سُميَ الخمرُ خمراً لمخامرته العقلَ وتغييبه عن حِسه وإدراكه.
وفي كِتاب (لسان العرب): النبيذ هو ما نُبِذَ من عصير، وهو ما يُعمَلُ من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغيرها.
عِبرَ التأريخ البشري إرتبطت الخمرة بحضارات أغلب الشعوب، وكان لها تأثير عميق وبعيد في أنواع الإبداع كالنحت والرسم والزخرفة والفسيفساء والأدب كالشعر والتأليف والأساطير والمعتقدات الدينية، وفي الغناء والرقص والموسيقى والديانات والعبادات والطقوس الوثنية والمعابد ورجال الكهنوت والأنبياء، وفي أغلب المرافق الحياتية اليومية للشعوب والأجناس. وبنفس الوقت فإن الآداب والأساطير والأديان والعبادات أعطت للخمرة مفهوماً وبُعداً إلهياً لا زال تأثيره باقياً حتى اليوم.
وأول كِتابة ذُكِرَت فيها الخمرة كانت في ملحمة كلكامش الرافدية، علماً بأن كلكامش كان من ملوك فترة ما قبل الطوفان، وهذا يُعطي لقصته تأريخاً أقدم من إكتشاف الكتابة بكثير، لأن ذاكرة الشعوب كانت تنتقل شفاهياً عبر الأجيال.
النبيذ مشروب كحولي يتم إنتاجه بعصر وتخمير العنب، ويُعتبر أحد أقدم أنواع الخمر، وقد وُجِدَت أوانِ فخارية فيها آثار للنبيذ تعود للعصر الحجري الحديث 5400 سنة ق.م، كما وجدت آثاره في المقابر الفرعونية، بالإضافة إلى رسوم على الجدران تُصوِر كيفية صنعه.
يقول الكاتب علي الشوك بأن “الكلمة الدالة على الخمر (واين) مشتركة في العديد من لغات الأرض، والواين واحدة من أسماء الخمر وهو الزبيب أيضاً أو العنب الأسود”، كذلك يقول: “لَم يتغنَ أدب بالكرم والخمرة كالأدب العربي، رغم أن الخمرة محرمة في الإسلام” !.
أثناء كتابتي لهذا المقال أحصيت في بعض المصادر 75 إسماً للخمر في اللغة العربية، وهناك ما يزيد على هذا الرقم بكثير، ومن أشهر أسماءها: الراح- الخمر- القهوة- العقار- السلافة- الرحيق- الصهباء- الخندريس- البابلية- العتيق- المسطار- العرق- الرساطون- الصُراح- المُنسية- السلسبيل- الكُميت- المفتاح- الطاردة .... الخ. ولكلٍ من هذه الأسماء معنى وشرح ورمز وقصة.
يقول أبو نؤاس:
وإسقني حتى تراني --- أرى الديك حماراً.
أسماء أوقات الشرب:
الصَبوحْ: الشرب قبل طلوع الفجر.
القَيل: شرب نصف النهار. وأعتقد الكلمة مُشتقة من القيلولة.
الغَبوقْ: شرب العشى.
التخية: شرب المغرب إلى العشاء.
الجاشِرية: شرب آخر الليل.
مقدار الشراب: يقول عبد الله بن إدريس: إشرب ما لا يشربك. وبالشعر العامي البغدادي يقولون في مقدار الشرب:
مِن تشرب عرك لازم تِقيسة ….. لا تِكَع بين الناس مثل الفطيسة
ترتيب مراحل السُكر:
*******
إذا شربَ الإنسانُ فهو نشوانُ، فإذا دَب فيهِ الشراب فهو ثُمَلٌ، فإذا بلغ الحَد فهو سكران، فإذا زادَ وإمتلأ فهو سكرانٌ طافح، فإذا كان لا يتماسكُ ولا يتمالكُ فهو مُلتَخ، فإذا كانَ لا يَعقلُ شيئاً من امرهِ ولا ينطلقُ لِسانُهُ فهو سكرانُ باتٌ وسكران ما يَبُتُ وما يَبِتُ. فمن أي الأنواع أنت عزيزي القارئ؟.
وسُميَ رفيق الشارب بالنديم، من الندامة، لآن مُعاقر الخمر والكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه، فقيل لمن شارب رجلاً: نادَمَهُ، لأنه فعل مثل فعلهِ، والمفاعلة لا تكون إلا بإثنين. يقول الشاعر:
ألا تعلما أن النديمينِ ما صفا ….. وَدادهما أو أنصفا أخوانِ
وأنَ رِضاعَ الكأس أوجَبَ حرمةً ….. وحقاً علينا من رضاعَ لبانِ
وقال محمد بن الكاتب في عدد الندماء:
ثلاثةٌ في مجلس طيب ........ وصاحب المنزل والضاربُ
فإن تجاوزت إلى ستةٍ ........ أتاكَ منهم شغب شاغِبُ
وقال إسحاق الموصلي في عدد الندماءْ: الواحد غمٌ، والإثنان هم، وثلاثةُ قِوامٌ، وأربعةٌ تمامٌ، وخمسةٌ زحامٌ، وستةٌ جيشٌ لهام.
الخمرة في العراق:
شرب أهل العراق الخمرة منذ أقدم الأزمان، وأشهر أنواعها اليوم هو العرق بنوعيه المستكي والزحلاوي، ويقول إبن عمي (فؤاد ميشو) في مقال له بعنوان (بغداديات): [ كان العرق المستكي يُقطر بأجهزة التقطير الخاصة ويُحفظ في قزانات (جمع قزان) وهو خزان إسطواني معدني، وكانت أصناف العرق ذات حقتين أو أربعة حقق وإلى حد 12 حقة، وكل حقتين مستكي (ماستيكة) تعادلها حقتين سُكر نبات، وعادة كان بائع العرق يشتري (قرابة) وهي حاوية معدنية بعدة أحجام مثل 24 قنينة، أو 36 قنينة، وحسب حاجة الزبون من أصحاب محلات العرق. وكانت كل حقتين مستكي ومثلها سكر نبات تخلط مع 260 لتراً من مادة ال (سبيرتو- كحول) الذي كان يُحصل عليه من تخمير التمر الزهدي في أحواض كثيرة ثم تقطيره في المراجل الخاصة.
عرق الحقتين كان يتحول إلى اللون الأزرق الفاتح بعد إضافة الماء له، وعرق ال 12 حقة كان يتحول إلى لون حليبي بعد إضافة الماء له. بعض الناس كانوا يوصون على عرق 16 حقة أو 24 حقة، وكانوا يضيفون عليه أحياناً بعض الفواكه مثل السفرجل والتفاح وأحياناً بعض الدجاج طلباً للنكهة الخاصة واللذيذة للعرق، وكان هذا العرق الخاص يكلف أكثر بكثير مما يُكلف العرق التجاري، وغالبية الناس كانوا يُقطرون هذا العرق الخاص في مواسم ومناسبات معينة كأعياد الميلاد وعيد الفصح وأيام (جمعة الأموات) حيث كان الناس يشربون العرق أثناءَ زيارتهم وعوائلهم لأمواتهم في المقابرالمسيحية، وكانت العائلة تُقضي أوقاتاً سعيدة في المقبرة !!!.
أثناء الحرب العالمية - ولأسباب مُعينة- توقفت اليونان عن تصدير مادة (المستكي) إلى العراق وبقية الدول، فراح معمل العرق في بغداد يقطر عرقاً ب (علج المي) علكة الماء، بدلاً من المستكي، وسمي هذا النوع بالزحلاوي لأنه عُرف في زحلة ربما قبل غيرها، وهو العرق المقطر بمادة (الأنسون)، ومنذ ذلك الوقت بدأ العراق يُنتج النوعين: المستكي والزحلاوي ]. إنتهى.
في العراق أطلق الناس على العرق تسمية: (حليب سْباع)!، والسبع هو الأسد، لأن العرق بعد إضافة الماء له يصبح بلون الحليب، والبعض أحب أن يعتقد بأنه من مظاهر الرجولة وشراب الشجعان والسِباع، وكان الشرابة المتمرسين يسخرون من شارب البيرة والنبيذ ويعتبرونهم مُبتدئين ويسمونهم (لحيمية) وهي من تسميات فراخ الطيور عندما تكون لحماً بلا ريش.
لأغلب العراقيين آيين وطقوس خاصة للشرب وحتى قبل الشرب، تبدأ بتحضير (المزات) والنقل والمقبلات مثل: (اللبلبي) وهي الحمص المسلوق، واللوبياء والباقلاء المسلوقة، والخيار والجزر والخس والطماطم وشرائح الليمون، والمكسرات (الجرزات)، وأنواع الفواكه، والطرشي والمخللات والمتبلات وأنواع الزيتون المختلفة ...
والمشاوي من تكة وكباب وكفتة وعصافير وزرازير وطيور وأجنحة وجلاوي وكبد وبيض غنم ومعاليق وفشافيش وحواصل وقلوب، والمقبلات مثل بابا غنوج وتبولة وحمص بطحيني وأنواع السلطة وغيرها الكثير.
أما ملك المزات البغدادية فكان (الجاجيك) على الدوام، وهو خليط من اللبن الخاثر مع مكعبات الخيار المقطع والثوم المقطع أو المهروس.
كان (الشرابة) يتبادلون أول الأنخاب بكلمة (جريو) أو (بصحتكم)، وكلما حكى أحدهم نكتة أو طريفة أو بيت شعر أو إنتهوا من سماع مقطع موسيقي رائع، كانوا يتبادلون الأنخاب بكلمة (عليهة مصة) أو ( جُقَة خاجيك)، و(جُقة) هو صوت إصطدام الكئوس والأقداح، وخاجيك شخصية نادلٌ أرمني في إحدى الحانات البغدادية...
وتم تصوير وإخراج هذه الشخصية إلى الوجود في تمثيلية تلفزيونية (عبود يُغني) وكان قد قام بدورعبود الممثل والمخرج وعميد المسرح العراقي يوسف العاني.
كذلك كنتَ تسمع هذه اللازمة دائماً: (راس اللي ما بي كيف ... كُصة وذبة بالزبل)!، ومعناها: الرأس الذي ليس به طرب وفرفشة إقطعه وإرمِه في المزبلة! وطبعاً لا يقصدون هنا المعنى الحقيقي من قطع الرأس، لأن البلد لم يكن قد وصل بعد لحضارة قطع الرؤوس!!. بل كان المعنى يرمز لعدم صلاحية من لا يُحب السعادة والسرور والفرفشة!.
العراقي يميل إلى الطرب أثناء الشرب، ولم يكن آيين الشرب يكتمل بدون دورة إسطوانة لأم كلثوم، وبصورة خاصة أغنية: أنتَ عمري، التي عشقها العراقيون لدرجة تقترب من المبالغة.
في نهاية السهرة ينقلب البعض إلى المشاكسة والعربدة ويتحولون إلى (أبو جاسم لر) الفتوة أحياناً والأشقياء أحايين، وذلك حين يتمكن منهم حليب السِباع، ومن حِكَمْ اللوم والعِتاب للمشاكسين: "إذا لم تستطع أن تشرب كالرِجال .. فلا تشرب مع الرِجال" .
البعض كان يتظاهر بالسكر والشراسة والعربدة وإقتحام المواقف، ويروح يُحارش الناس ويستفزهم ويتحداهم ويعتدي عليهم أحياناً، وغالباً ما كان تَصَرُف كهذا يعودُ وبالاً ونقمةً على المُتحرش، وينقلب السحر على الساحر فيتحول السبع إلى (طِلي) خروف!. وقد إشتهر من هؤلاء (خلف إبن مين) وهو (دون كيشوت) بغداد أيام زمان بلا مُنازع. كان (خلف) باللام المُعَطشة من محلة قنبر علي، وكانت تستهويه أعمال البطولة والفتوة، وكلما وقعت حادثة سطو أو مقابلة بالرصاص بين (الجاندرمة) واللصوص، كان خلف إبن مين يُغبش في الحضور إلى مقهى الطرف ويسأل الأخرين هامساً: خوما جابوا طارِيْي؟، ومعناها: عساهم لم يذكروا إسمي؟.
كان من عادة خلف إبن مين أن يشرب مقدار ( كشتبانة) ويصب بقية ربعية العرق على ملابسه لتفوح رائحته ويروح يطلب المشاكل إلى أن يُلقى القبض عليه، حينذاك كان يُعطي الشرطة مبلغاً من النقود كي يقيدوه بالكلبجة ويطوفون به أمام المقاهي الشعبية بعد أن يرمي غترته على أكتافه ويُنَكِس عرقجينه ويرسم تقطيبة رهيبة على وجهه ويرفع رأسه بكل عنجهية بينما الناس يتهامسون: لك شوفوا خلف شلون مكلبج !! أكيد سوة فد مكسورة هليوم!...وبعد أن عرفت كل بغداد بأنه (فشوش)، قال له صاحب الشرطة ذات يوم: ولك خلف حتى لو أشوفك بعيني دتقتل مراح القي القبض عليك.
لم يكن خلف شريراً أبداً، بل كان يعشق الفتوة والرجولة. عَمَلَ صفاراً في زمنٍ ما، وكان مُولعاً بتربية الحمام (مطيرجي)، وبعد أن كبر وشاخ أصبح قهواتياً، وتوفي بعد الإحتلال البريطاني للعراق، وكان قد تجاوز السبعين، ولهذا الرجل الطيب حكايات ظريفة وكثيرة لا مجال للتطرق لها في هذا البحث.
في العراق إشتهر نوع آخر من العرق تحت تسمية: (عرق هبهب)، وهبهب هذه منطقة أو قرية في شمال بغداد تقع في المثلث بين الخالص وبعقوبة والغالبية، وكان فيها معمل لتقطير العرق. والكثير من سكنة المنطقة كانوا يُقطرون العرق سراً ويبيعونه بثمن أقل من ثمن العرق المُقطر بإشراف الحكومة، لأنهم لا يدفعون رسماً (ضريبة)، ولكي يُعجِلوا في إختمار العرق يُضيفون له مادة (الزنجارة) وهي كبريتات النحاس، ولهذا كان عرق هبهب إذا صُبَ عليه الماء يتحول إلى اللون الأزرق، وكان لشدة إسكارهِ يُعادل مفعول قدحه قوة ومفعول عدة أقداح من عرق الحكومة !.
كذلك شاع بين الفقراء والكسبة إسم نوع آخر من العرق: (أبو الكلبجة)، وهو من أرخص وأحقر أنواع العرق، حيث كان يَسطل شاربه من أول قدح، وغالباً ما كان ينتهي المقام بشاربه في موقف الشرطة!، لذا سُمي بعرق: “أبو الكلبجة”!.
وفي العراق كان سكنة كل القرى المسيحية في سهل نينوى وغيرها يُقطرِون العرق في بيوتهم وقراهم، ويبيعون بعضه محلياً كتجارة وبقدر ما تسمح ظروفهم الإجتماعية.
من خلال مراقبتي الشخصية لشاربي الخمرة، رأيتُ كما قد يرى غيري حين التدقيق، بأن للخمرة تأثيرات مُختلفة على شاربيها، فالبعض يبتهج ويضحك ويُفرفش ويُنَكِت، والبعض الآخر يكفهر ويستشرس وتُصيبه حالة نفسية مزاجية وروح عدائية، وآلبعض يَبكي ويذكر موتاه ومشاكله وحبه الأول أو الفتاة التي لم يستطع أن يحصل عليها، والبعض يلجأ إلى المبالغة والزمط وإدعاء ما ليس فيه أو لهُ وغالباً ما يُمثل ذلك أحلامه التي أخفق في تحقيقها، وآخرون يرقصون بخفة ويقَبِلون ويحتضنون من في المكان وكل عابر سبيل، وآخرون يبحثون عن الخلاعة في كل مكان يعتقدون أن فيه إمرأة وغالباً ما يقضون ليلتهم في مركز الشرطة، وآخرون تعلو عقيرتهم بالمقام البغدادي متصورين أنفسهم ناظم الغزالي أو محمد القبنجي أو يوسف عمر أو حتى مايكل جاكسون!، والبعض يعود إلى بيته ليضرب أولاده ويُطلق زوجته عدة مرات قبل طلوع الفجر، والبعض القليل جداً يبقى هادئاً طوال السهرة ولا يسكر مهما شرب .. وهم أعجب أنواع الشاربين!.
الخمرة تُعطي شاربها الجرأة والإقدام والشجاعة بحيث يتصور أن بإمكانه مواجهة الدنيا كلها، ولهذا كان أغلب العراقيين يرفضون الحشيشة رغم ندرة تداولها في بغداد أيام زمان، لأنها -على عكس الخمرة- تُطفيء جذوة الرجولة والفحولة وتهبط بالنفس إلى الدرك الأوطأ. وحول مفعول الخمر في شجاعة الرجال....
مشروع عراقي ناجح أجهضه التدين والجهل:
حكى لي صديقي د. سمير خمورو المعلومة أدناه:في سنة 1983 كان العراق يستورد كميات من الكحول النقي جداً لإستعمالها في الأغراض العسكرية. ولاحَظَت وَزارَتَي الصناعة والتخطيط بأن هناك فائض كبير في مادة الكحول المستورد. لِذا إقترح وكيل وزارة التخطيط الاستاذ صباح كجه جي على وزير الصناعة آنذاك الإستفادة من الكميات الفائضة من الكحول، وتشغيل المصنع الذي كان يبقى خارج الخدمة لمدة تصل في بعض الأحيان الى ٦ اشهر وإستعماله في مُنتج جديد ومُربِح هو (العرق) من النوعية العالية جداً وعلى مستوى الإنتاج الأجنبي للويسكي والفوكا والجن، ولأغراض التصدير إلى الخارج وكذلك لبيعه في السوق الحرة والى السفارات الأجنبية. ولكن الوزير قال انه لا يتحمل المسؤولية، فرد السيد وكيل الوزارة انه مستعد شخصياً لتحمل المسؤولية.
وهكذا تم مفاتحة شركة نمساوية مقرها فيينا، وتركوا لها فكرة اقتراح وتصميم قناني العرق والعلبة الكارتونية التابعة لها.
ثم بدأ العمل في تحقيق المشروع والبحث عن أجود أنواع مادة ال (ينسون) الطبيعي من أفضل النوعيات، لأن أغلب معامل العرق في المنطقة كانت تستعمل الينسون الصِناعي أو الينسون الطبيعي ولكن من نوعيات رديئة ورخيصة.
وبعد البحث والتقصي وجدوا أن أفضل أنواع الينسون كانت في إسبانيا، وبأسعار غالية ، ومع ذلك فقد تم إستيرادها.
وجاءت قنينة العرق الزجاجية (البُطل) مع غلافها الكارتوني (الباكيت) والذي كان باللون الأخضر الجميل. وكان الباكيت قد تم تحضيره في مطبعة نمساوية، وكان يتحتم اختيار ماركة تجارية كإسم لهذا العرق العراقي فوقع الإختارعلى تسمية: (عرق أبو نؤاس)، ومن هو أجدر من أسم الشاعر أبو نؤاس لهذه النوعية الجيدة من حليب سباع ؟. كذلك قامت الشركة النمساوية بعمل بحث للتوصل الى شكل العمامة التي كان يعتمرها الخليفة هارون الرشيد، ومن خلال مكتبة الكونغرس الأميركي عرفوا شكل وهيئة العمامة التي كان يعتمرها الخليفة، وتم وضع صورة الخليفة الرشيد على الغلاف الكارتوني لقنينة العرق الأنيقة والتي بدورها طُبع عليها رسماً بارزاً للخليفة الرشيد.
كان هذا العرق يُقَطَر مرتين، لأن نقاوة الكحول المستورد كانت تصل إلى 99%.
إستمر الإنتاج - وبنجاح- لمدة عامين تقريباً، ولقيَ عرق (أبو نؤاس) إقبالاً كبيراً من السفارات الأجنبية والأسواق الحرة وشركات الإستيراد الأجنبية رغم أن سعر القنينة الواحدة (البُطل) كان ثلاثة دنانير ونصف، بينما كان سعر القنينة الواحدة للعرق العادي تُباع بسعر دينار ونصف يومذاك. وكانت وزارة الصناعة تُفكر بتوسيع المشروع الذي نجح تماماً وبصورة أكثر مما توقعها المُشرفين على المشروع، ولكن ........ بعد سنتين تم تعيين وزير جديد لوزارة الصناعة لا يحضرني إسمه الآن، وكان قبل ذلك يقوم بوظيفة محافظ لمدينة الموصل، كان رجلاً متديناً ومتزمتاً جداً، لِذا -وكما هو متوقع- قام بإلغاء المشروع من أساسه، رغم وصول طلبات جديدة وكثيرة من خارج العراق لإستيراد عرق أبو نؤاس، والذي كان وبشهادة كل الخبراء أجود أنواع العرق في منطقة الشرق الأوسط.
وهكذا أُسدل الستار وتم إجهاض مشروع تجاري رائع وناجح والذي كان سيدُرعلى العراق الكثير من العملة الصعبة.
الخمرة في الأساطير وتأريخ شعوب المنطقة.
يقول الكاتب العراقي (علي الشوك) في كِتابهِ (الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة): [ ربما كان الماء وهو السلعة الثمينة في المجتمعات الزراعية يُقَدَمُ كتقدمة في طقوس العِبادة، وبعد ذلك أستعمِلَت سوائل أخرى كالحليب والعسل ثم النبيذ فيما بعد، وفي بعض الأديان، البيرة.
وإستعمال الكحول كتقدمة وشراب يرتبط بمزاياه وتأثيره على الجهاز العصبي لشاربيه. وكان الكهنة يتعاطون شربه لأنه يفك عُقد اللسان ويُحقق حالة من النشوة والتخيل تورث إنطباعاً بأنها ناجمة عن تأثير قوى غيبية أو إلهية.
وكان الخمر الأحمر يعتبر بمثابة دم الحياة. ويعود تأريخ صناعة الخمرة إلى مراحل ما قبل التأريخ تقريباً، لأن التخمير ظاهرة طبيعية تنجم عن أية مادة سُكرية كالعنب والتمر وكافة أصناف الفاكهة والتوت والعليق والعسل إذا تُرِكَت في محيط دافئ. وربما أكتشِفَ التخمير عرضاً في طور جمع القوت السابق لمرحلة الزراعة.
وأقدم قانون حول شرب الكحول وأماكن الشرب جاء في شريعة الملك البابلي حمورابي في حدود 1770 ق.م، كما كان الصيادلة السومريون يُعطون المريض وصفة البيرة كعلاج لبعض الأمراض في حدود 2100 ق.م.
وفي بردية مصرية حوالي 1500 ق.م ذُكِرَت وصفة تشتمل على البيرة والنبيذ. وفي الواح أُوغاريت الكنعانية يرد ذكر مُسهب لهذا السائل المُسَكِر في طقوسهم وعباداتهم وطعامهم. وفي كِتاب العهد القديم ترد إشارة إلى تألق عيون أتباع يهودا بفعل الخمرة التي تُبهِجُ قلب الإنسان.
وكان البابليون يُخَمرون زهاء (16) ستة عشر صنفاً مُختلفاً من البيرة!، بما في ذلك (البيرة السوداء) التي كانت شراباً مُفضلاً لديهم. وكان الرجال يحتسون الخمرة في الحانات في غالب الأحيان، وتُهيمن على أجواء تلك الحانات حياة اللهو والطرب، ويشرب الرجال حتى السكر التام فتنتفخ بطونهم ويترنحون ]. إنتهى.
كان العراقيون القدماء أول من أنتج العرق من تمر النخيل، وقد تم ذكر النبيذ في الكِتابات لأول مرة من خلال ملحمة كلكامش عندما كَسَرَ كلكامش وصديقه أنكيدو الخبز وشربوا معه الخمر.
كذلك تم ذِكر صناعة البيرة في أقدم الكِتابات السومرية 6000 سنة ق.م من خِلال صلاة الشُكر إلى الآلهة السومرية (نانكاس أو نينكاسي)، كذلك تم إكتشاف لوح طيني مسماري مفخور يعود إلى 2050 ق.م يحوي على وصفة لصناعة البيرة في مدينة أور السومرية.
واحدة من أقدم إلإشارات إلى النبيذ والبيرة الرافدية جاءت من أسطورة نقل الملكية من أريدو إلى أوروك.
ويُشير نص لموظف كبير في بلاط ملك من ملوك سلالة أور الثالثة، إلى تخمير أنواع من الجعة (البيرة) منها: “العادية” و “الملكية” و “القوية” و “ غير المُركزة”.
وكان الملك حمورابي قد ذكر البيرة في قوانينه (2200 سنة ق.م)، وحدد لكل مواطن حصة يومية من البيرة وبحسب منزلته الإجتماعية.
ويقول كِتاب (الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور): بأن أشجار الكروم كانت قد وصلت إلى بلاد آشور حديثاً، وأن هناك نصوص تُشير إلى بيع الخمور في الإمبراطورية الآشورية، وإن أشجار الكرم تُشاهَد مُصَوَرَة على منحوتات آشورية في المتحف البريطاني يعود تأريخها إلى عهد الملك آشور بانيبال، وتظهر وهي مُلتفة حول جذوع أشجار في حديقة كان الملك يتناول طعامه فيها.
وفي قصيدة “الخلق السومرية” التي هي نفسها أسطورة “أنكي وننماخ” والمكتوبة بالخط المسماري على الواح طينية مفخورة، تقول بعض مقاطعها بأن الآلهة الأم (نمو) أيقضت إبنها الإله (أنكي) وأخبرته عن تذمر وثورة الآلهة الصغيرة (إيكيكي) بسبب شدة إرهاقهم في خدمة الآلهة الكبيرة (أناناكي). وهنا ينصحها إبنها أنكي بخلق البشر من (طين مياه العمق) ثم مزج الطين بدماء أحد الآلهة بغية إعطاء البشر العقل والحكمة.
وهكذا تقوم الإلاهة (ننماخ) وبمساعدة سبعة آلهات أُخريات (قابلات ومُولدات) بصنع البشر من الطين. وبعد عملية الخلق يُقيم كل من أنكي وننماخ وليمة شراب لكل الآلهة إحتفاءً بخلق أول البشر. وبعد أن يسكر كل من أنكي وننماخ، تقوم ننماخ بأخذ ما تبقى من (طين مياه العمق)، ولشدة سُكرها تقوم بصنع ستة مخلوقات بشرية ناقصة أو غير متكاملة!.
وبسبب تلف بعض أجزاء اللوح الطيني لهذه الأسطورة، فقد تعرف علماء الآثارعلى نوعين فقط من تلك المخلوقات غير الكاملة، وهما: المرأة العاقم، والإنسان الخنثى الذي هو بين الذكرِ والأنثى. وهنا نرى أن الخمرة دخلت حتى في تفاصيل أقدم الأساطير الأرضية وهي قصة الخليقة.
ملاحظة: من هذه الأسطورة السومرية بالذات تم إقتباس و(لطش) القصة التوراتية حول خلق الإنسان من طين!، والتي تبنتها لاحقاً وبصورة عشوائية وراثية كل من الديانتين المسيحية والإسلام.
في المُدونات المصرية التي ترقى إلى 2500 ق.م ثمة ذكر لصناعة الخمر من العنب. وتم ذِكر البيرة على أكثر من (40) بردية مصرية قديمة، وكانت البيرة في مصر الفراعنة يومذاك للكبار والصغار، حيث كان هناك نوع من البيرة تستعمل للسُكر والإحتفالات والطقوس الدينية والوطنية، وأخرى للإستهلاك اليومي فقط كمرطب أو مع الطعام. كذلك كانت تُستعمل كدواء للمعدة والسعال وحتى كحقنة شرجية. وأحياناً كانت البيرة تستعمل للمقايضة بدل النقود وفي تمشية عملية البيع والشراء. وكان الشغيلة في بناء الأهرامات يحصلون على ثلاث وجبات يومية من البيرة كجزء من المواد الغذائية المُخصصة لهم.
ويقول المؤرِخ (هيرودِت) أبو التأريخ: “إن المصريين الفراعنة كانوا يُخرجون أحشاء الميت كلها، فينضفونها ويغسلوها بنبيذ التمر”.
أما الإغريق فكان لهم إله وطقوس للخمر، وهم الذين نقلوا الكرم إلى إسبانيا. وبعدهم نقل الرومان العنب إلى منطقة الراين والدانوب. ومما يجدر ذكره أن اللفظة الدالة على الخمر بالعربية (الوَين): نوع من الزبيب، هي كلمة مُشتركة في عدد كبير من اللغات، بما في ذلك اللغات السامية الحامية، واللغات الهندية الأوربية، وغيرها ]. إنتهى.
في أسطورة مصرية فإن إله الشمس (رع) حرض الآلهة البقرة (هاثور) على ذبح كل البشرية، لإعتقادهِ بأنهم كانوا يتآمرون ضده، لكنه لم يكن ينوي فناءهم جميعاً، لِذا قام بإغراق الحقول بالجعة الملونة بالأحمر كلون الدم، وعندما رأت البقرة (هاثور) صورتها منعكسة في الجعة التي ملأت الحقول، شربت منها وسكرت سكراً شديداً ونامت ناسيةً المهمة التي اُرسِلَت من أجلها!!، وهكذا نجت البشرية من الفناء!.
عرف العراقيون القدماء في زمن سومر وأكد وبابل وآشور النبيذ والخمور والجعة (البيرة)، ويعتقد الكثير من الباحثين بأن السومريين كانوا أول من صنع البيرة، وكانوا يصنعونها من الشعير وزهر نبات الهبلون. وفي (قصة الخلق) نجد الآلهة تسكر أثناء إحدى الولائم وتصبح ثرثارة ومُهتاجة!. وكم هو جميل أن تسكر الآلهة، فهذا العالم بحاجة إلى آلهةٍ تسكر وتمرح وتضحك ولا تقتل أو تأمر بالقتل!.
وفي ملحمة كلكامش نجد أن الرجل المتوحش أنكيدو (رفيق كلكامش) يتم تقديمه إلى الحضارة من لدن عاهرة المعبد، وإن أحدى الممارسات الجديدة التي تعلمها هي تناول الشراب المُخمر، حيث يقول النص: لقد تناول الجعة (البيرة) سبع مرات، مما أدى إلى تحرر روحه، وراح يهتف بصوت عالِ وقد إمتلأ جسمه بحسن التكوين، وأشرق وجههُ!.
العراقيون القدماء عرفوا المشروبات المصنوعة من الشعير والخمر المستخلص من تمر النخيل، وكان يتم توزيع الشراب بمعدل يزيد على الغالون للفرد الواحد (في حين تمنعه وتصادره وتُحرمه حكومة وأحزاب اليوم في العراق)!. وكان هذا الشراب المخصص للشعب يتألف من البيرة وخمرة عصير النخلة الذي يتم الحصول عليه بشق أعلى جذع النخلة وجمع العصير الناتج عن ذلك، وبعد تخميره لمدة يومين أو ثلاثة، يصبح مُسكراً قوياً.
وكان للسومريين مئات الآلهة، لكل واحد منها إختصاص مُعين، ومن ضمن هؤلاء الآلهة كان إله العربدة (سيريس)، وهو الإله المسؤول عن تحويل الشعير إلى بيرة، وهو الشراب القومي يومذاك.
أما عن خدمة الآلهة في معابد بابل، فيقول كتاب (الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور - جورج كونتينو): [ في كل يوم من السنة، وفي وجبة طعام الصباح الكبيرة، كانوا يهيئون أمام تمثال الآلهة (آنو) 18 إناءً على مذبحهِ، 7 عن اليمين، 3 منها لبيرة الشعير، و4 أخرى من البيرة المسماة (لَبكو)، و7 أواني عن اليسار، 3 من بيرة الشعير، وواحداً من بيرة ( لَبكو)، وواحداً من بيرة (ناشو)، وواحداً من بيرة (الجرة)، وإناء آخر من الجص للحليب، وبالأضافة لكل ذلك كانوا يضعون 4 آنية مصنوعة من الذهب للخمر المعصورة ]. إنتهى.
نلاحظ هنا أن الخمر المعصورة قد تم إعطائها أهمية وقيمة أكثر من الحليب والبيرة، وذلك بوضعها في أواني ذهبية، وهذا دليل على أن العراقيين كانوا يعشقون ويقدرون الخمر الجيدة. ونِعمَ الأجداد.
نفس الكتاب يذكر أن تأثيرات السُكر بالخمور كانت شائعة ومعروفة، وكان الطب عندهم يعالجُ حالات السُكر كما لو كانت حالات مَرَضِية أو تسمم حقيقي!، وكتاباتهم المُكتشفة تُعلن وبكل أهمية: [ إذا ما تناول شخص ما، كمية كبيرة لخمر قوية، وإذا ما إضطرب رأسه، ونسي كلامه، وأصبح حديثه هذراً، وتشتتت أفكاره، وتزججت عيناه، فإن علاج ذلك هو أن يأخذ: (تعقبُ ذلك قائمة تضمُ 11 دواءً)، وأن يُمزج الدواء بالزيت والخمر عند إقتراب الآلهة (غولا) في المساء وهي آلهة الصحة عند السومريين (وتُصَوَر دائماً مع كلب هو تابعها أو رمزها)، وفي الصباح وقبل شروق الشمس، وقبل أن يقوم أهل المريض بتقبيله، فدعوه يتناول الدواء، وسَيُشفى حتماً ]. إنتهى.
وعن الخمر في نفس الكتاب تقول معلومةٌ أخرى: [ يعتقد المؤرخون بأن أسوار بابل الشهيرة، والتي تُعتبر من أمنع الأسوار المُحصنة عبر التأريخ، كانت قد سقطت بيد الفرس بسهولة، بسبب خيانة (غوبارو - غوبرياس) محافظ بابل، وليس بسبب التفوق والعمليات العسكرية للفرس. حيث ورد في الأخبار القديمة أن غوبارو هذا كان على إتصال سري بالفرس، وإنه تآمر معهم ضد بابل، وإقترح عليهم أن يُهاجموا أسوار المدينة بعد مُنتصف ليلة رأس السنة البابلية، حيث أباحَ وسمحَ لأفراد حامية أسوار بابل أن يغرقوا حتى آذانهم في مشارب الخمر تلك الليلة، حتى إذا طلع الفجر كان الفرس قد إحتلوا المواقع الحصينة من بابل وأسوارها دون علم أهلها ]. إنتهى.
ولشدة إيمان البابليين بأسوارهم وجيشهم كانوا يتداولون المثل البابلي القائل: "يوم يتمكن الفُرْس من أسوار بابل سيكون ذلك هو اليوم الذي يلد فيه ذكر الجحش".
وبسقوط بابل أُسدل الستار على واحدة من أعظم الممالك وأكثرها حضارةً ونبوغاً في التأريخ البشري، بسبب الخيانة والخمر!!.
الخمرة في الأديان التوحيدية:
وردت الخمرة في الدين اليهودي مرات ومرات، وفي التلمود فالخمرة هي التي إحتفظ بها الرب منذ اليوم السادس للخليقة!، وإن النبيذ يأتي في مقدمة جميع الأدوية، وحين لا يتوفر النبيذ عندئذٍ تصبح الأدوية ضرورية.
وسأختار من التوراة (البعض) فقط من قصص الخمرة:
يقول الكاتِب فراس السواح في كِتابهِ (الرحمن والشيطان): [ فهذا نوح، الأب الثاني للبشرية بعد آدم، والذي وصفته التوراة بأنه "الرجل البار الكامل" يتكشف عن سكير أخرق يُعاقر الخمرة في خِبائهِ ويتعرى من ثيابهِ حتى تنكشف عورتهِ أمام أولاده (تكوين 9: 20-24).
وهذا لوط إبن أخي ابراهيم، يأخذ الخمرة من يد إبنتيهِ، ويشرب حتى يفقد وعيه، فتقوم أبنته الكبرى بمضاجعتهِ في الليلة الأولى، ثم تفعل أختها الصغرى الشيئ نفسه في الليلة التالية، وتحمل البنتان من أبيهما ... الخ القصة (تكوين 19: 36-38) ] إنتهى.
أما في المسيحية فأغلبنا يعرف كيف حوَلَ المسيح الماء إلى خمر في إحدى اعاجيبهِ!. كذلك ورد في إنجيل متى وعن لِسان السيد المسيح قوله: أقول لكم: لا أشرب بعد اليوم من عصير الكرمة هذا حتى يأتي يوم فيه أشرب معكم خمرة جديدة في ملكوت أبي. والمسيح شرب الخمرة في مناسبات متفرقة: (يوحنا 2: 1- 11)، و (متى 29:26)، ومعلومٌ أنه في زمن المسيح لم يكن الماء نقياً وصحياً، لِذا لجأ الكثير من الناس لشرب الخمر بدل الماء. والإنجيل (العهد الجديد) ينهي عن (السُكر) بالخمر، ويجمع بين السكير وأشر الخطاة. مع هذا فالمسيحية لم تُحرم الخمر ولم تعتبر شرب الكحول خطيئة، لكنها إعتبرت السُكر والإدمان والشراهة في شرب الخمر أمور غير مُستحبة ومرفوضة (أفسس 18:5) و (كورونثوس 12:6)
وكانت الأديرة الكاثوليكية خلال العصور الوسطى تستخدم النبيذ بإنتظام في مختلف العلاجات الطبية ، وكانت العلاقة وثيقة جداً بين النبيذ والطب لدرجة أنه تم كِتابة أول كِتاب عن النبيذ في القرن الرابع عشر على يد الطبيب ( أرنالدوس دي فيلانوفا) .
أما خمرة (الفردوس الأفرامي) فهي لا تقل جودة عن خمرة الجنة القرآنية، ومن يمتنع عن شرب الخمرة على الأرض ينالها في الفردوس بسخاء: [ من صام عن الخمر زاهداً، هَفَت إليه دوالي الفردوس واحدةً فواحدة تُنيلهُ عنقودها ].
في الإسلام كان محمد والقرآن متشددين جداً في نظرتهم تجاه الخمرة، فهي: “رجسٌ من عمل الشيطان” 5\90، وهي: “إثمٌ كبير”2\219 ، وتوقع بين الناس “العداوة والبغضاء” 5\91، ويذكر كِتاب (سنن أبي داود) إن نبي الإسلام محمد لعن الخمرة بقولهِ: “لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها”. كذلك قول القرآن: “لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون”. كذلك قول القرآن: “يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما”، وفي آية أخرى: “يا أيها الذين آمنوا إنما الخمرُ والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فإجتنبوه لعلكم تفلحون”…. الخ من التحريمات
وقد أشار العالِم (إبن سينا) في القرن الحادي عشر الميلادي إلى أن النبيذ يُساعد على الهضم، لكن إستخدامات النبيذ إقتصرت فقط على التطهير عند تضميد الجروح طبقاً للقواعد الإسلامية.
أما الكاتِب صادق جلال العظم فيقول في كِتابهِ (ما بعد ذهنية التحريم): [ شرب الخمر عادة منتشرة في معظم بلدان الوطن العربي الإسلامية، وهي عادة قديمة لم يستطع الإسلام إقتلاعها ].
الخمرة في الشعر العربي:
قيل في الخمرة آلاف وربما ملايين الأبيات والقصائد الشعرية في كل لغات العالم، لأن الشعر مقرونٌ دائماً بالخمرة، وفي الخمريات العربية لم يعرف الناس شاعراً قال في الخمرة أكثر وأجمل مما قال أبو نؤاس. ومن أقوالهِ: ( الخمر ثلاثة عناقيد: عنقودُ إلتذاذ، وعنقودُ سُكرٍ، وعنقودُ عربدة ). ومن أشعار الخمريات لأبي نؤاس:
دَع المساجد للعباد تسكنها ….. وطُف بِنا حول خمارٍ ليسقينا
ما قال ربك: ويلٌ للذين سَكروا ….. ولكن قال: ويلٌ للمصلينا
كذلك قال:
دَع عنكَ لومي فإنَ اللومَ إغراءُ ….. وداوني باللتي كانتْ هيَ الداءُ
صفراءَ لا تنزل الأحزانَ ساحتها ….. لو مَسَها حجرٌ مَسَتهُ سراءُ
رقتْ عن الماءِ حتى ما يلائمها ….. لطافة وجفا عن شكلها الماءُ
أما أشهر أشعار أبو نؤاس في الخمرة فكانت:
ألا فإسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ ….. ولا تسقني سِراً إذا أمكن الجهرُ
وبُح بإسمِ من تهوى ودَعني من الكِنى ….. فلا خيرٌ في اللذاتِ مِن دونِها سِترُ
فعيشُ الفتى في سكرةٍ بعد سُكرة ….. فإن طال هذا عندهُ، قصر العمرُ
وما الغُبنُ إلا أن تراني صاحياً ….. وما الغُنمُ إلا أن يُتعتعني السُكرُ
وقال الأخطل في وصف السكران:
صَريعُ مُدامٍ يَرفَعُ الشَربُ رأسَهُ ..... ليحيا وقد ماتت عِظامٌ وَمَفصِلُ
نُهاديهِ أحياناً وَحيناً نَجُرُهُ ..... وما كادَ إلا بِالحُشاشَةِ يَعقِلُ
إذا رَفَعوا عظماً تَحامَلَ صَدرُهُ ..... وآخَرُ مِما نالَ مِنها مَخَبَلُ
أما المنخل اليَشكري -من شعراء الجاهلية- فيقول:
ولقد شربتُ من المُدامةِ ….. بالصغير وبالكبيرِ ( قدح صغير وقدح كبير )
فإذا إنتشيتُ فإنني ….. رَبُ الخوَرنَقِ والسَديرِ
وإذا صَحَوتُ فإنني ….. رَبُ الشُوَيهةِ والبَعيرِ
ومن الشعر الظريف قول يحيى بن زياد الحارثي:
أعاذلُ ليتَ البحرَ خمرٌ وليتني ….. مدى الدهر حوتٌ ساكنٌ لجة البحرِ
فأُضحي وأُمسي لا أفارقُ لجةً ..… أُروي بها عظمي وأشفي بها صدري
طوالَ الليالي ليس عني بناضبٍ ..... ولا ناقصٍ حتى أُساق إلى الحشرِ
ومعلومٌ أن الخَلَ والخمر كلاهما يخضع لعملية التخمير، ولكن … سائل النبيذ يُعامَل بطريقة خاصة فيتحول إلى نبيذ، وإذا تُرِكَ على حالهِ يصبح خَلاً. وفي هذا قولٌ لشاعرٍ لم أتوَصل لإسمه ينطبق على الوان الناس الذين هم كلهم من الأصل البشري!، يقول فيه:
لكنما الخَلُ مثل الخمرِ من عنبٍ ….. هذا حقيرٌ، ولكن ذاكَ مُعتَبرُ
حكايات مختلفة عن الخمر والسُكرْ:
حكاية # 1
يقول كتاب الأغاني للأصفهاني بأن الوليد بن يزيد بن عبد الملك سأل أحد ندمائه وهو شُراعة بن الزندبوز
الوليد: كيف علمك بالأشربة؟.
شراعة: ليسألني الأمير عما أحب.
الوليد: ما قولك بالماء؟.
شراعة: هو الحياة، ويُشركني فيه الحمار.
الوليد: فاللبن؟.
شراعة: ما رأيتهُ قط إلا ذكرتُ أُمي فإستحييتُ.
الوليد: فالخمر؟.
شراعة وقد تبسم: تلك السارة البارة، وشراب أهل الجنة.
حكاية # 2
كانت قبيلة خُزاعة قد ملكت مكة دهراً طويلاً، وكان آخر من مَلكَ البيت منهم (أبو غبشان)، فإشترى منه قُصي بن كِلاب مفتاح البيت (مكة) وسدانته وحجابته بزق خمر حين كان الأول مخموراً!، فصارت مكة لقصي ونسلهِ، ولهذا ضَرَبتْ العرب المثل بالمغفل أبي غبشان فقالت: " أخسر صفقةً من أبي غبشان ".
وفي سبيل طرد خُزاعة من مكة، كان قصي بن كلاب قد آلف القبائل في مكة وقرشهم تقريشاً، ومنها جاءت تسمية قُريش، ومعناها: التأليف والجمع، حيث الَفَ القبائل ضد خزاعة، وأخرجهم عن الحَرَم وعن مكة الحجازية.
حكاية # 3
الأول: خلال السنوات الماضية كنتُ أخجل لدرجة الموت من كوني سكير ومُعربد!.
الثاني : رائع إنك عرفت عيوبك، وهل أقلعتَ عن الخمر؟.
الأول: لا طبعاً، لكنني أقلعت عن الخجل!.
حكاية # 4
قال أحدهم: مرَ بنا سكران فسلم علينا، فلم نرد عليهِ، فقعد يبول في وسطنا!، فصرخنا به: وَيحكَ يا رجل .. ما تظنكَ تفعل؟، أجاب: ما ظننتُ أن هاهنا أحداً!.
حكاية # 5
تقول بعض الكتب بأن نوح حمل معه في سفينته نبتة الكرم، وزرعها بعد نهاية الطوفان، وقام (سامائيل) الملاك الساقط بسقي جذور تلك الكرمة بدم حمل مذبوح وأسد وخنزبير وقرد، وأخبر نوح بما تفعله الخمرة بالإنسان، ففي الكأس الأولى يكون الشارب كالحمل الوديع، وفي الكأس الثانية يستأسد ويحاول حراش كل من حوله، وفي الثالثة يتوحش ويُوسخ ما حوله كالخنزير، وفي الرابعة يسكر تماماً ويبدأ بالتصرف كالقرد في كل أفعاله وأقوالهِ.
حكاية # 6
في كِتاب (المستطرف الجديد) للكاتب هادي العلوي فقرة تحت عنوان: (المسلمون بين الخمر والخنزير): [ في مائدة أُقيمت للوفد البيزنطي إلى بغداد زمن المُقتدر، قُدِمت الخمور وأخذ الجميع يشربون، الضيوف والمُضيفون، بينما لم تتضمن المائدة لحم الخنزير، فسأل الوفد البيزنطي عن السر في كون المسلمين إلتزموا بتحريم الخنزير ولم يلتزموا بتحريم الخمر، فشربوا هذه وإمتنعوا عن أكل ذاك!؟، فرد عليهم (أبو العيناء) وكان حاضراً: لأننا وجدنا بدلاً عن الخنزير في لحوم البقر والغنم وغيرها، ولم نجد بديلاً عن الخمر ].
حكاية # 7
قال لي أحد المعلقين على مقالاتي ذات يوم: في زمن عتيق جداً شاهد الإنسان كيف أن البلبل ينقر التينة وهي على شجرتها قبل هطول المطر، حتى إذا هطل المطر تغير طعم التينة وتَخَمَر، فيأتي البلبل ليشرب منها ويأكل، فيسكر ويُغرد أحلى الألحان وأجملها. ومنهُ تعلم الإنسان القديم تجربة تخمير أغلب الفواكه التي أعطتهُ اللذة ومتعة السُكر.
وذكَرَ لي إبن عمي الكاتب زيد ميشو أنه في مسرحية لدريد لحام قيل لغوار الطوشة بأن الناس وضعوا أمام الحمار سطل ماء وسطل عرق .. ففضل الحمار شرب الماء، أجابهم غوار: لأنه حمار!.
أما صديقي الكاتب والمُفكر الجزائري عبد القادر أنيس فكان قد كتب لي تعليقاً على أحد مقالاتي يقول فيه: الأمن والسلام الإجتماعي كان عندنا في الجزائر بأفض حال عندما كان عدد الحانات يفوق بكثير عدد الجوامع، وعندما كان عدد المخمورين يفوق بكثير عدد المُصلين والمؤمنين!.
وددتُ أن أختم بالقصة أدناه التي تثير الحزن والتعاطف مع رغبات البشر المقموعة:
حكاية # 8
هي عن أبو محجن الثقفي، وكان قد اسلَمَ حينما أسلَمت ثقيف سنة 9 هجرية، وكان شاعراً مطبوعاً من الشجعان البسلاء في الجاهلية والإسلام، لكنه كان من المدمنين على الخمر، وقد جلده عمر بن الخطاب مراراً بسبب السُكر، ثم نفاه إلى جزيرةٍ بالبحر، لكنه هرب منها ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية يقاتل الفرس، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد أن يحبسه، فحبسه.
وإشتد القتال فتوسل أبو محجن بإمرأة سعد أن تحل قيده كي يقاتل، ووعدها بالعودة إلى حبسه بعد المعركة إن لم يُقتَل، فأخذ سيفاً وركب فرساً وقاتل قتالاً عجيباً، ورجع إلى قيدهِ بعد المعركة، وعندما علم سعد بن أبي وقاص مِن إمرأته بالقصة أطلق سراحه. وللشاعر الثقفي هذه الأبيات الجميلة التي خاطب بها ولده:
إذا متتُ فإدفني إلى جنب كرمةٍ ….. تَروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني في الفلاةِ فإنني ….. أخافُ إذا ما متُ أَلا أذوقها
وقيل انه توفي بأذربايجان أو جرجان، وقيل أن من رأى قبر أبي محجن في أرمينية، إنه بين شجيرات كرمٍ، وفتيان من الأرمن يخرجون بطعامهم وشرابهم فيتنزهون عنده، فإذا شربوا، صبوا كأسه على قبرهِ !.
الإفراط في الشرب والسُكر للأفراد والجماعات في كل الشعوب البشرية ربما يكون بحثاً -بصورة غير مباشرة- عن روابط وجدانية بين الشاربين، تجمعهم عبر هروب وقتي قصير من واقع مأساوي اليم لغالبية الناس، مع البحث عن حالة تهتكية صوفية في آنٍ واحد، وإنعتاق من فكرة أنهم مقيدون من قبل قوى ما ورائية تحِد من حرياتهم كبشر.
لِذا من الخطأ وغير العدالة منع الناس عن شرب الخمر، لأنهم إن لم يهربوا من واقعهم عن طريقها فسيهربون بطرق أخرى قد تكون أشد وبالاً عليهم وعلى عوائلهم ومجتمعاتهم من الخمرة نفسها. ولا ننسى أن عادة الشرب هي واحدة من حريات الإنسان، والشرط الوحيد المطلوب من الشارب هو عدم تسلم أية مسؤولية أثناء الشرب، وخاصةً قيادة السيارة.
أما إدعاء البعض بأنهم إنما يحاولون الحِفاظ على أرواح الناس من خِلال محاولة منعهم من شرب المُسكرات، فبرأيي هي مجرد محاولات، حيث تقول الإحصائيات في أميركا مثلاً بأن ضحايا الطرق والسيارات بصورة عامة تساوي أضعاف أضعاف أضعاف ما للخمرة من ضحايا، والسؤال الآن هو: هل سنمنع الناس من قيادة السيارات!!؟.
كذلك لا يخفى على أحد أن للحروب والإقتتال الديني في كل أرجاء العالم اليوم ضحايا أكثر عدداً مما للمخمورين منذ بداية الخليقة ولحد الآن!!!.
أدناه أغاني تركية تُعبر عن فرح الناس وهم يشربون العرق:
http://www.youtube.com/watch?v=4tVLME1-574&feature=share
المجدُ للإنسان.
طلعت ميشو. كاتب وناقد عراقي \ أميركا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1373 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع