جودت هوشيار
هلّل المعادون لتطلعات الشعوب من كل صنف ولون لنتيجة الأستفتاء الذي جرى مؤخراً في اسكتلندا في ظل انقسام عميق داخل المجتمع الأسكتلندي ، حيث صوت حوالي 55% من المقترعين لصالح البقاء في كنف المملكة المتحدة ( بريطانيا واسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية ) مقابل 45% لصالح الاستقلال.
وقال رئيس الحكومة الأسكتلندية وزعيم الحزب القومي الأسكتلندي أليكس سالموند بعد ظهور نتيجة الأستفتاء ، أن المصالح الأقتصادية للشركات البريطانية الكبرى لعبت دوراً أساسيا في تغليب كفة البقاء في ظل التاج البريطاني ، حيث قامت هذه الشركات بحملة دعائية كثيفة ، واسعة النطاق لتخويف الأسكتلنديين من تداعيات التصويت ب( نعم ) للأستقلال .
، كما هددت بعض المؤسسات والبنوك الكبرى، التي تتخذ من العاصمة ادنبرة مقرا لها، بوقف نشاطاتها في إسكتلندا وتحويل مقراتها التجارية إلى العاصمة لندن ، مما يؤدي الى الأستغناء عن عشرات الآلاف من موظفيها الأسكتلنديين .
ولعل من أطرف ما أظهرته نتائج الأستفتاء ان النساء الأسكتلنديات وقعن في فخ هذه الحملة الدعائية وصوتن لصالح البقاء ضمن المملكة المتحدة اما اغلب المقترعين الرجال فقد صوتوا لصالح الأستقلال الناجز .
وينسى هؤلاء المهللون أن اسكتلندا تتمتع بحكم ذاتي واسع الصلاحيات ، لا تتمتع بها بقية أقاليم المملكة .فلاسكتلندا حكومتها وبرلمانها وأنظمتها القضائية والصحية والتعليمية . ويعتمد اقتصاد اسكتلندا على الخدمات والسياحة والبنوك وعلى إنتاج " الويسكي" وتصديره إلى العالم ، كما تقول الـ( BBC ) .
ويتوقع أن تحصل اسكتلندا على صلاحيات سياسية واقتصادية جديدة وواسعة أكثر مما تتمتع به اليوم . فقد صرح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ،انه ملتزم بخطة توزيع السلطات على أجزاء البلاد المختلفة ومنح مزيد من الأستقلالية لأسكتلندا بحيث يكون ارتباطها ببريطانيا أشبه بنوع متطور من النظام الفيدرالي .
.و قال رئيس وزراء اسكتلندا المستقيل أليكس سالموند "بالنسبة لي كزعيم، زمني انتهى، لكن بالنسبة لاسكتلندا حملة المطالبة بالأستقلال ستستمر والحلم سيظل حيا".
وتقول جريدة ( الغارديان ) البريطانية أن الأحزاب والحركات السياسية الأسكتلندية ستعاود المطالبة بالأنفصال عن المملكة المتحدة وأجراء أستفتاء جديد مستقبلاً، لأن تلك القوى واثقة بأن نتيجة أي استفتاء آخر ستكون لصالح الأستقلال ، اذا ما جرى بعيدا عن الحملات الدعائية ولغة التخويف .
مزايا استقلال الأمم :
تجارب الأمم التي أنفصلت عن الدول الكبيرة المتعددة الأعراق والأديان والثقافات تدل ان الدول الناشئة الجديدة سرعان ما تزدهر بعد نيل استقلالها لأن الحجوم الكبيرة للدول بحد ذاتها لا تعتبر ضماناً للنجاح الأقتصادي ، كما كتب الخبيران الأقتصاديان ( دانيال إيكرت و هولغر تشيبيتس) في تحليل نشرته جريدة (دي فيلت Die Welt) الألمانية ، حيث أثبتت نتائج بحوث علمية كثيرة أجريت في هذا المجال ، ان مستوى الرخاء الأقتصادي في الدول الصغيرة أعلى من الدول الكبيرة .
ويقول المحلل الأقتصادي لمصرف ( Credit Suiss ) السويسري ، ريجارد كيرسلي ، ان ثمة علاقة عكسية سلبية بين حجم الدولة ونصيب الفرد فيها من الناتج القومي الأجمالي . .وهذا يعني ببساطة ، انه كلما كان عدد السكان أكبر في هذه الدولة او تلك ، كانت افقر من حيث المبدأ .وهذا الأمر يظهرا جليا في الدول النامية على وجه الخصوص .
المعايير المعتمدة لدى مصرف( Credit Suiss ) لتحديد رفاهية الدول .لا تقتصر على الجانب الأقتصادي فحسب ،بل تأخذ بعين الاعتبار ايضا مستوى التعليم والرعاية الصحية للسكان . ووفق هذه المعايير فأن النرويج تحتل المرتبة الأولى بين دول العالم في الرفاه والأزدهار ، رغم ان عدد سكانها لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة .وتحتل نيوزيلندة بعدد سكانها البالغ 4,5 مليون نسمة المرتبة الثانية
ثم تأتي بعد ذلك – حسب الترتيب - أيرلندا (4.7 مليون)، السويد (حوالي 10 مليون نسمة ) وسويسرا (8 ملايين نسمة).
أغنى الدول من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد هي امارة موناكو مع عدد نفوسها البالغ 36 ألف نسمة فقط ، حيث يبلغ المعدل 159,4 ألف دولار ، ثم ليختنشتاين وعدد نفوسها 37 ألف نسمة ومعدل 139,3 ألف دولار للفرد الواحد، ثم لوكسمبورغ، وعدد سكانها حوالي نصف مليون نسمة ومعدل دخل الفرد 121,4 ألف دولار، وكذلك النرويج وقطر وأبو ظبي. .
أما ألمانيا فأنها تحتل المرتبة 23 في هذه القائمة ، لذا فأن الأصوات تتعالى في اقليم ( بوفاريا ) الغنية مطالبة بالأنفصال عن المانيا .
ويرى كيرسلي، ان الدول الصغيرة أكثر انفتاحا على التجارة الدولية وتتخير لنفسها مكانة اقتصادية متينة بالتخصص في نماذج معينة من التنمية . ويتفق معه في هذا الرأي ( بيتر كليب Peter Klepp) من مركز تحليل السياسة الأوروبية حيث يقول : " ليس لدى الدول الصغيرة خيار سوى البقاء في المنافسة العالمية، والعمل على هيكلة اقتصادها لمتطلبات هذه المنافسة ."
ويضيف قائلاً : يرتفع مستوى الرفاه في الدولة الناشئة حتى في حالة الأنفصال عن دولة كبيرة وغنية، وأفضل مثال على ذلك – سلوفاكيا ، التي كانت الجزء الأفقر في جيكوسلوفاكيا ، وبعد انفصالها عام 1993، ارتفع مستوى المعيشة فيها كثيراً متجاوزا حتى بعض بلدان أوروبا الشرقية الأكبر حجماً .
ولماذا نذهب بعيدا وامام أعيننا مثل صارخ وهو أقليم كردستان الذي حقق خلال السنوات القليلة الماضية وفي ظروف العراق المضطربة ومحاولات حكومة نوري المالكي تضييق الخناق عليه بشتى السبل - ازدهاراً اقتصاديا وطفرة عمرانية غير مسبوقة . وهو اليوم ( الأقليم ) رغم أعباء الحرب الثقيلة ،يعيل أكثر من مليون ونصف المليون لاجيء ونازح من مناطق العراق الأخرى
استفتاء الأستقلال بين اسكتلندا وكردستان :
قبيل أجراء الأستفتاء في اسكتلندة ، أحتشد المؤيدون والمعارضون للأستقلال معا في ميدان واحد في العاصمة ادنبرة دون ان يحدث ما يعكر صفو حملاتهما الدعائية ودون أي احتكاك أو حتى ملاسنة أو جدال بين الطرفين ، كل يرفع الشعار الذي يؤمن به ، وكل واحد يحترم رأي الآخر . وبهذا المعنى وبصرف النظر عن نتيجة الأستفتاء فأن العملية كانت تعبيرا صادقا وعميقا عن الديمقراطية الحقيقية وهذا ما ركزت عليه ملكة بريطانيا في بيانها الموجه الى الشعب عقب ظهور نتيجة الأستفتاء .
وكان موقف الحكومة البريطانية ورئيس الوزراء ديفيد كاميرن شخصياً رائعاً أيضا ، حين بادر الى طرح فكرة أجراء الأستفتاء قبل اكثر من عام ، لتجنب حدوث ما لا تحمد عقباه في اسكتلندة في حالة منع أو معارضة اجراء الأستفتاء الذي طالبت به الحكومة الأسكتلندية والقوى السياسية المتحالفة معها . حيث جازف كاميرون بفقد منصبه واستقالة حكومة المحافظين برمتها ، في حالة التصويت بنعم للأستقلال . كما ان وسائل الأعلام البريطانية التزمت جانب الحياد في تغطيتها للحملات المؤيدة والمعارضة للأستقلال ، التي سبقت يوم الأستفتاء ولعملية الأقتراع نفسها دون أن تنحاز لهذه الجهة أو تلك .
أما في العراق ، فأن أجراء أي نوع من الأستفتاء حول تقرير المصير أو الأستقلال للشعب الكردي- سواء في المناطق المستقطعة من اقليم كردستان أو في الأقليم ككل – لاقى معارضة شديدة من رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، حيث لم يكتف الأخير بمعارضة اجراء اي استفتاء ، بل لجأ الى اجراءات انتقامية ضد الأقليم ومنها وضع العقبات امام تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي وحرمان الأقليم من حصته المالية المقررة دستورياً ومحاولة منع الأقليم من تصدير النفط الكردستاني . هذه السياسة المعادية للشعب الكردي ادت الى توتر العلاقة بين اربيل وبغداد ، وفي الوقت نفسه تعرض الشعب الكردي الى حملات اعلامية مبتذلة شنتها وسائل الأعلام العراقية شبه الرسمية وكذلك الفضائيات والصحف والمواقع الألكترونية الممولة من ميزانية الدولة والتي تدعي الأستقلالية لذر الرماد في العيون .
الأمل معقود على حكومة الدكتور حيدر العبادي لحل المشاكل العالقة بين أربيل وبغداد خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمر حكومته ، ولكن عليه أولاً أن ينزع عباءة حزب الدعوة وينبذ النهج الكارثي لسياسة المالكي اذا كان يرغب حقا في أخراج العراق من محنته الحالية. وعلى من يريد الحفاظ على استقرار العراق وتقدمه اللجؤ الى لغة الحوار ومنطق العقل ومنطق الديمقراطية ، بدلاً من مطالبة الأقليم بالتخلي عن أجراء الأستفتاء المنشود لأن الأمر يعود أولاً وأخيراً الى شعب كردستان الصامد الصابر..
جــودت هوشيار
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
329 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع