الناس يأتون إلينا لغرض السياحة والاستجمام والتمتع بمناظر نهر دجلة، وعلى وجه الأخص في وقت المساء، وذلك عن طريق جولة سياحية عبر النهر، تمتد من جسر الأحرار وحتى جسر الصرافية، لقاء مبلغ نقدي من (20-25) ألف دينار عراقي، وتستمر هذه الجولة لمدة ساعة تقريبا.
مكابدات المهنة
ويضيف أبو مصطفى قائلا إنهم يعانون من شح البانزين لأن محطات الوقود بدأت بالتضييق عليهم في تزويدهم بهذا المنتج، ما اضطرهم إلى أن يشتروه بسعر تجاري يكون ضعف السعر الرسمي، وأحيانا تقوم الشرطة النهرية بمنعنا من ممارسة عملنا ويقطعون (العبرة) لدواع أمنية.
الثروة السمكية في دجلة قليلة
وبالنسبة لصيد السمك فلا يوجد سمك كثير في نهر دجلة، بسبب الصيد الجائر عن طريق السموم والكهرباء، وانخفاض منسوب مياه النهر، كلها عوامل ساعدت وأسهمت في قلة السمك في النهر، لذلك هجرنا صيد السمك من زمان واعتمدنا على عملنا كـ(معبرجية)، ونتمنى من الحكومة إيجاد مرسى أصولي لنا، وتوفير مكائن وأجهزة حديثة لمراكبنا كما كان معمولا في السابق، فنحن نمتهن هذه المهنة منذ عقود طويلة، وفتح المجال في الشط لغرض السياحة، فقد كنا قبل ذلك نصل إلى الأعظمية بمراكبنا، والآن حدنا جسر الصرافية ومعرضون للمنع بأية لحظة.
آخر شقاوات المنطقة
التقينا بقاسم شهاب احد أبناء المنطقة وحدثنا عن الشواكة بأنها كانت تسمى مع الكريمات وباب السيف بموسكو الصغيرة، عند اليساريين وتفصل السفارة البريطانية منطقتي الشواكة والكريمات وأخذنا إلى والده الحاج شهاب احمد تولد 1934 وهو آخر شقاوات المنطقة وصاحب موكب الشواكة، الذي تأسس عام 1917 وقام بتجديده عام 2003 حدثنا عن المنطقة وتغير أحوالها بقوله الشواكة كانت بستانا كبيرا وكانت هناك فضوة يأتي إليها بائعو الشوك فنشتري منهم الحطب، وكانت بيوت الشواكة من طين، ومازال الناس القدامى فيها مثل بيت علاوي شكر وهو حي يرزق، وكثير من أصدقائي توفوا.. وإن الناس تغيرت كثيرا عن ما كانت عليه قبلا، فالجار لا يداري جاره، والغرباء يسرحون ويمرحون في المنطقة بلا حسيب ولا رقيب، على العكس مما نراه الان ، وكنت أعمل غواصا قبل أن يتقدم بي السن.
تعلمت من والدي رحمه الله الغوص، وكان يتحمل البقاء تحت الماء لدقائق طويلة، واذكر في خمسينات القرن الماضي عندما فاض نهر دجلة، اتوا إلى والدي الذي كان بلاما معروفا وذهبنا إلى معسكر الرشيد لإخراج السلاح وهناك غطست غطستي الأولى ومنها بدأت بالتدرب والتعلم على المهنة وتعلمت على جهاز الغوص في الشرطة النهرية، وطلبت من مدير الشرطة يوسف(الله يرحمه) الجهاز بوقته وسمح لي بارتدائه، وتعلمت عليه وأخرجت الكثير من الغرقى من نهر دجلة، من غير مقابل إنما هي نخوة عراقية أصيلة.
1049 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع