إبراهيم الزبيدي
إن من سوء حظ العراق، وكان ينبغي أن يكون ذلك من حسن حظه، أن يقع محصورا بين جارتيه الكبرييْن، تركيا وإيران. وهما قلما كانتا متصافيتين.
وكان طبيعيا، بسبب ذلك، أن تستباح أرضُ العراق ودماؤهم وكراماتهم في كل مرة تقرر إحدى الجارتين عبور أراضيه لقهر جارتها، غير عابئة بما يصيب سكانه المحايدين من كوارث. فمرة تحتله جيوش الفرس، وتارة جيوش بني عثمان. وبين هذا وذاك وجد سُنة العراق أن حمايتهم من الفرس (الشيعة) لن تتحقق إلا بالاتكال، روحيا وطائفيا وثقافيا، على العثمانيين السنة. والشيء نفسه حدث مع شيعة العراق الذين استجاروا بأبناء طائفتهم الإيرانيين، طلبا للحماية من العثمانيين.
ولكن الذي أحدثه الاحتلال الأمريكي للعراق أنه لم يحافظ على وحدة الوطن وشعبه، واختار، قاصدا أو غير قاصد، تسهيل مهمة الإيرانيين في العودة إليه، لتبدأ حروب جديدة، باردة وساخنة، تمكنت إيران وحلفاؤها العراقيون والعرب، وتركيا وحلفاؤها وأتباعها العراقيون والعرب، من جعلها ترتدي ثوب الطائفية، بعد أن كانت قومية خالصة.
ولا ينكر أن قسوة صدام حسين وطائفية التنظيمات السنية الدينية والعسكرية والسياسية العراقية، وفي مقدمتها المراجع الدينية والعشائرية وبقايا البعثيين القوميين المتشددين، أجبرت الشيعة العراقيين العرب إلى معاونة الإيرانيين على احتلال بلدهم، أو السكوت عنه، بأقل تقدير، حتى وهم غير راضين وغير فرحين، على مرارته على كثيرين منهم.
أما سنة العراق العرب، غير البعثيين وغير الطائفيين المرتبطين عقائديا أو مصلحيا، فقد وجدوا أنفسهم ساحة مفتوحة يتقاتل عليها الجميع، ويدفعون ثمنها الباهض، دون ناصر ولا معين. فتركيا أردوغان التي يزعم الإيرانيون أنهم في العراق لتحريره من العثمانيين لا تمنحهم الحماية من إيران، بل تحاول أن تجعلهم خدما لطموحاتها ومخاوفها القومية التوسعية، كما يفعل الإيرانيون. أما دول العرب القادرة على حمايتهم فلم تفعل لهم شيئا ذا قيمة.
وحين يصرح علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، بأن "إيران اليوم أصبحت امبراطورية، كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي" فإنه ينسى بشكل مريع دروس التاريخ والجغرافية تماما.
تماما كما دفع غرور القوة بالجنرال غورو عندما دخل دمشق منتصراً بعد معركة ميسلون الشهيرة، إلى زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي ليقول مخاطباً: "ها قد عدنا يا صلاح الدين!" في واحدة من أشهر فلتات اللسان التي وقع فيها زعيم غربي في العصر الحديث. ثم رحل غورو ورحلت جيوشه الجرارة المنتصرة وأصبح نموذجا في التاريخ لقلة العقل عمى البصر والبصيرة.
فعبر التاريخ الموغل في القدم كان العراق دائما نقطة انطلاق من إيران نحو الغرب، أو من الغرب إلى داخل الامبراطورية الفارسية ذاتها. ولكن جميع تلك الاحتلالات المتبادلة لم تصمد، حتى لو طال بها الزمن.
وفي كل مرة كان أباطرة الفرس يحتلون العراق ويجعلونه قاعدتهم المتقدمة كانت تأتي قوة أخرى قاهرة لا تكتفي بطردهم منه، بل تعبر منه إلى عقر ديارهم، فتهد قلاعهم وتستعبد رجالهم وتسبي نساءهم وتوزع أسلابهم على جنودها الغزاة.
وهكذا كانت العلاقة بين العراق وإيران، منذ بابل وسومر وآشور، ثم الفتح الإسلامي، وصولا إلى مغامرات الامبراطورية العثمانية الأخيرة في مملكة فارس، نادرا ما كانت تشهد فترات صفاء مستقرة وثابتة كما ينبغي أن تقوم بين شعبين متجاورين ومتشابهين في المشارب والطبائع والثقافة والدين.
مع الإقرار بأن لجماهير البلدين مصالح متبادلة متشابكة لا تنفصم، ثابتة وراسخة، مهما كان وضع العلاقة بين حكام البلدين. فإن صار أؤلئك الحكام إلى وئام كانت تلك المصالح والمنافع تزدهر بلا حدود، وإن صاروا إلى خصام واحتراب كانت تلك المصالح والمنافع تنكسر، وبلا حدود، أيضا.
ومن المفهوم والمتوقع أن تسكت الجماهير العراقية، على مضض، ولا يصدر عنها ما كان يصدر في الأزمنة السابقة من استنكار واستنفار، لردع صاحب هذا التصريح العدواني الخطير، نظرا لاختلال موازين القوى وهيمنة السطوة العسكرية لإيران وحلفائها العراقيين.
ولكن المسألة المريبة والمعيبة، بعد صدور هذا التصريح المليء بروح التعالي والعنجهية وغرور القوة، أن أحدا من الطبقة العليا السياسية العراقية الشيعية العرببة لم يستنكر، ولم يأنف، ولم تنهض فيه حمية وطنية كانت مؤملة ومنتظرة منهم، لطول ما دوخ الدنيا بالحديث عن العدل والكرامة والمظلومية.
وإذا كان هؤلاء محكومين بمواقف أحزابهم وتنظيماتهم السيايية والثقافية والطائفية المتطامنة مع نظام الولي الفقيه، وتشابك مصالحها الحزبية مع مصالح الدولة الإيرانية، فليس مفهوما ولا معقولا سكوت قادة التمثيل السني في السلطة العراقية المبعثرة.
هل غضب منهم أحد؟ وهل تخلى عن منصبه وراتبه ومخصصاته واحد من السنة العرب المتحاصصين في الحكومة والبرلمان؟
وحين يقف قاسم سليماني في المكان الذي دفن فيه صدام، حتى وإن لم يجده هناك في انتظاره، فإن هذا تصرف واحد قصير نظر وقليل قراءة للتاريخ، لأنه ينسى، ومعه مستشار الرئيس الإيراني وباقي الملالي المتعصبين في طهران، أن الزمن لا يسمح بولادة امبراطورية قومية دينية طائفية جديدة في المنطقة، لأسباب عديدة منها، بل في مقدمتها أن العالم اليوم تحكمه إرادة دولية محكمة تحتكرها دول كبرى معينة ترفض إعطاء غيرها مكانا فيه.
كما أن هناك عائقا آخر أمام اندفاع المد القومي الفارسي يتمثل في نمو ثقافة الحرية في الأوساط الشعبية في المنطقة، بما فيها إيران ذاتها، وشيوع الفكر التقدمي المعارض لهيمنة الفكر السلفي الديني.
ومع التطور الهائل في وسائل الاتصال العصرية الحديثة أصبحت مهمة أيقاظ الأحقاد القومية العنصرية أكثر صعوبة، وأكثر عرضة للفشل والانحسار.
والمعارضة الشعبية الواسعة الشجاعة التي انبثقت من داخل النظام الديني السلفي الإيراني ذاته تعبير صارخ عن التحولات القادمة في ظروف الطقس السياسي والثقافي والاجتماعي في عموم الإقليم، الأمر الذي يضع نظام السلطة الدينية في إيران أمام تحديات لم تكن في حسابها من قبل.
والشعوب الإيرانية التي تعيش اليوم ضائقة العيش في أغلب مدن إيران وقراها أحقُ بالأموال والجهود التي تنفقها حكومة الولي الفقيه على المكابرة والتوسع المحكوم عليه بالخذلان في النهاية، خصوصا في ظل العقوبات الدولية التي تؤكد التقارير أنها بدأت تفعل فعلها في زعزة اقتصاد إيران وخلخلة نسيجها الاجتماعي، تماما كالذي حدث في العراق أيام الحصار الدولي، والذي ساهم بشكل كبير في انهيار الوحدة الوطنية، وجعل النظام الحاكم السابق هيكلا خاويا أيلا للسقوط، ثم سقط في أيام، ببضع دبابات أمريكية لم تجد من يردها عن بوابة القصر الجمهوري، ليبدأ عصر السقوط الجديد للدولة العراقية، وليس لسلطة الحاكم الديكتاتور وحدها.
ماذا سيحدث في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن وغيرها حين تتم هزيمة داعش وتسقط الذريعة التي تستخدمها لتحقيق الاحتال الكامل للعراق؟ ألن تبدأ حروب استنزاف واسعة مكلفة ضد إيران في العراق وسوريا واليمن، يجتمع فيها الأخضر واليابس، العراقي والأجنبي، وكل من يؤجل اليوم حربه اللازمة للخلاص من نظام أتعب المنطقة والعالم، وأغرق الدنيا كلها بدخان القنابل والمفخخات والمليشيات وديكتاتورية العقيدة الواحدة؟
أتكون اندفاعة النظام الإيراني في الخارج، وإعلان مستشار الرئيس الإيراني عن استعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد، وتضخيم دور قاسم سليماني في هزيمة داعش وتحرير تكريت، والترويج لصورته وهو يدخل العوجا، وتكريت بالذات، مقصودة، واضطرارية من أجل تعويض الشارع الإيراني عن السلاح النووي الذي أنفق النظام عليه مئات المليارات من الدولارات، خوفا مما قد يسببه رضوخه للغرب (الإستكباري) من جروح عميقة في الكرامة القومية الشعبية الفارسية التي قد تفعل فعلها في زعزعة أمن النظام وتهديد مستقبله، على حد سواء؟
569 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع