بقلم / طلال معروف نجم
تقدمة
ــــــــ
كان هذا في شباط "فبراير" عام 2001 , زرت خلالها دولة الامارات العربية المتحدة للمرة الثانية. ودهشت لنو أمارة الشارقة عما رأيته في الزيارة الاولى، عمرانيا وحضاريا والأهم ثقافيا.
وأكتشفت ان وراء هذه النهضة الثقافية ، شيخ الأمارة الدكتور والأديب والشاعر والكاتب المسرحي سمو الشيخ سلطان القاسمي. كان وقتذاك يقام مهرجان ايام الشارقة المسرحية . سعدت بلياليه العشر.وفي ليلة الأفتتاح قدمت مسرحية "الواقع صورة طبق الأصل" من تأيف سمو الشيخ وأخراج المخرج العراقي قاسم محمد. أعترف بأنني دهشت من أمارة نمت هذا النمو فوق الرمال. ومن أمير عربي يعد اول
حاكم عربي يحمل شهادة علمية غير فخرية من أهم الجامعات الامريكية. فكتبت مقالة ودفعت بها الى صحيفة "الخليج" التي تصدر في الشارقة. فوجئت بزميل صحفي وروائي عراقي يعمل في الصحيفة يعمل على حجب نشرها بحجة ان سمو الشيخ لايحب المديح. فأجبته بأني لم أنشد المديح بل الأطراء. وبين المديح والأطراء بون شاسع. كما أردت من مقالتي هذه أن أقارن بين الشارقة وعواصم الحزن التي هي أقدم منها بآلآف السنين.
نص المقالة :
قرأت بأنها حظيت بلقب عاصمة الثقافة العربية من قبل اليونسكو. هنا تذكرت دور القاهرة وبيروت وبغداد ، واسترجعت مقولة الدكتور زكي مبارك الشهيرة " القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ" وأقسم بأنني أستكثرت هذا الأسباغ وما أن تواجدت قليلا من الايام، حتى ذهلت لكمية المساحات المزروعة. ومستطيلات الزهور التي حلت محل الرمال المتحركة. وأبراج البنايات التي تسامق السماء. وشبكة الشوارع الفارهة. والأرصفة الرحبة التي لاتضيق بالمارة. والذي زاد من اعجابي كثرة المكتبات. وما مهرجان ايام الشارقة المسرحية ألا خير دليل على ذلك. فما كان مني الا وأن عدت
الى مقولة الدكتور زكي مبارك ولكن لأستخدمها بما يخدم الحال الذي انا فيه وأقول " أذا كانت ابوظبي عاصمة السياسة الرصينة والهادئة. ودبي عاصمة المال ورجال الأعمال. فحقا الشارقة عاصمة الثقافة والفنون".
*
كنت واحدا من حشد كبيرحضر حفل أفتتاح ايام الشارقة المسرحية، الى جانبي صديق بادرني السؤال قبل أن يبدأ عرض مسرحية الأفتتاح " الواقع صورة طبق الأصل" .
ــــ هل حقا ان الشيخ سلطان هو من كتب المسرحية ؟.
أجبته بحدة
ــــ نعم ولم لا؟
بادرني بأستغراب .
ــــ ألم تخبرني يوما بأن جل الحكام العرب هناك من يكتب لهم حتى خطبهم .
قلت له
ــــ نعم
وأضفت قائلا
ــــ لكن هذا الشيخ الجليل ولد عاشقا للشعر والأدب والتأريخ ، بدليل ان مسرحياته أطلالة على مجد العرب التليد. ويقضي ساعات طويلة في مكتبته الخاصة يقرأ بنهم وجدية.
*
هنا ساد الصمت ، ليعلن عن بدء العرض المسرحي لمسرحية " الواقع صورة طبق الاصل"، نأليف سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي. هي دعوة من المؤلف لاستقراء التأريخ العربي, وأخذ الحكم والدروس منه. فما قدمه في مسرحيته السابقة "القضية"، من صراع على السلطة بين أمراء الطوائف أيام الأندلس، وما جر من ويلات وضياع للفردوس العربي الى الأبد، نراه في مسرحيته الجديدة "الواقع صورة طبق الاصل" يدعو من خلالها الى وحدة الأمة العربية ، وسعيها الى النضال من اجل طرد اليأس والبلوغ بها الى واقع التوحيد.
*
أعترف بأني أنسلخت عن الواقع وقتذاك، وانا بين النظارة. ذهبت بعيدا الى الوراء ، سبرت غور التأريخ المجيد، تذكرت هرون الرشيد ومجالسه الأدبية والشعريه وتكريمه للمبدعين. وتذكرت المأمون وميزانه الشهير، الذي يزن به الكتب ليقيّمها بالذهب مهما ثقلت هذه الكتب. منهم من أرتقى مجد الخلافة كالشاعر بن المعتز. ومنهم شعراء ظفروا بالوزارة من امثال بن زيدون. كما تذكرت مجالس سيف الدولة الحمداني وشاعره المقرب الى قلبه شاعر العربية الخالد المتنبي. تذكرت وتذكرت وأنا أحاكي حزن الشيخ سلطان القاسمي على حالنا . فاليوم ماذا نقول وقد قفز الى دست السلطة في
دولنا العربية الحكام العساكر؟. لاهين بكراسيهم عن حب الشعر والثقافة. ومنهم من لايجيد حتى لغته العربية. فغابت شمس الثقافة والشعر والأدب عن عواصم عربية كانت يوما مركزا لهذه الفنون. هنا أعود الى مقولة دكتور زكي مبارك لأقلبها رأسا على عقب واقول " ما عادت القاهرة تكتب وصدأت مطابع بيروت وفرغت جيوب البغداديين فلم يعد بمقدورهم شراء كتيب . لابل راحوا يبيعون أمهات كتبهم النفيسة على ارصفة شارع المتبي الشهير" . حتى لكأنني شعرت بأن تأوهاتي راحت تمزق هسيس الصمت الذي خيم على النظارة. فسقط نظري الى الصف الأول من المسرح، ارقب الشيخ القاسمي فلم
أجده يتململ في جلسته البتة. يرقب الى ما يجري على خشبة المسرح. هنا تنفست الصعداء آنذاك قلت في سري" هاهو هرون الرشيد جالسا بين الصفوف لابل المأمون سيزن كل عمل راق بميزانه الشهير".
*
هاهم حكام الكلمة والشعر والثقافة يبعثون من جديد، في شخص الشيخ القاسمي.عوائد أمارته من النفط والغازوضفها في مكتبة ومسرح وجامعة ، وأبى ان يشترى بها دبابة او طائرة حربية او غواصة.
*
أكتشفت وانا أتجول في أمارة الشارقة ، انها المدينة العربية الوحيدة التي لم أقرأ على جدران بناياتها او قصورها العبارات المستفزة مثل " ممنوع المرور" او " ممنوع الأقتراب ". ولم أفجأ بشرطي يصرخ بوجهي قائلا "هويتك" . كنت اعود في ساعات متأخرة من الليل كل يوم وأمر بقصر الأمارة، وأمرر بأناملي على جدار سوره على مشاهد من جنود الحراسة، ظنا مني بأني سأسمع عبارة " قف". ولم ألحظ سيارات لشرطة خافرة. بل كنت أشاهد بستاني يعتني بمستطيلات الزهور يسقي ويشذب مساحات العشب الأخضر. هي المرة الاولى التي أجد نفسي في مدينة عربية ولايمتلكني الخوف. وانا المواطن
العربي القادم من مدن الخوف الرهيبة.
*
أذا كنا قد تعودنا أن نهتف لحكامنا العساكر بعبارات " أيها البطل .. القائد الرمز .. الزعيم الأوحد."، لايسعني ألا وان أهتف للشيخ سلطان القاسمي بعبارة تليق بتأدبه وثقافته وأقول له .. بخ .. بخ .
1349 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع