د.نسرين مراد
يمتلك صندوق الاقتراع قدرات غير عادية، بل سحرية في خلق الظروف الملائمة للشروع في حروب أهلية؛ تبدأ ومن الصعب أن تنتهي.
في العام 1992 جرّب الجزائريون اللجوء إلى تحكيم صندوق الاقتراع، لحسم الصراع المحتدم على السلطة والثروة الجزائرية. ما إن أظهرت النتائج فوز حزب «جبهة الإنقاذ»، حتى علت أصوات التشكيك والطعن ورفض تلك النتائج.
استعرت حرب أهلية، ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والثكلى والمنكوبين. لم تزل تلك الجراح تؤثر في سير الحياة الجزائرية، خاصةً السياسية منها.
في العام 2003/2004، وبعد إطاحة النظام السياسي العراقي بالقوة الدولية المسلحة، لجأ العراقيون إلى تحكيم صندوق الاقتراع. الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية العراقية، غير ملائمة للّجوء لصندوق الاقتراع على طريقة الديمقراطية الغربية؛ ولو بالحد الأدنى.
منذ العام 2004 دفع العراقيون أثماناً خياليةً فلكيةً باهظةً، في الأرواح والأنفس والممتلكات وخطط التنمية؛ المرحلية والاستراتيجية. بعد أكثر من عقد من السنين، لم يزل العراق يمر خلال نفق مظلم، ولا تلوح في الأفق بادرة توحي بقرب الخروج من تبعات ذلك النفق.
ورغم تلك التجربة المريرة، لم يزل السياسيون يأملون في قدرة صندوق الاقتراع على أن يكون الفيصل الكافي الشافي، بين الأحزاب المتصارعة للاستحواذ على الكعكة العراقية، الفريدة من نوعها!
ما إن توطدت فكرة قبول الربيع العربي في مختلف البلدان والمجتمعات، حتى همَّ الجميع واصطفّوا في اتجاه اللجوء لصندوق الاقتراع. تراوحت حدة الحروب الأهلية في تلك البلدان بين الباردة والساخنة والحادة؛ بالنسبة إلى قدرتها على التدمير والفتك بالمجتمعات والمقدّرات الطبيعية والمكتسبة.
اليمن يعاني انقسامات حادةً بين مختلف الفئات الحزبية والقبلية والعقائدية والديمغرافية. ذلك ما يجعل الاستقرار بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى، خاصة زمن الحكم الدكتاتوري «النيبوتيّ» (نسبةً إلى محاباة الأقارب والأصحاب) السابق.
الأمر ذاته ينسحب على الأنموذج المصري، الذي انقسم فيه الشعب إلى فسطاطين رئيسيين؛ يخشى أن يقودا الحياة هناك إلى فوضى مدنية اجتماعية جارفة، لا تأتي بالتفاؤل على أوضاع ومصير المنطقة.
لا يختلف اثنان على أن الأوضاع في ليبيا وسوريا، وحتى تونس، لا تبشر بكثير من الخير. كل هذه الدول إما لجأت إلى صناديق الاقتراع، أو تود تجريب ذلك. الأوضاع في ليبيا غير مستقرة، تشهد عليها كثافة عمليات الاغتيال والخطف والتمرد، التي تجري دون سابق إنذار.
لا يختلف الحال كثيراً على الأوضاع التونسية، التي تنتشر فيها البطالة والفوضى بشكل يجعلها في حالة من التخبط. يعود ذلك بشكل رئيسي إلى الصراع المحتدم على السلطة، بين الراديكاليين والعلمانيين واللبراليين.
إن لم تحل تلك المشاكل بالطرق السلمية، فالأوضاع قابلة للتأزم والتصعيد والتفجُّر. أما الأوضاع في سوريا فالحديث عنها دائماً يسيطر عليه التشاؤم، بسبب اتساع الهوة بين الأطراف المتصارعة، لحد الحرب الأهلية الشرسة والتوسع في ارتكاب الفظائع وجرائم الحرب.
لا يقتصر الحال فقط على الدول العربية، فصندوق الاقتراع أدى إلى اندلاع حروب أهلية متراوحة الحدة بين الباردة والحادة والساخنة؛ أو كادت الأوضاع تفلت من السيطرة والتحكم. أفغانستان لجأت إلى صندوق الاقتراع، لكنها لا تزال تجثم على صفيح ساخن؛ بسبب عدم قبول نتائج الانتخابات من قبل المعارضة المسلحة، وعلى رأسها حركة طالبان.
الأمر ذاته كاد يحدث في بعض الدول الأوروبية، مثل ألبانيا ويوغسلافيا السابقة، ما أدى إلى حدوث حروب وانتكاسات سياسية إقليمية ودولية. بالكاد أفلتت إيران وتركيا ودول أخرى في أميركا اللاتينية، من الوقوع في حروب أهلية قد تعصف بكياناتها السياسية وتجمعاتها الديمغرافية هشة التماسك والتآلف.
خلاصة القول، إن صندوق الاقتراع يصلح للفصل بين الفئات الديمقراطية الغربية، لكنه ليس بالضرورة صالحاً للعمل بالطريقة نفسها في الدول والكيانات والمجتمعات الأخرى. على العكس من ذلك، قد يصبح ذا آثار مدمرة محلياً وإقليمياً ودولياً، آنياً ومرحلياً واستراتيجياً.
422 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع